لم يكن يشبه أبناء جيله، فقد كان يحمل في عينيه وعدا لا يخصّ عمره، وحلما لا يخصّ بيئته. واليوم، حين يغنّي وحين يعزف فيكفيه أن يغمض عينيه ليستحضر كل شيء: الجبال، الوجوه، بوح الصدق، أنين الشوق ... فتبدو موسيقاه وكأنها تشفي الجرح بنغمة. حين جاء إلى جبل سمّامة في تونس، لم يشعر بالغربة. شيء ما كان مألوفا: الملامح النبيلة، الحنين الدفين بين الصخور وفي الصدور، الصمت الذي لا يخيف بل يحتضن. وقف هناك، على ربوة صغيرة في سمّامة، ومدّ يده إلى آلته. عزف مقطوعة قصيرة… فردّدت الجبال صداها. ابتسم محدثا نفسه في سرّه: لقد فهمت... إنّ تونس مثل "هونزا"، لها جبال تُنصت !
إنّ لقاء الجبال مابين هونزا في باكستان وسمامة في تونس لم يكن صدفة. بل كان وعدا قدريا بلقاء فني فريد جمع بين وطنين كعناق صامت بين ذاكرتين.
الموهبة التي مشت طريقها خلسة !
هي حكاية عن صمود يأبى الاستسلام، وحلم مشى على الأوتار حتى بلغ المسارح الدولية.بين أحضان الجبال الشاهقة في شمال باكستان، وفي قرية صغيرة بمنطقة "هونزا" وُلد "نياز هونزاي" عام 1986. كان قدَرُه أن يأتي إلى هذا العالم بإعاقة جسدية، لكنّه قرر منذ الطفولة ألا يجعل من ذلك سجنا، بل بوابة للتحليق خارج المدارات. لم يعرف نياز يوما الشعور بالعزلة أو النقص. فالمجتمع الذي احتضنه، بكل بساطته، منحه طاقة نفسية قلّ نظيرها. فأهله وجيرانه لم يعاملوه يوما كمختلف، بل كمن يملك طموحا استثنائيا وربما سمعا شفافا وحواسا تصادق الجمال. في سنوات المراهقة، بدأت ملامح شغف خفيّ تظهر على نياز. لم يكن يمتلك الأدوات، لكنه امتلك العين المُحبة والأذن المُرهفة. فكان يراقب عازفي القُرى في حفلات الزفاف والمناسبات الشعبية، يقلد حركاتهم، يحفظ نغماتهم، ويتخيّل نفسه في أماكنهم. شيئا فشيئا، بدأ يجمع المال ليشتري آلات موسيقية بسيطة، يخفيها في غرفته، ويعزف عليها سرّا بعد المدرسة. كان يدرك أن عائلته تُفضل أن يتفرغ لتعليمه، لكنه لم يستطع مقاومة نداء الموسيقى حين تنادي أعماق الروح.
كان أصدقاء القرية والمدرسة الذين رافقوه في لحظات الطفولة، هم جمهوره الأول. كانوا يأخذونه إلى المروج الخضراء، حيث يطلق "نياز" العنان لصوته وآلاته. ومن تلك العروض الارتجالية البسيطة، بدأت موهبته تتخذ ملامحها الأولى.
من الهواية إلى الشغف المتجذر والمتجدد، سرعان ما بدأ "نياز" يشارك في فعاليات محلية، ثم في مدن أكبر مثل إسلام آباد ولاهور، حيث أُتيحت له فرصة العزف في مناسبات وطنية وحفلات دبلوماسية وسهرات ثقافية. واليوم، يدرّس نياز الموسيقى في مدرستين دوليتين بمدينة لاهور. كان نياز قد بدأ يشق طريقه الفني في باكستان، حين لمع اسمه في العالم من سماء لم يتوقعها: تونس.
من سمّامة إلى إسبانيا… وتونس هي الجسر
أمام عزف الأوتار تسقط الخرائط وتصمت الحواجز وتتضاءل فوارق اللغات... وبفضل الحظ الجميل حدث التحوّل الجوهري في مسيرة "نياز هونزاي" الذي جعله يعبر من جبل إلى جبل ليكون صوته جسرا بين باكستان وتونس، بين هونزا وسمّامة... إذ شاهده بالصدفة الفنان التونسي ومدير مهرجان عيد الرّعاة عدنان الهلالي عبر مقطع فيديو يعزف بإحساس خالص، فأعجب بصدقه الفني وصوته العذب، وقرر دعوته للمشاركة في عيد الرعاة لسنة 2023. كانت تلك أول تجربة دولية لنياز، لكنها كانت كافية ليضع قدمه على خريطة الفن عبر دول العالم. ومن هناك، ولدت قصة صداقة متينة بين الفنان الباكستاني نياز هونزاي والفنان التونسي عدنان الهلالي، وتطورت لاحقا إلى تعاون فني وثقافي مستمر. وفد نياز إلى تونس كفنان محلي، وغادرها كنجم، فمباشرة بعد عيد الرعاة في سمّامة تمت دعوته للمشاركة في عرض فني في إسبانيا.... لكنه بقي وفيا إلى تونس، حيث شعر لأول مرة أن موسيقاه مفهومة على مستوى عاطفي وثقافي. وفي عيد الرعاة لسنة 2026، يستعد نياز هونزاي لتقديم مشروع فني من قلب باكستان إلى روح سمّامة يكتب فصلا جديدا في ملحمة الجبل.
من الربابة إلى البيانو: نياز يعزف الحنين
لا تُفهم موسيقى نياز بمعزل عن فهم ما تحمله آلاته من روح وهوية. فهو لا يعزف على أدوات موسيقية فحسب، بل يُحيي بها ذاكرة قرى الجبال، وتقاليد شعب صامت يتحدث عبر النغم. يعزف نياز على أكثر من آلة بمنتهى البراعة كمن يطارد نور الشمس دون أن يفقد هو نار الشغف ودون أن تنطفئ إشراقة الشمس.
بحنوّ يضم الفنان نياز آلة "الدمبورا "، وهي آلة وترية تقليدية من تشبه العود في شكلها البدائي، لكنها أكثر خشونة وأقل زخرفة. وبين يديه تتحول إلى سيمفونية من الأحلام.
وبحنين يمسك نياز بآلة "الربابة" التي تلقب بـ"ملكة الآلات" في باكستان وأفغانستان ليعزف على أوتار معدنية نوتات عميقة وهادئة، لكنها محمّلة بالعاطفة.
وبحنان تحتضن أنامل نياز آلة الناي الباكستاني حيث يصبح صوته هواء صاف ينساب كنسمة الجبال، وكأنين الروح المشتاقة للحب والتواقة للجمال.
أما أمام البيانو فيترجم نياز هونزاي لهفة الجبال البعيدة إلى نغمات، وعنفوان الرياح إلى موسيقات ما بين صدى الخطوات وظلال الذكريات. ليس البيانو آلة باكستانية، لكنه أصبح جزءا من مشروع نياز في تونس. على مفاتيحه البيضاء والسوداء، وجد مكانا لترجمة صمت الجبال إلى لغة وجسر: بين العتمة والضوء، بين باكستان وتونس، بين هونزا وسمّامة.
تونس بوابة باكستان إلى المتوسط
ليست الجبال حجارة صامتة بل ذاكرة مرفوعة نحو السماء. وفي لقاء هونزا وسمّامة، لم تكن الجغرافيا هي التي تصافحت بل الأرواح التي تحفظ لحن الأرض في أعماقها. من أثر التجربة التونسية، وُلِدت فكرة إنشاء "متحف موسيقي تقليدي" يضم آلات موسيقية نادرة وتقليدية لأقاليم باكستان، ويكون مساحة حيّة للعروض والتبادل الثقافي. يهدف المشروع إلى جذب عشاق الموسيقى التراثية من كل أنحاء العالم، وتسليط الضوء على ثراء المنطقة ثقافيا وفنيا. برفقة صديقه المستشار السياحي "ممتاز حسين"، يأمل الفنان نياز هونزاي أن يكون هذا المتحف جزءا من مسار سياحي ثقافي دولي، يبدأ من جبال هونزا ولاهور، ويمرّ بتونس، ثم إلى دول المتوسط. ومن أجل تحقيق هذا الحلم أطلق الصديقان نداء دعم مفتوح للمجتمع الدولي، خصوصا من تونس التي كانت الدافع الأول للحلم.
لم يكن المركز الثقافي الجبلي بسمّامة بالنسبة للفنان الباكستاني نياز هونزاي محطة عابرة، بل كانت الموعد الذي لم يكتب في التذاكر، بل في القدر. فيها التقت نغمته بضوء يشبه قلبه وفيها شعرت آلاته أنها تعزف في وطن ثان دون أن تغترب !