ايّ منظومة قادرة على احياء الوحش داخله؟ وهل "قتل الاب" كمنظومة تربوية وفكرية يحوّل الانسان الى كائن متوحش متعطش للدموية والموت؟ هل شوارعنا قادرة ان تثمر وردا؟ اما فقط تمدنا بالشوك؟ هكذا تطرح الاسئلة حول ثنائيتي الوحشية والانسانية في مسرحية "بيناتنا" نص واخراج حازم البوهلالي.
"بيناتنا" صرخة اخرى ضدّ الدموية ونداء متجدد ليكون الفنان صوتا لابناء جيله، من تمثيل نزار الكشو وامنة الغربي وبشير الماجري وحمدي الضيف وحازم البوهلالي، تقني صوت انيس الخشيمي وتقني اضاءة سيف الدين الاديب وموظب ركحي بشير الزغبي وتصميم المعلقة هيكل بن يحى، والعمل الانتاج الاول لشركة "ميروار" للانتاج والتوزيع الفني ببنزرت، تجربة أخرى تثبت رغبة الشباب في انجاز فعل مسرحي متحرر ومختلف.
تماهي التقنية مع المضمون للسؤال عن الصراع الانساني
يحمل المسرحي مشاكل يومه وشواغل وطنه ويلتزم أن يكون صوتا للمسحوقين والحالمين والباحثين عن مساحة للبوح، لتكون الخشبة صوتا للأصوات الحرة الصاخبة والرافضة للموجود، على الخشبة أعيدت كتابة احلام الشباب، وتحوّلت صرخات الانثى في المجتمع الذكوري الى الياذة مقدسة ينصت لها الجمهور ويتشارك معها نفس الوجيعة، الخشبة اصبحت بوابة للحلم، للنقد وللتحرر من ادران الواقع ومحاولة لتفكيك بعض مشاكل الشباب وشواغل المنظومة المجتمعية وهو ما فعله حازم البوهلالي كاتب ومخرج مسرحية "بيناتنا".
العنوان عتبة العمل ومنذ العنوان يضيّق كاتب النص المعاني ويجعل فضاء الاحداث خانق جدا، "بيناتنا" اي بيننا كمجموعة مصغرة، لذلك كانت الحكاية تدور في فلك عائلة من خمسة افراد، الاب وابنائه الاربعة، الاب جسده الممثل نزار الكشو يحضر رمزيا من خلال حذائه الأبيض في اول مشهد، ثم يطل الى الجمهور في المشهد الاخير لمعاتبة ابنائه، انتفاء حضور الاب هو رمزية لغياب السلطة سواء كانت الاخلاقية او القيمية او المجتمعية او التربوية، هذه المنظومة بغيابها سيحدث الانفلات وهو ما سيعيشه الجمهور طيلة سبعين دقيقة من اللعب.
الديكور الاساسي للعرض كان لاقطات هوائية، لان اغلب الأحداث ستكون فوق السطح، هناك حيث اللانسان يمكن أن تحاك المؤامرات ضد البقية، ومع اللعب ستتحول تلك اللاقطات الى جزء فاعل ومؤثر في الاحداث، فبين منظومة الخطأ والعقوبة ستدور الحكاية، ومع كل خطيئة ستعاقب الشخصيات بإشارات هوائية تشبه التماس بين الرعد والضوء وتلك الرجّة تعيشها الشخصية.
عقوبة من قوة غير مرئية، قد تكون الاخلاق او المنظومة الالاهية او الطبيعة، فقط منظومة قوية قادرة على ايقاف التوحش داخل البشر، اللاقطات الهوائية ستكون الشيفرة بين الممثل والشخصية، وكذلك الشيفرة بين الشخصيات في حدّ ذاتها، فمشهد الانتحار مثلا ستعيشه الشخصية حد التناص ولكنّ الاقطات الهوائية تخرج الشخصية من "التخميرة" لتعود الى اصلها وتكمل بقية الاحداث.
صنعت الاضاءة الفارق في المسرحية، الاضاءة بما هي جزء اساسي في السينوغرافيا كانت وسيلة لقراءة الابعاد النفسية للشخصيات، "فالاضاءة تطورت من مجرد اضاءة اشكال على الخشبة الى اضاءة فنية تعبر عن الاجواء النفسية التي تمثل نوعية العمل الدرامي" كما كتب محمد حامد علي، والاضاءة في "بيناتنا" كانت وسيلة لقراءة العمل وفهم الشخصيات نفسيا وفكريا وكذلك جسديا، لانّ الاضاءة ستسلط على الممثل ومنه تسبر اغوار الشخصية ليفهم المتفرج اسباب الصراع وابعاده.
"بيناتنا" عمل مسرحي تونسي الروح، ععبيرة فنية عن مشاكل يومية تعيشها العائلات وصراع متواصل يعيشه الشباب خاصة، محاولة لالتقاط بعض هموم اليومي واعادة صياغتها فنيا لتكون جمالية تقنع المتفرج وتدعوه للسؤال عن مدى التزامه بانسانيته امام تغوّل الوحشية وامتدادها.
احفاد قابيل يواصلون سيرورة الجريمة
أربع شخصيات، متحابة ومتصارعة في الوقت ذاته، في الظاهر يبدو الصراع على الارث والبيت لمن سيكون بعد وفاة الاب او مقتله، لكن ابعاد الصراع اكثر عمقا، هو صراع للبقاء، صراع نفسي متجذّر في البشر حول اثبات الذات وافتكاك اكبر جزء من كلّ شيء، انانية مفرطة ولد بها البشر، هي ميراث قابيل القاتل، فعلى الخشبة جميعهم "قابيل" كلّ منهم يحاول اخذ النصيب الاوفر له، كل يريد انتزاع حياة الاخر تحت مسميات عديدة منها الاخلاق والصورة المجتمعية والعادات والله، فلكل مبرراته تماما كما كان لقابيل مبررا لقتل اخيه.
اربع شخصيات تتصارع، تتحاب، تعيش ازمة نفسية، لكل شخصية أسبابها لتكون بتلك الصفات المزعجة والمقززة، المتديّن موغل في رفضه للاخرين، يرى انّه الاكثر حظوة لانّ الدين سلاحه في مجتمع محافظ، يستعمل كل ما يحفظه من احاديث ونصوص دينية ليكون صوت الله على الارض وخليفته الواحد الاوحد، انانيته سبب من اسباب القطيعة بين الاخوة، فحازم البوهلالي في شخصية المتدين تلبّس الشخصية وتقمص كل متناقضاتها النفسية والجسدية المزعجة، شخصية ظاهرها تقوى وباطنها عنف، انانية وحبّ مفرط فقط لاناه ليكون اصدق احفاد قابيل، مستعد للقتل ليكون هو سيّد كل شيء.
يقابلها في مشاهد مشتركة، شخصية "امير" الاخ الاصغر، يناقضه في الالتزام، عشق الشارع، تعلّم منه كيف يكون، وجّهه الشارع بكل مفسداته وشكّل شخصيته، اخطأ مرة، عوقب بالسجن، لكن المجتمع لا ينسى الخطأ وبقيت وصمة عار تلاحقه وتنبذه، فكبر الوحش داخله واصبح الصراع بين الانسان والوحشية ميزة الشخصية، حمدي الضيف ابدع في التناص مع وجع "امير".
ممثل صادق ومتلوّن مع الالم النفسي للشخصية، ممثل متمكن من الياته الدرامية كان الاكثر اقناعا على الخشبة والاصدق في التماهي مع الشخصية، شخصية مركبة، مزعجة لكنها تكسب تضامن المتفرج في الوقت ذاته، وبينهما تلاعب الممثل بمشاعر المتفرجين، فالشخصية موجودة جدا في المجتمع، هي ضحية لامبالاة العائلة والمنظومة التربوية والنظام العقابي، ضحية المجتمع شكّلها الممثل حمدي الضيف على الخشبة وكتبها بحرفية حازم بوهلال، فهي صدى للعديد من الضحايا في الاحياء الشعبية والمنظومات المجتمعية الرافضة لكل من يخطئ، منظومة تدّعي النزاهة والاخلاق والنظافة في خارجها ومن داخلها هشة، قذرة ومستعدة للقتل فقط لتحافظ على صورتها.
تبدع الشخصيات في تقديم فكرة الصراع وطرحها بشكل مسرحي، الشخصية الثالثة هي الاخرى تحمل تناقضات الظاهر والباطن، ظاهرها مثقف، واع نهل الكثير من الكتب ليكون بتلك الحصيلة العلمية، وباطنها انانية ورغبة في الدم ومحو الاخرين من الطريق وكانّه يحمّل العالم مسؤولية "عينه المفقوعة" بعد تعنيف والده، الشخصية قدمها الممثل بشير الغربي.
تدور أحداث المسرحية حول الصراع بين الاخوة، صراع الارث والبقاء، صراع اثبات الذات امام الاخرين، الثلاث الشخصيات الذكورية المتناحرة تدور حول شخصية رابعة يحاولون السيطرة عليها، الاخت الانثى الوحيدة في العائلة، تحملت المسؤولية لانقاذ اخوتها وحين رغبت في تحقيق امل صغير بالزواج رفض الجميع فقط لاجل الميراث، امنة الغربي الممثلة العارفة بشخصيتها والقادرة على تفكيكها واعادة تركيب وجعها وافكارها تناصت مع " نادية" فبدت حنونة حينا ووحشا كاسرا في مواقف اخرى.
الصراع في مفهومه البشري والحيواني كان الموضوع الابرز لمسرحية " بيناتنا"، صراع هو امتداد لتيمة الجريمة المسيطرة على الانسان منذ بداية الخلق، جريمة ضد الآخر لانقاذ الأنا، على الخشبة كشف ان جميعنا احفاد القاتل، جميعنا مشوّه ولدينا الرغبة الفطرية لللتدمير والقتل، كلّنا قاتل في انتظار الفرصة والوحش داخلنا يمكن ان يستقيظ متى شاء، الصراع بين الوحشية والانسانية جسده الممثلين الذين كانوا جوهر العملية الابداعية.