Print this page

مسرحية "برايف" اخراج غسان بن حفصية بين التفكير والانانية تطرح الاسئلة عن الانسان المعاصر

المسرح فضاء للتجريب واللعب والتجديد،

على الخشبة تتلاقح الافكار بين المخرج والممثلين اللاعبين لتحويل النص الى مشاهد تعبر عن افكار ما وتحوّل لغة الجسد وحركاته الى وضعيات درامية تشد انتباه المتفرج وفي الوقت ذاته تطرح مجموعة من الاسئلة الحياتية والفلسفية احيانا وهو ما يجده المتفرج في مسرحية "برايف" اخراج غسان بن حفصية.

المسرحية اقتباس عن النص الاصلي "ثلاث روايات للحياة" للفرنسية ياسمينا ريزا، من تمثيل سليم الذيب وعبد الكريم البناني وليلى اليوسفي ويسر قلعي ومهدي الكامل، موسيقى وصوت وليد حصير واضاءة لمحرز زيدان.

بين الشخص والشخصية ينصهر الممثلين في عالم من الصدق

المسرح تجريب وعرض "برايف" اخراج غسان بن حفصية وانتاج "تياترو استوديو" كما بمثابة المختبر لتجريب اداء الممثل وكيفية تعامله مع اكثر من شخصية في العمل الواحد، لكل شخصية تركيبتها ومميزاتها النفسية والعاطفية وبنيتها الفكرية واللاعبين او الممثلين يجربونها في اكثر من وضعية فيكون العمل حمّالا لرسائل مختلفة مقدما مشاهد متعددة تنتقل من الواقعية الى العبثية وتمزج الكوميدي بالتراجيدي.
مسرحية داخل المسرحية، تختلف الاحداث المنطلقة من حكاية بسيطة "بكاء طفل يرفض النوم ليلا) تتحوّل مع الحوار بين الشخصيات الى ازمة يطرح من ورائها اسئلة عن ماهية الوجود وقيمة الانسان في هذا الكون وهل وجود الانسان ضرورة ام لا؟ جميعها تنطلق من لقاء صدفة يجمع الشخصيات الاربعة في فضاء عرض واحد لا يتغيّر "قاعة الجلوس" في بيت الزوج "رمزي وحنان".
المكان واحد والشخصيات متعددة، قسمت المسرحية الى ثلاثة مشاهد، في كل مشهد يحدث تغيير الشخصيات، وجميعها تكون في قاعة الجلوس، فالعالم في المناعة رمزي وزوجته المحامية حنان يستقبلان في بيتهما مديره هشام وزوجته اميرة، زيارة فجائية كما يقول الراوي، وعليها تبنى الاحداث وفي كل مشهد تتغير الشخصيات، الرجالية مرة والنسائية مرة أخرى، مع كل شخصية جديدة يتقمصها الممثل تختلف الايات اللعب وكيفية تقمص الشخصية والتناص معها، وإقحامها في مدارات التجديد، ومن منطلق اللعب والتجريب يكون الاداء بين الممثلين.
تصنع التفاصيل البسيطة حكايات موغلة في التراجيديا، من اللاشيء صنعت الكاتبة الاصلية للحكاية ياسمينا ريزا سردية للقبح الانساني والانانية المسيطرة على البشر امام الاخرين، ومن خلال الحوار العفوي في مواضيع سطحية تكشف الشخصيات عن قبحها الداخلي ومدى انخراطها في انانية مفرطة ومحاولة تقزيم الاخرين على حسابها، فشخصية هشام، متكبرة وانانية وتنظر للجميع نظرة فوقية حتى زوجته يلتقط فقط عيوبها واخطائها، اما رمزي فانبطاحي وعاجز عن الدفاع عن افكاره ومواقفه، يرى في مديره سبيله للترقية فتمحى شخصيته امامه وامام زوجته، هو مفكر لكنه يهتم فقط بالقيمة المادية للمقال وليس الجانب الانساني لفعل البحث العلمي، هكذا الشخصيات في المشهد الاول.
ثم المشهد الثاني تتحوّل شخصية هشام الى اكثر تعنتا محافظة على صفة الغرور، بينما تصبح شخصية رمزي اكثر قوة ولامبالية بالاخبار السيئة، وفي المشهد الثالث تصبح شخصية هشام اقل انانية، اقل حدّة في استنقاص زوجته، اما رمزي فيتحول من الضعف الى القوة من الانبطاح الى التساوي مع مديره.

المسرح تجريب وسؤال عن انسانية الانسان؟

كل هذه التركيبات النفسية المختلفة ينتقل بينها الممثلين في مشاهد ثلاث ووضعيات درامية مختلفة يفصل بينها صوت الراوي يخبر الجمهور بنهاية المشهد، عبثية مطلقة تعيش داخلها الشخصيات وتتشارك فوضاها مع الجمهور ومن المشاهد العبثية يتم توليد مواقف كوميدية منها يكشف عن الجانب العدواني داخل كل شخصية، ففي لاوعي الشخصيات الكثير من الزيف يكشف تدريجيا امّا بالخمرة او الهستيريا الكلامية وكأن بالنص يقول اننا جميعنا انانيين، نخبئ الكثير من الزيف وندعي الاخلاق والقيم، فقط موقف بسيط سيكشف العكس وهو ما عملت عليه مسرحية "برايف".
تعمل الاضاءة على الفصل بين المشاهد وكذلك وسيلة لمعرفة ما تخفيه الشخصية داخلها الاضاءة تتحول الى شخصية خامسة في المسرح فهي السبيل ليعرف المتفرج حقيقة كل شخصية خاصة حين يسلّط عليها الضوء قويا اصفر يشبه الزيف، من خلال السينوغرافيا لاعب المخرج شخصياته وتركها عارية امام حقيقتها، جرّدها من زيفها وسمح لها ان تبدو حقيقية جدا في اكثر من مشهد، فالاضاءة في العمل تكاد تشبه "الزوم" تسلط على الشخصية وتكشف اغوارها الداخلية.
"برايف" مسرحية داخل المسرحية، تبادل للأدوار الشخصيات بين الممثلين ومحاولة للتناص مع كل حكاية جديدة، تجريب في اللعب والفكرة، انطلق المخرج من نص كتب بعيد الحرب العالمية الثانية وطوّعه ليكون صالحا لواقع اليوم، لم يغيّر المخرج كثيرا في النص ربما الاسماء وبعض الحكايات لانّ نص "ثلاث روايات للحياة" يسلط الضوء بأسلوب عبثي على انانية الانسان وبحثه المفرط على اناه على حساب البقية.
صراعات يومة نعيشها مع الوقت قد تتحول الى اسئلة وجودية، في المسرحية تطرح اسئلة عن كيف يمكن ان اعيش اليومي؟ هل في حياتنا اليومية نمارس الانانية ام نتصرف بغرور مفرط وانانية مقيتة؟ هل نتعامل مع الاحداث الصغيرة بوعي ام نأخذها كمسلمات دون الانتباه الى تأثيرها على حياتنا ووعينا ومسؤوليتنا في المجتمع؟ هل نعيش بوعي وتفكير؟ اما اننا نجاري اليومي دون انتباه؟ اسئلة عميقة تطرح من مسائل حياتية بسيطة ليكون المسرح افضل حقول التجريب وفضاءات التعرّي من الزيف والانصهار مع الكائنات المفكرة "فالدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح" كما كتب شكسبير.

 

 

المشاركة في هذا المقال