Print this page

مونودرام "ماسح الاحذية" أداء محمد علي العباسي وإخراج حافظ خليفة: بجسد واحد وشخوص متعددة يبحث الممثل عن بقايا الانسانية

يعيش الانسان العربي الكثير من الصراعات النفسية والاقتصادية والثقافية والسياسية، يصارع لأجل افتكاك حقه في الاختلاف، يبحث المثقف عن مساحات ليمارس حرياته وأفكاره التي تراها الانظمة ترفا احيانا،

يبحث الانسان عن انسانيته وكيفية اثبات هويته فينخرط في مسار نضالي حياتي يشبه احيانا صخرة سيزيف كلما اعتقد انّه وصل القمة يعود الى النقطة الصفر هكذا كانت الشخصية الواحدة والمتعددة في "مسرحية ماسح الاحذية" التي قدمها محمد علي العباسي في دار الثقافة سوق الاحد ضمن فعاليات المهرجان الدولي للمسرح في الصحراء بقبلي وافتتاح المهرجان الدولي للمونودرام بقرطاج في المركب الثقافي تطاوين.

المسرحية تعاون تونسي قطري، كتب نصها خالد الجابر واخرجها حافظ خليفة، انتاج شركة جسور للانتاج بقطر ودراماتورجيا لبوكثير دومة وتصميم ملابس امال الصغير وموسيقى تصويرية زياد الطرابلسي واضاءة جلال مصدق وصمم الهندسة الرقمية للعرض نور جلولي وقيافة وماكياج مفيدة المرواني ومساعد مخرج رؤى القلعي والعمل رحلة تشظّي في ثنايا الانسانية المسروقة والقيم المفقودة.

ممثل واحد يتلوّن في شخصيات متعددة

موسيقى هادئة، اضاءة صفراء تميل الى العتمة، شخصية متكومة على الارض بلباس متهرئ، حقيبة واحدة مرمية الى جانب الشخصية، هي الصورة الاولى للمكان، اشارة ضوئية تحيل الى فضاء الحكاية "محطة للقطار"، منذ البداية يحمل العمل الكثير من الرمزيات، فالمحطة فضاء للقاء والفراق، مجال للتيه وللبداية من جديد، المحطات عادة عنوان لنقطة النهاية قبل كتابة قصة جديدة كذلك ستفعل الشخصية.
تتغير الموسيقى، ترتفع الايقاعات ويحدث الزلزال، كارثة طبيعية ستغير مجرى الحكاية، فماسح الأحذية الوحيد اول العرض سيصبح مرفوقا باشخاص اخرين بعدها، ولن يحمل وحده وزر الحكاية بل سيتشاركها مع شخصيات مختلفة لكل منها خصوصياتها، جمعتهم صدفة الزلزال في فضاء حكائي واحد.
في العرض لن تحضر الشخصيات بأجسادها بل فقط صوتها، افكارها والاهم احذيتها، فلكل شخصية حذاء ولكل حذاء حكاية "لكل مقام حذاء" كما تقول الشخصية، أربعة احذية تدخل فضاء العرض تدريجيا، يتعرّف المتفرج على ملامح هذه الشخصيات من احذيتها، فالاول ضابط في الجيش يرمز اليه بحذاء عسكري نظيف، عنيف يمارس سلطته السياسية والعسكرية على الجميع، والثاني رجل يدعي البحث العلمي والترحال لاجل تقديم مداخلاته الفضفاضة والقائمة اساسا على السفسطة يرمز اليه بحذاء اسود نظيف، والثالثة لامرأة ورمزها حذاء بكعب عال.
جميعها شخصيات متناقضة من حيث الفكرة وطريقة العيش ونمط التفكير والتعامل مع البقية، شخصيات ابدع محمد علي العباسي في الانتقال بينها، يمرّ من شخصية الى اخرى دون ان تضيع نبرة الصوت وحركة اليد أثناء تحريك الحذاء رمز الشخصية (الاحذية تصبح كما الماريونات يبث فيها الممثل من روحه) ما يكشف عن قدرة رهيبة للممثل في التناص مع شخصياته بمختلف حكاياتها ومساحاتها الدرامية والنفسية.
"ماسح الاحذية" ممثل واحد لاعب شخصيات مختلفة وأتقن كل واحدة، في نفس المشهد أحيانا تتحدث جميعها، والممثل الواحد المتعدد، يتحرك جسده على الخشبة وفق إيقاع النص والموسيقى التي تصنعها الأحذية أثناء المشي، يلتقط الممثل كل تلك التفاصيل ويخزّنها في الذاكرة الانفعالية قبل تحويلها إلى منطوق لفظي وحركات تتماهى مع وجع كل شخصية وكيفية تفكيرها، في "ماسح الاحذية" ابدع العباسي في التناص مع شخصياته، تشظّى بينها ولامس عمق فكرها واختلاف منطوقها والتضارب بين حركاتها، تفاصيل متعددة صنع منها الممثل ملحمة مسرحية قدمها بجسد واحد على الخشبة.
ملحمة ادائية ورحلة بحث عن انسانية مفقودة

 ينتقل الممثل بين شخصياته ويمنح لكل واحدة المساحة الكافية ليتعرّف اليها المتفرج، وعبر هذه الشخصيات يكتشف الجمهور الصراعات اليومية التي تعيشها كل شخصية والقضايا التي تشغلها او ترمز اليها، حذاء العسكري يكتشف عبره المتلقي مدى فضاعة رموز السلطة في تعاملهم مع المواطنين العاديين، فالمكان مظلم وركام الزلزال يحيط بالجميع ورغم ذلك لازال الضابط يصرّ على احساس التعالي ومسح حذائه اولا ليكون الانظف دائما "لمّع لي حذائي ايها الغبي"، فالسلطة دوما تحاول تلميع صورتها ايا كانت الكارثة او المصيبة، شخصية رمز السلطة المتجبّرة توحي الى الصراع الازلي بين المواطنين والسلطة، فالحذاء بدوره يتحوّل الى سلطة فرضت على الانسان "أنَّ الحِذاءَ سجنٌ للقَدمِ.. فَرَضتْهُ الحضارةُ الراهنةُ والحذاء هو من جِهةٍ أُخرى مثيرٌ للرغبةِ وأداةٌ للسُّلطةِ القاهرةِ".

الشخصية الثانية للاستاذ الجامعي، يقدم محاضرات علمية عن التنمية والمجتمع والاقتصاد لكنّه يفتقد الى ثقافة الحياة، فليس كل من يحمل شهائد جامعية يمكن ان يكون فاعلا او مثقّفا، شخصية مترددة تبرز ملامحها عبر حركات حذاء يخطو الخلف اكثر من تقدّمه الى الامام وعبرها ينقد كاتب النص الجامعيين الذين يغلقون ابوابهم عن مشاغل المجتمع ويكتفون فقط بالرؤية من ابراجهم العاجية.
الشخصية الثالثة هي الاصعب على الممثل، تركيبتها النفسية والفكرية والفيزيولوجية مختلفة، شخصية امراة لها نبرة صوت مختلفة وطبقة ينطق بها النص تخالف البقية، تحمل الشخصية هواجس المراة العربية، توصل للجمهور ما تعانيه النساء في مجتمعات ذكورية تسلطية تحاول اقصاء الانثى من الحياة العامة واجبارها باسم الدين او العادات على البقاء بعيدا عن الحياة والحرية فكرا وممارسة، شخصية اتقنها العباسي وكان صادقا في الاداء، شخصية نقدية انتصر لها كاتب النص حين ابرز قوّتها وصمودها في ظل صراعات ومشاغل تثقل كاهل وفكرة المراة العربية، فالمسرح بوّابة للنقد وفنّ التمثيل سلاح يتسلّح به الممثل ليستطيع الوصول الى المتلقي وتشجيعه لتفكيك شيفرات العمل ورموزه المتعددة.
"ماسح الاحذية" مونودرام يشاكس الانسانية المتلاشية، يبحث من خلال الشخصيات عن بقايا القيم فينا، يجبر المتفرج ليقف امام مرآته ويسالها "كيف سأتصرف لو وضعت في نفس الازمة؟ هل اكون أنانيا افكر فقط بنجاتي؟ ام انّ نجاتي مرتبطة أساسا بالمجموعة؟" سؤال يبدو بسيطا لكنّ أبعاده الفلسفية والوجودية عميقة جدا اشتغل عليها الممثل ببراعة.
"ماسح الاحذية" عمل انطلق من نص ساخر وناقد، نصّ يرشح وجعا ويصدر صيحة فزع امام وجع الحرب ودمارها وضياع انسانية الانسان وصمت جزء كبير من البشرية امام الابادات التي يتعرض لها الانسان في اماكن متعددة وابرزها ما يعيشه المواطن في غزة من حرب ابادة وقيمة النص تبرز في التصاقه بجسد حيّ وفكر توّاق للمعرفة.
العمل قام اساسا على الترميز، فالشخصيات رغم بوحها بقي هناك العديد من الشيفرات على المتلقي تتبعها، "ماسح الاحذية" ليس غبيا ولا فقيرا، ليس بجاهل، بل انسان هرب من مجتمعه ومنظومته الى الظلمة، انسان سئم الحياة تحت اشعة الشمس التي تحوّلت بفعل آلة الحرب الى دم، كره نفاق المجموعة وهرب الى الظلمة لينير دروب روحه، ماسح الاحذية انسان متكمل الانسانية، هرب من تشوّهات ابناء جنسه، استاذ جامعي يتعرض بيته للقصف وتموت كل عائلته، فيسير في الشوارع صائحا ماسح احذية مجانا، علّه بهذا العمل يلتقي بشرا يزوّدهم ببعض الانسانية.

 

 

المشاركة في هذا المقال