Print this page

مسودة حوار تنشر بعد رحيله وداعا أنور الشعافي: صمت صوت التجريب ... وبقي صداه ونوره !

رحل أنور الشعافي، وصمت صوت التجريب! لكن، كيف يموت من زرع نفسه في ذاكرة الخشبة؟

كيف يغيب من عاش ليرتفع صوت الحقيقة؟ أنور باق ما بقيت العروض منيرة، ما بقيت النصوص التي تشبه الصفعات والدمعات والضحكات… سيتجدد حضور أنور الشعافي روحا وفكرا في كل مخرج شاب يصر على أن يكون حرا، في كل ممثل يرى في جسده تحررا، في كل عرض يصرخ: "أنا مختلف، إذن أنا موجود."

في فجر يوم 30 أفريل 2025، رحل المخرج المسرحي أنور الشعافي بعد أن قاوم المرض لأيام ولأشهر ولسنوات طويلة. غاب صاحب الرؤية المختلفة ، وغابت معه لمعة العين التي اعتادت أن ترى ما لا يُرى، وتُضيء ما تعمّدت العيون أن تُطفئه. كان الشعافي يؤمن أن المسرح ليس مجرد فن، بل موقف ومرآة ومعركة، في آخر لقاء معه قبل أن يبدأ رحلة المستشفيات في الأشهر الأخيرة حدثنا أنور الشعافي عن شغف البدايات والأمنيات والأحلام... التي لم يمهله الموت لتحقيقها. في ما يلي شذرات منها :

حين يصبح المسرح حياة تُكتب على الخشبة

في زحمة الأسماء وتقلّب المشاهد المسرحية، يظل أنور الشعافي استثناء يصعب تجاوزه. فالمخرج والسينوغراف التونسي، لم يكن مجرد فنان يمارس المسرح، بل كان كائنا مسرحيا بكل ما تحمله الكلمة من التزام وشغف وابتكار. من بداياته الأولى في نادي الأطفال، إلى اعتلائه قمة المشهد المسرحي الوطني والعربي، ظلّ الشعافي وفيا لفكرته الجوهرية: أن المسرح ليس مرآةً فقط، بل مطرقة تكسر الجمود.
ولد الفن في داخله باكرا، وكأن الخشبة اختارته طفلا ليرافقها العمر كله. في سن الثامنة، كان يؤدي أدواره الأولى على منصات النوادي، ثم تسلّل إلى المسرح المدرسي، فمسرح الهواية، وكأن القدر كان يُعدّه لتلك الرحلة الطويلة التي قادته إلى الأستاذية في الدراسات المسرحية سنة 1988، ولتجارب أوروبية صقلته ومكّنته من أن يُحوّل التجريب من تقنية إلى فلسفة.

لم يكن المسرح بالنسبة له مناسبة للتسلية أو فضاءً للعرض فقط، بل كان مشروعا للتأسيس، للتربية، وللثورة الناعمة. وفي كل محطة من محطاته المهنية، كان الشعافي يبذر شيئا من فكره وحلمه: من تأسيس فرقة مسرح التجريب بمدنين سنة 1990، إلى إطلاق المهرجان الوطني لمسرح التجريب، إلى إدارة مركز الفنون الدرامية والركحية بمدنين، ثم قيادة المسرح الوطني التونسي بين سنوات 2012 و2014.

تنوّعت أعماله، وتلوّنت بتجارب إنسانية وفنية ثرية، منها: "بعد حين" و"أو لا تكون" و"هوامش على شريط الذاكرة" و"كابوس آينشتاين"... لم يكن يتردد في اقتحام المناطق الصعبة، فمزج بين التشخيص وفن الميم، واستلهم تقنيات السيرك والرياضات القصوى، واستغل الفضاءات غير التقليدية، وكأنه يقول إن المسرح لا يُختزل في الخشبة، بل في كل مكان ينبض بالحياة.
بعيدا عن الإخراج، كان أيضً مؤطرا، ناقدا، ومديرا فنيا. لم يبخل بعلمه، ولم يغلق أبواب قلبه للمسرحيين الشبان. وكان دائم الحضور في لجان التحكيم والتربصات، مشرفًا ومؤطّرا، مشاركًا في ندوات من تونس إلى أوروبا. وقد جمع ما كتب عن المسرح من قراءات ونقد في كتابه الأخير "استقراءات مسرحية".

إنّ التكريمات التي حصدها، ومنها تكريمه في المهرجان الدولي للمسرح التجريبي بالقاهرة سنة 2022، لم تكن سوى اعترافات متأخرة بمسيرة سبقت زمنها. أنور الشعافي لا يُلخّص في سيرة ولا يُختزل في عمل، لأنه لم يكن فقط مخرجا، بل مشروعا فكريا وفنيا متكاملا. وفي زمن يفتقر للثبات، يظل اسمه محفورا في ذاكرة المسرح التونسي كواحدٍ ممن جعلوا الخشبة حياة.

 

من عروس القفّاز إلى رحابة الركح… رحلة إبداع

قبل أن يرحل حدّثنا أنور الشعافي عن الشرارة الأولى لعشق المسرح، فقال : " بدأتُ المسرح مخرجا قبل أن أبلغ العاشرة. كانت آنستي خيرية، في نادي الأطفال، قد فتحت لي باا سحريا حين عرّفتني على تقنيات "عروس القفاز" وقتها، كنت قد قرأت كليلة ودمنة، وقد تعلّمت القراءة والكتابة حتى قبل أن أدخل المدرسة. وجدتُ في قاعة النادي مجموعة من عرائس الحيوانات، فخطرت ببالي فكرة: ماذا لو أجسد تلك الحكايات مع أصدقائي؟ كتبتُ الحوارات، ووزعت الأدوار، وبدأ العرض. كان ذلك في يوم أحد، وكان الجمهور من الأطفال مثلي، لكن الشرارة الأولى كانت قد اشتعلت: هكذا بدأت رحلة الألف ركح. منذ أكثر من خمسين عاما، وأنا أسير على هذا الركح الكبير، متنقلا بين التكوين والتدريس، بين الإبداع والإدارة، بين النص والصورة، دون أن أفقد دهشتي الأولى. واليوم، وأنا أستعدّ لتوديع الوظيفة العمومية بعد خمسة وثلاثين عامًا، بتقاعد مبكّر، لا أودّع المسرح، بل أستأنف رحلتي معه من جديد".

"يون فوسه" ملهمه... وكان يكتب رواية عن حياته

أكمل أنور الشعافي الحديث، فقال : "في هذه المرحلة الجديدة، أفتح لنفسي أفقا مختلفا: الكتابة، التفكير النظري، والمشاريع الأدبية. أشتغل حاليا على رواية تمزج بين الخيال والسيرة الذاتية، حيث تتداخل الذكريات مع الحلم، والواقع مع ما كان يمكن أن يكون. إنها رواية تتنفس المسرح، كما تنفست حياتي كلها".

عن المرجع المسرحي الذي يؤثر فيه ويتأثر به، كان الراحل أنور الشعافي قد قال: "كنت دائما وفيًّا للكتابة المسرحية الحديثة، ومنذ أكثر من عشرين عاما، تعرفت على أعمال يون فوسه، الذي أراه — بحق — أهم كاتب مسرحي بعد شكسبير. قرأت له "الابن" أولًا، ثم تابعت أعماله التي ظلّت بعيدة عن اهتمام المسرحيين العرب حتى نال نوبل للآداب سنة 2023. مسرح فوسه هو صوت الزمن الحاضر، يكتب عن الصمت، عن الغياب، عن الحبّ القاسي، ويجعل من اللغة موسيقى تتردّد في أرواحنا.أما "روميو وجولييت"، فإنها تظلّ العمل المسرحي الذي أثّر فيّ أكثر من غيره. شاهدتها بعشرات الصيغ: تشخيصية، إيمائية، أوبرالية، رقصا، وسينما، واشتغلت عليها أكثر من مرة. ليست فقط قصة حب، بل درسٌ في جمال الكتابة، وفي المأساة التي تتجاوز الأزمنة.ما أؤمن به الآن أكثر من أي وقت مضى، هو أن المسرح لا يُحال على التقاعد. بل يبدأ حقا حين نتحرر من الإكراهات. المسرح ليس مهنة، بل حياة.
وداعا أنور الشعافي ... ولكنك باق بيننا، ما بقي الفن، وما بقيت الحياة !

 

المشاركة في هذا المقال