Print this page

خطاب الكراهية والتشفي يعمق الصراع المجتمعي

في محطات بعينها من تاريخ الشعوب، تبرز بعض الصدمات السياسية أو القضائية أو الاجتماعية عن عمق الانقسامات

التي تنخر المجتمعات من الداخل، لا لكونها مجرد تباينات في الرأي، بل كتصادم وجودي بين رؤى متناقضة للحقيقة والعدالة والانتماء، لا يمكنها أن تتعايش جنبًا إلى جنب من وجهة نظر بعض أصحابها.

من تلك اللحظات ما تعيشه البلاد إثر ما سُرّب عبر وسائل الإعلام من مضمون الأحكام القضائية الصادرة فيما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، حكم أثار جدلاً واسعًا وردود فعل متضادة، فهو لم يكن مجرد مناسبة قانونية عادية، بل كان أقرب لأن يكون لحظة مفصلية، دفعت إلى السطح بكل تمظهرات الصراع والانقسام صلب المجتمع التونسي، حيث لم يكن الانقسام فقط بين من أيّد ومن رفض، بل بين من رأى في الحكم انتصارًا رمزيًا للعدالة، ومن اتخذه فرصة للتشفّي، لتصفية الحسابات، ولتفريغ كمٍّ هائل من الغضب الدفين.

ما يدعو للقلق، ليس فقط مضمون هذه الردود، بل حدّتها ونبرتها. فالاحتفاء بالحكم من قبل جزء من الشارع لم يكن تعبيرًا عن ارتياح قانوني أو شعور بالإنصاف، بقدر ما كان احتفالًا رمزيًا بانكسار الخصم، أيًّا كان موقفه أو تاريخه.

هنا تتجاوز المسألة بُعدها السياسي لتبلغ عمقًا اجتماعيًا ونفسيًا أخطر، يتمثل في التشظي الحاد داخل النسيج المجتمعي، والتماهي مع حالة «العدو» بوصفه صورة لكل مختلف، وهي حالة تهدد بفكّ الروابط التي تشكّل وحدة المجتمع التونسي وقواعد عيشه المشترك.

لو أسقطنا ما يقدمه لنا علم النفس الاجتماعي من قراءات، فإننا سنقف على أنه ينبّهنا إلى خطورة هذا الانقسام حين يتحوّل إلى «قطبية وجدانية» تنظر للآخر ليس كمخالف في الرأي، بل كتهديد وجودي. كما يشير إليها «جوناثان هايدت» حينما يشدد على أن المجتمعات حين تدخل في صراعات أخلاقية مستقطبة، تفقد القدرة على الحوار أو التفاهم، وتبدأ في تبني مواقف أكثر تطرفًا، حيث يتعزز الانتماء إلى الجماعة لا من خلال القيم المشتركة، بل من خلال العداء للآخر. وهو ما نشهده اليوم في تونس: خطاب مشحون، إقصائي، لا يبحث عن العدالة بقدر ما يسعى لإسكات الآخر، ووأد صوته، بل يذهب إلى إلغاء وجوده.

خطر يهدد تماسك المجتمع التونسي، يخبرنا به تاريخ المجتمعات الذي يعجّ بأمثلة عديدة تُظهر عواقب هذا التمزق الذي يحدثه انتشار خطاب الكراهية والتشفّي، الذي يُسخ صورة الآخر كتهديد ينبغي محوه. وإن كانت تونس تختلف عن الدول التي شهدت مآسي وفضاعات، إلا أنه من الحكمة أن نستلهم من تجارب غيرنا ما يساعدنا على تجنّب مصيرهم. وأن نتفادى تفاقم هذا الوضع الذي يخشى فيه التونسيون بعضهم البعض، لا بسبب الاختلاف، بل بسبب الشك العميق بأن الآخر لا يؤمن بحق المختلف عنه في الوجود.

اللحظة الراهنة تتطلب جرأة أخلاقية وفكرية في تشخيص هذا الواقع، دون تعميم أو تهوين. لا يمكن معالجة الانقسام بخطاب دعائي أو برسائل توفيقية سطحية، بل بإعادة بناء الإطار الذي نحتكم إليه كمجتمع، أي: معنى العدالة، ومعنى الوطن، ومعنى المشاركة في المجال العام. إنّ الديمقراطية ليست مجرد إجراءات أو مؤسسات، بل هي قبل كل شيء ثقافة، تقوم على الاعتراف المتبادل، وعلى الوعي بأنّ التعددية ليست تهديدًا بل شرط للعيش المشترك.

ما تحتاجه تونس اليوم مصالحة تبدأ بالاعتراف بأن الانقسام ليس نتيجة خلاف عابر، بل نتيجة تراكمات من الإقصاء والتهميش والانفراد بالقرار. جزء من التونسيين يشعر أن هذه الأحكام القضائية ليست إلا أداة في صراع سياسي، وجزء آخر يراها تحقيقًا منتظرًا للعدالة، وما بين الفريقين، تنهار لغة الحوار، وتتمدد لغة الشماتة.

ما العمل؟

لا يمكن الجزم بذلك ما لم نعد إلى جوهر الدولة، لا باعتبارها حلبة صراع، بل كفضاء مشترك يتسع للجميع، تفتح فضاءاتها العامة لنقاش مجتمعي يفضي إلى بناء عقد اجتماعي يُجمع عليه، يرتكز على قيم الإنصاف، والاعتراف، والعدالة الانتقالية التي لا تستبدل مظلومية بأخرى، ولا تنتصر لمجموعة على حساب أخرى.

كما ينبغي على النخب، سواء في السلطة أو المعارضة، أن تعيد النظر في مسؤوليتها الرمزية والأخلاقية، فكل خطاب إقصائي يصدر عنهم ينتقل مباشرة إلى الشارع، ليصبح وقودًا في معركة لا رابح فيها.

إنّ التاريخ لا يرحم المجتمعات التي تنسى إنسانيتها في خضم معاركها. ما يحدث اليوم في تونس ليس قدرًا، لكنه جرس إنذار بأن الأوطان إما أن تتسع للجميع أو أنها تضيق فلا تتسع لأحد

 

المشاركة في هذا المقال