Print this page

الفيلم الوثائقي "لون الفسفاط" لرضا التليلي: مازلنا نحلم بوطن لا يمنع عنّا الاحلام

هل للالم لون؟ هل للموت لون؟ هل للوجيعة لون ما؟ هل لانعدام الامل والضبابية المفرطة لون؟

هل يمكن اعتبار الرمادي ذاك المحايد مزعجا لون لكل هذه المفردات؟ واذا كان الرمادي كذلك؟ فكيف نزينه بألوان اخرى اكثر انشراحا؟ كيف ننفض غبار الموت عنا؟ هكذا تندفع الاسئلة مرة واحدة اثناء فيلم "لون الفسفاط" للمخرج التونسي رضا التليلي.

الفيلم وثائقي ينبني على المتناقضات "الفسفاط ھو السبب والنتیجة. الحیاة والموت، المرض والشفاء، الوعي والھذیان، الضمأ والمطر، النھار واللیل. الذین ولدوا في الغبار. الذین نشأوا تحت الغبار. غبار الفسفاط. وسط الغبار تعلموا الصمود. الصمود ضد قسوة حیاة مجزأة"، وينقل ينقل قصة العيد الصامد الحالم احد عمال المناجم في منطقة الرديف ويبرز احلامه بممارسة الفن ونضالاته لتحويل قسوة الواقع الى ابداع فني.

سردية الموت البطيء بفعل الفسفاط

تلتقط الكاميرا تفاصيل الموت البطيء، السماء مغيمة "نحلم احيانا باشعة الشمس، السماء هكذا دوما مغيمة تصلنا فقط حرارتها" كما يقول احد السكان، الجبل اجرد، خال من الحشائش او الاشجار، فكيف لها بالنموّ وسط هذا الكم من الغبار والتلوّث، وحده الرمادي سيد المكان، ولأنه صاحب الفضاء يوشيه كما يريد ويزيده بؤسا كما يشاء، الرمادي اللون الاكثر انتشارا مع صفرة مقيتة في السماء وبينهما تتشتت النظرات هذا ما تنقله كاميرا رضا التليلي في فيلم "لون الفسفاط" الذي قدم ضمن فعاليات الدورة الاخيرة للمهرجان الدولي لفيلم الطفولة والشباب بسوسة.
"لون الفسفاط" وثائقي ينقل تفاصيل الحياة اليومية في الرديف من ولاية قفصة تلك المدينة المنجمية كيف أثرت فيها المينا وأثرت على ملامح سكانها فزرع الشحوب والصفرة على المحيا ، الداموس اكل الكثير من الارواح والاجساد، ترك جرحا غائرا لدى سكان المكان، الداموس مصدر الرزق الوحيد يتحوّل الى وحش مفترس يشرب الدماء، فالأرض في الرديف شربت الكثير من الدماء وكانها قرابين تقدم للاله "فسفاط" الذي يرعب الكبار قبل الصغار، داخل الداموس تسرق الاعمار وخارجها تسرق الابتسامة بفعل التلوث وصفرة المياه والغبار وبينهما يحاول متساكني الرديف الحفاظ على حياتهم رغم كل الخراب النفسي والجسدي احيانا، فللداموس نواميسه، ولعمال الحوض المنجمي خطية تدفع من الجسد بعد سنوات كثيرة من العمل، حتى الطبيعة تدفع فاتورة احتضان جوفها للفسفاط فتموت الاشجار على أديمها وتظل جرداء قاحلة توجع العين وتؤلم الباحثين عن بعض الخضرة والاوكسيجين بسبب الفوسفوجيبس وهي مادّة كيميائية تتمثّل في النفايات التي تنتج بعد تحويل الفسفاط الطبيعي لإنتاج الحامض الفوسفوري. ونظرا لاحتوائها على شوائب وإشعاعات نووية، تتسبّب هذه المادّة أينما وجدت في إخلال بيئي كبير يهدّد بقاء الكائنات الحيّة وفي الرديف اثّر على الطبيعة وكائناتها.
"نريد فقط ان نتنفّس" هكذا يقول الجسد الذي تركت السنين الكثيرة اثارها عليه، فالهواء بفعل الفسفاط بات ملوّثا والسكان كثيرا ما يتحدثون عن جبروت الغبار والرمادي المنتشر في كل مدن الحوض المنجمي، والرديف بدورها لها نصيبها من هذا الوجع، في الفيلم تنساب المشاعر الانسانية مع كل لقطة ومشهد، تبدع الكاميرا في ترسيخ التفاصيل في ذاكرة المتلقي، تخترق القلب وتحفز الفكر ليحلل بعض المشاهد ويراوح المخرج بين شهادات الناس ومدى تناصها مع الطبيعة، فالوثائقي صورة للحقيقة وانتصار كلّي لهموم الناس في الرديف.
"لون الفسفاط" فيلم وثائقي انساني اجتماعي، يقدم مجموعة من اللقطات المبهرة رغم سوداوية الحكاية، فيلم يؤكد ان السينما مغامرة مميزة، والسينما الوثائقية مقاومة ومحاولة حقيقية للاقتراب من مشاغل الانسان والتعبير عن همومه، السينما صوت لا يموت وان فنى الجسد وإيصال الحقيقة وابرازها للجمهور مسؤولية تحملها رضا التليلي في كل أعماله الوثائقية فهو يتصيد الحقيقية ويقدمها دون زينة الى المتلقي ويدفعه ليصبح جزءا من القصة عبر التجسيد الفني للواقع.

الفنّ يحوّل الرمادي الى الوان جميلة

حين يصبغ الرمادي بالوان زاهية فانت في حضرة الفن، حين تمحى تلك الضبابية المقيتة وتحل مكانها ابتسامة صادقة وارادة قوية للحياة فمرحبا بك في عوالم المسرح والحياة، في الرديف تعيش الشخصية المحورية للفيلم، ذاك العامل البسيط الذي حوّل قسوة الواقع الى مساحة للمسرح وتحرر من الرمادي وعوضه بخضرة وربيع لا يأفل في حديقته الصغيرة، العيد الشخصية العاشقة للفنون. ممثل احب المسرح ومارسه وهو يمرره لبناته، العيد يعمل في المنجم يعاند قسوة الداموس يشتغل سائقا ينقل الفسفاط من المنجم الى المصنع، عملية روتينية يومية يشاكسها بالفن.
ترافقه الكاميرا في رحلة النضال، سنوات طويلة والتليلي يلازم العيد، ينصت لصوت الطفولة فيه وكيف يعاند واقعه ويزرعه املا رغم سيطرة اللون الرمادي "الرمادي حقيقة لكني امقته لذلك ألون حياتي ويومي وحديقتي، ازرع في اطفالي البهجة وفي ابناء المنطقة الوان جميلة مثل المهرج لانسى ذاك المقيت المخيّم على المكان" كما يقول العيد في تصويره.
"العيد" تونسي اختار ثقافة الحياة، احب المسرح ومارسه، يحاول تزيين حياته وتغيير واقعه، رغم المرض والطبيعة الجرداء والقاسية يفتح صندوق الذكريات كلما وقف امام الجبل الاجرد يحاول العودة طفلا شامخا يركض ويصنع من المهملات ألعابا تغنيه عن الجميع، يحوّل كل ذاك السواد إلى نصوص مسرحية ترشح أملا وألما، يتدرب عليها في بيته مع ابنائه، فهو يشكل خلية مسرحية صغيرة تنثر الامل في المكان.
توثق الكاميرا لحظات الفرحة المسروقة من ظلمة الواقع، تنقل للجمهور مساحة من السحر يرسمها العيد كلما تقمص شخصية مسرحية، بوسيطه الفني وسلاحه الحالم ينتصر العيد لعائلته وحقهم في الحياة، يوظف المسرح للنقد ويشاكس المنظومة ويعبر عن التهميش الذي تعانيه مدن الحوض المنجمي.
فالعيد لم يستسلم للون الرمادي، لم يصمت امام تهميش المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لعقود طويلة لسكان الحوض المنجمي، لم يغمض عينيه بل واصل الحلم، كتب ونقد ومثّل شخصيات مختلفة، شجع بناته على الدراسة وعلّم ابنه الصغير معنى ان تدافع عن وطنك من مكانك، وتدافع عن حلمك مهما كان الثمن باهضا، ونجح رضا التليلي في نقل تلك المشاعر الصادقة والصور الحقيقيىة ليظل الفيلم وثيقة وجزء من الذاكرة الجماعية التي تصوّر الحوض المنجمي.
"لون الفسفاط" فيلم وثائقي يترصد الحقيقة في الرديف وينصت لحكايا الناس ومشاغلهم اليومية في علاقة بالفسفاط، تجربة تسجيلية وانسانية تنتصر لحق ابناء الرديف في هواء نظيف، عمل يدافع عن الحق في الحياة الكريمة وينادي الى عدالة اجتماعية علّها تحقق لسكان تلك المدن المنسية.

 

 

 

المشاركة في هذا المقال