العرض الكوريغرافي "اليوم الاخر" اخراج مرتضى علي: الانثى كائن من نار وليس مجرد كائن من ورق

ثوري، انتفضي، حطّمي قيودك جميعها، فجري افكارك وانفجري كشلالات للحقيقة في اجمل مناطق الارض،

كوني انثى، حيّة وحرة، انتفضي على من قيدوك بسلاسل العادات وربطوك باسم الشريعة وحاولوا كتم انفاسك باسم الدين، انتفضي فلست تابعا، اصنعي ثورتك فلست ضلعا معوجّا، تحرري فانت سليلة فينوس الهة الجمال وجونو الالة الام وسيريس الهة الزراعة، انحتي حرياتك لانك حوّاء الصاخبة التي انتصرت على ادم منذ كان في جنّته، تحرري من قيودك سيدتي وكوني انثى فالحضارة أنثى والثقافة أنثى واللغة انثى والقصيدة أنثى والشجرة أنثى والثورة أنثى كما قالها نزار قباني، ومن فكرة الصراع لاجل التحرر ولد عرض اليوم الاخر" لمرتضى علي.

"اليوم الاخر" عرض راقص سينارو واخراج مرتضى علي وأداء علي دعيم وعلي جابر ومهتدى باسم وفكرت حسين ومرتضى علي وسينوغرافيا علي محمود السوداني و ماكياج هشام جواد وإدارة مسرحية عدنان احمد وأزياء امير جواد وتنفيذ موسيقى مجمد حميد وتنفيذ الاضاءة ناظم حسن ومحمد طاهر ومصطفى شاكر وانتاج منتدى المسرح التجريبي، قسم المسارح، دائرة السينما والمسرح 2025.

الجسد انتفاضة ورقصاته صوت الحقيقة
تحرري لم تخلقي لتكوني مفعولا به، لست وعاء للجنس ولا مجرد شهوة، انت ثورة وفي تحررك اقصى درجات الاكتمال، ثوري على العادات والتقاليد، ثوري على الشرائع والتشريعات واصرخي بصوت عال انا انثى، انا الثورة ولست عورة، انا القصيدة واللوحة، انا رفيقة ادم ونصفه ولست ظلّه ولا وعاء لرغباته، هكذا يمكن تلخيص عمل "اليوم الاخر" لمرتضى علي (شهر نومي) وقراءة اللوحات الراقصة المقدمة في عرض كوريغرافي غابت عنه الكلمات وترك المخرج المساحة كاملة للجسد ليعبّر ويخرج ما تكتمه الروح في حركات ورقصات هي الدلالة الاولى لوعي الانسان بجسده.
ترتطم الاجساد فوق الخشبة، تصنع موسيقى مميزة تتماهى مع صوت داخلي بالتحرر، اقصى الركح يسلط الضوء على جسد يحاول الانتفاض، يبحث بحركات مضطربة وفوضوية عن طريقة للوقوف، في الجهة الاخرى للخشبة كتلة تميل الى الابيض، مع الوقت تتحرك ليكتشف الجمهور انها جسد نسائي ايضا بدوره يحاول ان يزيل قيوده وينتفض واقفا، الجسد الاول يلبس على وجهه نقاب اسود اللون، الثاني حركاته مقيدة، فجسد ثالث يتوسط المكان، ثلاثتهم يصارعون ايقاعهم الداخلي، في تماهي حركة الراقصين مع صوت الموسيقى اعادة كتابة لتاريخية الجسد الانثوي، تلك الاجساد تحاول الخروج من دائرتها المفرغة والضيقة، يكررون عملية محاولة نزع ملامح الوجه، تضرب الايادي بقوة على منتصف الجسد في اشارة الى الرحم اين حوصر دور المراة في المجتمعات الدينية (الاسلامية والمسيحية) لقرون طويلة في مجرد الانجاب، وان انتفضت المجتمعات الاخرى على الدين وانتصرت للفكرة بقيت مجتمعاتنا العربية حبيسة قراءات رجعية للنص الديني واغلبها تتفنن في التضييق على النساء.
الموسيقى اول العرض تتماهي مع صوت دقات قلب المريض في غرفة العمليات، ذاك النبض الذي يبعث السؤال "هل سيعيش المريض او سيموت؟"نفسه نسأله اثناء مشاهدة العرض، هل ستتحرر تلك الاجساد من قيودها ام ستهمد؟ هل ستعيد تلك الاجساد الاعتراف بحضورها وجدية افكارها ام ستكون مجرد ظلال؟ فالصراع الذي تعيشه النساء منذ القديم لا يزال يطرح ويعالج فنيا، وبموسيقى جد مميزة التقط مجد حميد فكرة الصراع وحوّلها الى موسيقى، اما اجساد الراقصين (ثلاثتهم راقصين رجال جسدوا الادوار النسائية وثلاثتهم من امهر الكوريغرافيين في بغداد) فهي سردية اخرى للقيد والخوف والتجربة المتكررة للخروج من سجن سلطه المجتمع والدين على الانثى، هذه المحاولات تشبه كثيرا مشهد دوران الفراشات حول النار، ربما تلسعها النيران لكنها تأبى ان تحترق، وكلما كان اللهيب اشد كانت التجربة اكثر مرارة، لتدافع الاجساد بصوت واحد عن مقولة نزار "كونك امرأة، عليكى أن تعلم أنكِ نصف الحياة، وأنك البياض، أنك الربيع، وقطرة غيث لأرض قاحلة".
تتغير الايقاعات ومن صوت نبضات القلب تصبح صوتا ارتطام قطرات الماء على الاسفلت، ذاك الصوت المزعج المستعمل كثيرا في غرف التعذيب يحمله المخرج الى العرض الراقص، تكرار الصوت مستفزّ يجبر المتفرج ليسال عن مدى انتباهه لقيمة الانثى في حياته مدى احترامه لكينونتها كانسان؟، في العرض السلط كثيرة، سلطة العرف، سلطة الدين، السلطة الذكورية، سلطة الجنس، سلطة الخوف، سلطة الاجدوى، جميعها تتحد لتواجه الاجساد الكوريغرافية الرجالية الناطقة باسم الجسد الانثوي، فالراقصين واعين بدورهم في التغيير وقيمة الفنّ في تعرية الحقائق المطموسة والانتصار لانسانية الانسان فقط، فالمراة في المجتمعات الدينية لازالت تحت سطوة القيد، لازالت حبيسة العنف الاسري والزوجي، مازالت سجينة الخوف من التمرّد على نواميس العشيرة وعاداتها خوفا من القتل برصاصة تعرف ضحيتها، والرصاص سيكون صوته موسيقى ايضا ترقص على وقعها اجساد الراقصين في "اليوم الاخر".

السينوغرافيا تشكّل ملامح الاجساد المتمردة
تكتب الاجساد سردية للتمرد، محاولة من الراقصين تسليط الضوء على مشاكل المراة في مجتمعاتنا العربية، العرض قراءة عراقية لنص تشيخوف "الشقيقات الثلاث" النص الذي قدم لاول مرة عام 1901 وسلط الضوء على الصراعات التي تعيشها النساء في روسيا انذاك اعاد مرتضى علي قراءتها بطريقة معاصرة اعتمدت اساسا على لغة الجسد وطوّع الشخصيات وقصصها لتكون صوتا للمرأة العراقية وصورة لصراعها الحقيقي لاجل ان تحيا حرّة وصامدة.
اربعة اجساد على الخشبة، تتراوح حركاتها بين الحضور والغياب، ثلاث اجساد نسائية اثنان يلبسون الفساتين باللون السماوي والثالث باللون الابيض المصفر والجسد الرابع الرجالي في المشهد الاول يحضر عاريا، الوان الازياء تنسجم مع الاضاءة العامة للعرض، فالازرق والابيض كلاهما يمتص الضوء ويحوّله الى لون اخر حسب المشهد المقدّم .
عنوان العمل "اليوم الاخر" القراءة الاولى للعنوان تحيل الى المعنى الديني الجمعي، اي يوم تبعث فيه الاجساد مرة اخرى، في ذاك اليوم هل ستحاسب النساء على خنوعهنّ المتواصل؟ الا يعتبر صمت المرأة تجاه حقها في الحياة جريمة؟ اليوم الاخر تحيل ايضا الى فكرة التاجيل المستمرّة، ولكن هل تنتظر النساء فرص اخرى غيبية؟ هكذا ستتساءل الاجساد في انتفاضها على الخشبة وخشوعها تحت الضوء وكانها تطهّر من كل ادران السابق لتعلن قدرتها على الانتفاضة وحينها يتحوّل اليوم الاخر الى معنى التحرر.
منذ المعلقة يحمل مخرج العمل جمهوره الى ثنائيتي القيد والحرية في المعلقة جسد يجمع الانثوي والذكوري رمادي اللون، نهد واحد في الجهة اليسرى وثلاثة ايادي باللون الزهري في الجهة اليمنى راس يميل حيث الايدي بسبب قرط ثقيل وكبير يمثل الكرة الارضية وحضور للأزرق في مآقي العين وكأنها لدموع ترفض النزول، معلقة العمل تميل الكفة للجهة اليمنى وكانها اشارة الى السلطة الذكورية على النساء، والرجل بدوره مثقل بما تشرّبه طيلة عصور من تعاليم اجتماعية وثقافية ودينية هي التي تحرّكه في الكثير من الاحيان، فحتى الرجل مسيّر كما يرمز القرط المروسمة فوقه الكرة الارضية.
تصنع الاضاءة عوالم مبهرة في عرض "اليوم الاخر" الضوء المسلط على الوجوه احيانا والمشعّ كامل الركح احيانا اخرى يتماهى مع الثورة الداخلية للكلمات داخل كل جسد، الاضاءة تفنن في تطويعها الدكتور علي محمود السوداني لتكون تعبيرة منفلتة عن قيم الحرية اللامتناهية، في العرض ومن خلال تدرجات الاضاءة المعتمة الى النيرة، الزرقاء كما الهدوء والحمراء كدماء الحرية من خلالها تبدأ النساء بذلك الصراع مع الايام ويحاولن التخلص من القيود و الاغلال كشرنقة تحوم حول لهيب يحاولن الا يحترقن ويواصلن السعي في حلقة مفرغة من الاحداث المتتالية التي تدعى الحياة للبحث عن امل مفقود: علينا ان نستمر ونستمر ونستمر كما كتب مرتضى علي في تعريفه للعمل.
تنحت السينوغرافيا ملامح العرض الراقص، تكون الاضاءة محرارا لاكتشاف ما تخفيه الاجساد الراقصة، ملحمة الحرية التي تكتبها تكون الاضاءة البوصلة الابرز لكشفها للجمهور، "اليوم الاخر" تجربة كوريغرافية معاصرة انطلقت من نص تشيخوف واعادت قراءته بلغة الجسد لتستفز العقل الجمعي وتجبره للانصات لصوت الانثى والانتصار لحلمها المستمر بالحرية.

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115