في فيلم "وراء الجبل " لمحمد بن عطيّة: مغامرة رجل يطير من وراء القضبان إلى ما وراء الجبل !

يحرّض عنوان "وراء الجبل" جمهور السينما لاكتشاف ما الذي يمكن أن يكون

وراء هذا الجبل ؟ أي أسرار يمكن أن يحدّث بها؟ هل وجوده مادي ومحسوس أم هو رمز ذهني ومقصد ميتافيزيقي؟ هل يمكن أن تكون وراء الجبل حياة جديدة أو طريقة أخرى للعيش؟

انطلاقا من 17 جانفي 2023 يصافح الفيلم الروائي الطويل "وراء الجبل" جمهور الفن السابع في القاعات التونسية بعد جولة في مهرجانات دولية. ويُشارك في بطولة الفيلم كل من مجد مستورة والطفل وليد بوشيوة والفلسطيني سامر بشارات وسلمى الزغيدي وحلمي الدريدي .... والفيلم من إنتاج درة بوشوشة ولينا شعبان بالتعاون مع أطراف وبلدان أخرى.

سينما واقعية وبوليسية وعجائبية... في فيلم واحد !

بعد ثلاثة أفلام طويلة وثلاث روايات سينمائية (نحبك هادي وولدي ووراء الجبل) ، يبدو أنّ سينما محمد بن عطية لا تبحث عن ترتيب الأجوبة بقدر ما تسعى إلى إثارة الأسئلة. في فيلمه الأخير والجديد تنتفي الحدود بين الممكن والمستحيل حيث يتسع الأفق للتجربة وللمحاولة حتى لا يموت فينا شغف الحياة !
كان الجلوس أمام شاشة "وراء الجبل" أشبه بمشاهدة أكثر من فيلم في آن واحد. لقد جمع المخرج محمد بن عطية في فيلمه الروائي الثالث بين تقنيات سينما المؤلف وتشويق السينما البوليسية و فنتازيا السينما العجائبية... ليروي قصة بطله، الرجل الذي يطير ! لا يبدو هذا الالتقاء بين أكثر من نمط سينمائي وأكثر من أسلوب تصوير ضربا من النشاز بل كان العزف على أكثر من وتر متناغما ومشوّقا وسلسا في الانتقال بين المشاهد والوضعيات والانفعالات...
هي ببساطة حكاية رجل اسمه "توفيق" كان يعيش يوميات عادية ورتيبة ومعتادة... فجأة يجد نفسه في السجن بعد تخريب مكان عمله دون مبرر واضح . بعد أربع سنوات ، تنطلق رحلة البطل من وراء القضبان إلى ما وراء الجبل ! كان كل همّ "توفيق" الوحيد بعد خروجه من السجن هو العثور على ابنه ليس من أجل استعادة الأسرة بل من أجل أن يثبت له أنه رجل يمتلك القدرة على الطيران! كان الاختطاف هو الحل الأنسب والأسرع بالنسبة للبطل من أجل عناق ابنه ومعانقة حلمه في تجربة فعل الطيران.
إلى جبال "عين دراهم" في الشمال التونسي كانت الطبيعة الساحرة في انبساط سهولها واتساع أفقها مجالا أرحب للشخصية الرئيسية حتى تحقق أمنيتها .... يحاول "رفيق" أن يطير أمام مرأى ابنه الصغير"ياسين" الذي اتسعت عيناه من الدهشة أمام هذه "المعجزة" الخارقة للعادة . يسقط "رفيق" أرضا ويرتطم جسده بالصخور... فينقذه راعي غنم قادته الصدفة إلى هناك. ومن هناك تتغير أقدار الشخصيات الثلاث: الأب والابن والراعي في رحلتهم الجماعية إلى ما وراء الجبل.

"مجد مستورة "رجل يطير في "وراء الجبل"

بعد مرور 7 سنوات على فيلمه الروائي الأول "نحبك هادي" ، اختار المخرج محمد بن عطية تسليم دور البطولة في فيلمه الروائي الثالث "وراء الجبل" إلى الممثل نفسه مجد مستورة. وحتى في فيلمه الثاني "ولدي" كان مجد مستورة حاضرا بالغياب حيث لعبت والدته منى الماجري دور أم البطل في الفيلم. يعود مجد مستورة إلى سينما محمد بن عطية حاملا لإرث من النجاح بعد أن حصل على "جائزة الدب الفضي" لأفضل ممثل في مهرجان برلين السينمائي 2016 ، كما حاز الفيلم على عديد التتويجات والألقاب. في "وراء الجبل" يطالعنا مجد مستورة بصورة أكثر نضجا على المستوين الفني والإنساني مما انعكس إيجابا على تجسيده دور "رفيق" هذه الشخصية المركبة في تأرجحها بين الواقع والخيال، بين الأرض والسماء، بين الموجود والمنشود.
يتراءى لنا بطل محمد بن عطية في "وراء الجبل" في صورة الشخصية المضطربة والمهتزة نفسيا التي ترتكب العنف دون مبرر مما يجني عليها بالسجن في بداية الفيلم ثم لا يلبث هذا البطل أن يظهر في صورة الحالم بالتمرد على واقعه وبتجاوز المعتاد والعادي في حياته...إلى درجة أن يتحوّل إلى رجل يطير !
لا شك أنّ الممثل مجد مستورة قد بذل الكثير من الجهد النفسي والجسدي في أداء شخصية تلتبس بالغموض، قليلة الكلام وهادئة حتى في ردود فعلها العنيفة... هي شخصية غير إجرامية ولكنها غير راضية على واقعها ومنتفضة على نمط الحياة الرتيب والمتشابه والممل إلى حد الانفجار النفسي !

الإنسان وحلم السعادة ما بين الحداثة والبدائية

في رحلة البطل إلى ما "وراء الجبل"، كان الهروب قدر بقية الشخصيات واختيارها سواء بترك المدينة والعيش في أحضان الطبيعة (كما فعلت عائلة وجدي) أو بممارسة حياة بدائية بعيدة عن كل مظاهر المدنية ( كما يعيش الراعي منعزلا).... ولكن هل عرف هؤلاء الأبطال شعور الارتياح وعثروا على معنى السعادة على اختلاف نمط عيشهم وأسلوب حياتهم؟
يحاول فيلم "وراء الجبل" كسر خط حياة الإنسان الذي كثيرا ما يأخذ شكل القالب: تعليم ثم عمل ثم زواج ثم إنجاب... ليزرع بذور الشك في حقل البديهيات وليحرّض على توليد الأحلام بحياة أخرى. سواء نجح البطل في الطيران أو أخفق فتكفي شجاعة المحاولة ونشوة التجربة في الخروج عن القطيع وفي التحليق بعيدا عن قيد اليومي الروتيني ونمط الحياة الرتيب. قديما تجرأ عباس بن فرناس على محاولة الطيران فحفظ اسمه التاريخ لأنه كان رجلا غير عادي. وبدوره تجرّأ بطل فيلم "وراء الجبل" على محاولة الطيران في امتلاك لقوة تبدو خارقة في نظر الناس ولكنها لا تعدو أن تكون شجاعة في نظره مثلما امتلك الإنسان القديم شجاعة السير على قدمين بدلا من المشي على أربعة ليتبعه بعد ذلك كل الناس إلى يومنا هذا.
في تصوير مشاهد فيلم "وراء الجبل" ، رواح المخرج محمد بن عطية بين الفضاءات الطبيعية المفتوحة التي توحي بالانفراج وبالانعتاق وبين الأماكن المغلقة التي تقترن بالقلق وبالاختناق ... ليترك النهاية مفتوحة على أكثر من تأويل ومشرعة على أكثر من تساؤل ... طالما أن الأسئلة عنده أهم من الأجوبة عن شكل الحياة التي نريد!

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115