ليست حالة خاصة ، فجلّ بلدان العالم اليوم ، بما فيها تلك التي لها تاريخ في تقديس الحرية وفصل السلطات واحترام المؤسسات، عرفت خلال العشرية الاخيرة صعودا غير مسبوق لشعبويين لا ماضي سياسي لهم ، يسعون لاختزال كل مؤسسات الدولة في اشخاصهم، ولئن صمدت المؤسسات الديمقراطية في هذه البلدان امام عجرفة هؤلاء ومحاولاتهم المتواصلة ضبط قواعد لعبة سياسية جديدة ، فإن أصوات الخبراء وعلماء السياسة والمفكرين ما فتئت تحذر من تراجع أكبر للديمقراطية في السنوات والعقود القادمة وتنبه إلى ان استمرارها مرتبط بتجاوز اخفاقاتها العديدة ، مثل التغافل عن بعدها الاجتماعي وتكرار الازمات الرأسمالية وتحديات العولمة وتنامي الفقر وتعميق الفوارق الاجتماعية...
• الديمقراطية ليست نهاية التاريخ:
في كتاب «الشعب في مواجهة الديمقراطية: لماذا حريتنا في خطر وكيف ننقذها» يكذّب الباحث الألماني -الأمريكي ياشا مونك Yasha Mounk نظرية فرانسيس فوكو ياما ، تلك النظرية المتفائلة التي جاءت في نهاية ثمانينات القرن الماضي حول نهاية التاريخ وأفول الأيديولوجيات وتدشين عصر الديمقراطية بقيمها الغربية حول الحرية الفردية والمساواة وببعدها الاقتصادي الليبرالي، نظرية توقعت أن الإجماع حول هذه القيم أصبح «حتميا» اذ يرى ياشا مونك ان الاعتقاد بانتصار الديمقراطية الليبرالية في العالم ،شرقا وغربا ، لا تبرره الا تلك النشوة التي تلت «الانتصار الحضاري» على الحلف الشرقي والشعور بان النموذج الغربي هو الذي يناسب عالم اليوم ، وان الديمقراطيات الغربية التي ربطت، بسذاجة مفرطة، اليا بين الديمقراطية والليبرالية قد أخطأت لأنها جمعت بين مفهومين مختلفين.
وبحسب الباحث الأمريكي، مونك، فان الديمقراطية الليبرالية تشمل اتجاهين منفصلين يتصاعد صراعهما مع تطوّر الازمات الاقتصادية والاجتماعية، الجزء الأول هو حماية الافراد من استبداد الأغلبية عبر نصوص وقوانين ومؤسسات والجزء الثاني هو تسليم السلطة للشعب، وان لم يكن هناك تناقض بين الاتجاهين في سنوات الرفاه التي تلت الحرب العالمية الثانية ، وخاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فان الهوة بينهما قد تعمقت مع الازمات المتتالية للرأسمالية حيث أصبحت الإرادة الشعبية مسيطرة وخانقة احيانا للإرادة الفردية ، مما مكّن قادة شعبويين، انتخبوا ديمقراطيا-أي بإرادة الشعب- من التنمر على المؤسسات وحتى الاستهانة بالمقومات الدستورية ومحاولة ضرب الحريات الفردية باسم الديمقراطية التي جاءت بهم للسلطة.
ولكن الخطر الأكبر يكمن في ان الشعوب، بما فيها تلك التي تعودت على الحرية ،اصبحت مستعدة للتخلي عنها امام صعوبة اوضاعها، اذ حسب استطلاع قامت به المؤسسة الفرنسية للرأي وأبحاث السوق «ايفوب»،سنة 2018، فان 8 بالمائة فقط من الفرنسيين يرون ان السلطة في بلدهم هي بيد المواطنين والناخبين ، ولكن الادهى ان 41 بالمائة من المستجوبين يؤيدون إقامة نظام سلطوي ان كان قادرا على تحسين أوضاعهم ولا يهم إن كان ذلك على حساب المبادئ الديمقراطية ...
• عصر ما بعد الديمقراطية؟
ظهور قادة شعبيون يهددون المؤسسات الديمقراطية وتزايد شعبيتهم أمام عجز النخب السياسية والحزبية التقليدية في دول لها عراقة في فصل السلطات واحترام الحريات وقدسية القانون ومخاطبتهم لمشاعر الناس بإثارة مشاعرهم ودغدغة حسهم القومي الضيّق واستغلال ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية الهشة عبر خطاب مبسط وساذج احيانا لاوضاع جدّ معقدة، يراها البعض نتيجة لهيمنة النيوليبرالية الاقتصادية الجامحة، هيمنة قادرة على هدم أسس البناء الديمقراطي كلّه.
كولين كروش ، عالم الاجتماع البريطاني، يتحدث عن عصر «ما بعد الديمقراطية» حيث أصبحت المؤسسات الديمقراطية لا وزن لها امام صعود قادة شعبويين جاءت بهم الصدف وافرزتهم النقمة على واقع اجتماعي بائس ، اصبحت فيه النخب السياسية والحزبية ضعيفة وغير قادرة على مواجهة المؤسسات الاقتصادية الكبرى والشركات العابرة للقارات ، اذ يجب ان نسأل انفسنا:»ماذا لو اصبحت صناديق الاقتراع لا توفر البدائل لواقع الناس الصعب ؟» ماذا لو اصبحت و الأحزاب، يمينها ويسارها، متشابهة في البرامج والحلول والمؤسسات الديمقراطية عاجزة عن القيام بدورها في إبراز قادة يعكسون طموحات شعوبهم؟ فحين يعجز الاطباء ، كثيرا ما يلجأ الناس للمشعوذين وحين تعجز النخب ، يأتي دور المتطفلين وحين تبتذل السياسة في نخبها ، يبرز «القائد المنقذ».
• كما تنتخبوا يُولّى عليكم
من العبارات المتواترة في المجتمعات الاسلامية هي «كما تكونوا يولى عليكم» والمقصود بها-تقليديا على الأقل- أن الحاكم ، إما ان يكون عادلا ورحيما برعيته، وهو بذلك نعمة من الله على المؤمنين ، أو ظالما ، جاء عقابا لقوم فسقوا في الأرض وعصوا تعاليم دينهم، لذلك على الرعية أن تقبل بمن يتولى امرها ، مادامت تلك هي مشيئة الله.
لكن ماذا لو اختار الشعب من يحكمه بكل حريّة ؟ هنا يظهر في تقديري التباس مهم ، وهو استعداد اغلب الشعوب في البلدان العربية والاسلامية ، حتّى بمحض ارادتها ، لاختزال الارادة الالهية وانزالها في اشخاص لهم من «النقاوة وحسن السريرة «ما يجعلهم في مرتبة مقدسة ، وهنا ايضا تجد الشعبوية الطريق معبدا وسالكا في بلدان لم تتمكن شعوبها بعدُ من أن تثق في قواها وقدراتها وارادتها، وهكذا يمكن للحاكم المنتخب ديمقراطيا ان يضرب بكل المؤسسات عرض الحائط وينصب نفسه فرعونا ، بإرادة الشعب ، لذلك نحن في حاجة الى قراءة جديدة للديمقراطية والحرية والارادة ، قراءة تتعدى شروط هذه القيم وقواعدها لمساءلة أسسها الثقافية ومدى تطابقها مع تفكيرنا وتقاليدنا.
منبــــر الشعبوية: حين يعجز الطب، قد يلجأ الناس إلى المشعوذين
- بقلم مسعود الرمضاني
- 10:11 21/11/2022
- 2207 عدد المشاهدات
تونس ، التي عرفت تصاعدا غير مسبوق للشعبوية منذ الانتخابات البرلمانية والرئاسية سنة 2019 انتهت بتجميد مسار الانتقال الديمقراطي برمته