أتفق تماما مع القول بان المجتمع المدني مرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة المواطنة والديمقراطية وان دونهما لا وجود لمجتمع مدني مستقل وفعّال وناجع، كما قد أتفق مع الدكتور عزمي بشارة في ان المجتمع المدني العربي، في مجمله، قد انتعش إثر انتكاسات اصابت الايديولوجيات القومية واليسارية في اواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لكن الحالة التونسية، في اعتقادي، لها خصوصيتها، اذ تتجاوز مجرد الحسم مع عديد الطوباويات الايديولوجية التي لازالت تسكن جزاء هاما من النخب الفكرية والسياسية والمدنية رغم الاحباطات المتتالية وتجارب الحكم الكارثية، ذلك لان المجتمع المدني التونسي تنامى بالتوازي مع احتكار السلطة زمن بورقيبة وبن على للفضاء السياسي وغلق كل المنافذ امام نخب يسارية وليبرالية غادرت الجامعة متأهبة للعب دور في الحياة العامة، نخب تحمل عديد الافكار المعارضة لتوجهات السلطة وخياراتها، بعد ان انغلق الحكم على ذاته وتقوقع وتآكلت مصداقيته.
وامام انسداد الافق السياسي وتفرّد السلطة بالفضاء العام ، لم تكن امام هذه النخب الا «التسرب» الى الفضاءات الممكنة والتي قد تكون السلطة غير مدركة لمدى فاعليتها ، أو انها لم تتوقع خطورتها، وكان ابرزها فعاليات نشيطة التحقت بالحركات النقابية والنسوية والحقوقية، وقد سمحت هذه الفضاءات ، رغم تضييق السلطة وممانعتها ،في عهدي بورقيبة وبن علي بافتكاك هامش لابأس به والتأثير فيه، فتغلغلُ اليساريين في الحركة النقابية خلال اواسط السبعينيات ارسى ديناميكية جديدة نجحت في حفر فجوة بين القيادة النقابية و السلطة الحاكمة التي بدأت تفقد الكثير من مصداقيتها بعد الهزات الاجتماعية المتتالية وضمور تأثير شخصية بورقيبة الكاريزمية وبداية الصراع المحموم على الخلافة، بعبارة اخرى ، نجحت قوى اليسار، خاصة، الملتحقة بالاتحاد العام التونسي للشغل في تغيير وجهة المنظمة نحو الاهتمام بالطبقات الفقيرة وبرز خط نقابي تقدمي قوي ما انفك يناكف التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتفرد بالحكم ويطرح البدائل ويضغط عبر التجمعات والاضرابات والاحتجاجات التي توجت بأضراب عام سنة 1978، الاول من نوعه في دولة الاستقلال ، كما نجحت المنظمات النسوية المستقلة على غرار الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات في اظهار محدودية الخطاب الابوي للسلطة حول الانجازات في مجال حقوق المرأة وواجهت صعود التيارات المحافظة ، بل وطرحت بدائل اكثر جراءة تدفع بقوة في اتجاه تحقيق مساواة فعلية بين الجنسين ، مثل المساواة في الميراث واحرجت الحركة الحقوقية النظام في عديد المناسبات واظهرت هشاشة سردياته حول «اولوية البناء الوطني» و»الو حدة القومية» و»خصوصية حقوق الانسان التونسية» حتى اربكت خطابه التبريري داخليا وخارجيا واستغلت ،خلال تسعينيات القرن الماضي ،ظرفا عالميا بدأ يبدي اهتماما (ظرفيا) بحقوق الانسان ويشجب انتهاكها ،وذلك تلازما مع توسع العولمة وسقوط المعسكر الشرقي ،لتربط علاقات قوية مع منظمات وطنية ودولية ولتكسب اعتبارا اهلها للعب دور مهم خلال انتفاضة 2011 والسنوات التي تلتها ، عبر ثلاث محطات مهمة: الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة وصياغة دستور 2014 والاشراف على الحوار الوطني الذي توّج بجائزة نوبل للسلام.
وهكذا عرف المجتمع المدني تحولا مهما، من الصراع لافتكاك مواقع في فضاء عام ترفض السلطة التنازل عن احتكاره وتراقبه سياسيا ودعائيا وامنيا الى لعب دور سياسي بامتياز من خلال تأطير الاحتجاجات واحتضانها وضمان انتقال ديمقراطي هادئ رغم بعض الفوضى التي أعقبت الانتفاضة وتصاعد الإرهاب والتيارات الدينية المتطرفة...
• وضع سياسي جديد بعد جائزة نوبل:
لكن إذا ما استثنينا المحطات السياسية المهمة، فقد وجدت المنظمات المدنية وكذلك المركزية النقابية نفسها خارج سلطات القرار ولم تستطع ان تفعل الكثير امام أطراف حزبية متحفزة لها شرعية انتخابية لكنها تسئ استعمال السلطة وترذل العمل السياسي وأدت بالبلاد الى أوضاع كارثية، لا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي فقط، بل وكذلك على المستوى الصحي حين وقفت الحكومة عاجزة امام مئات من ضحايا جائحة كورونا، في الوقت الذي يتصارع فيه أعضاء البرلمان من اجل تثبيت سلطتهم وسلطة احزابهم...لذلك شعرت المنظمات المدنية بانها خارج اطار القرار و الفعل، بل وحتى مطالبتها المتكررة بحوار وطني للخروج بالبلاد من الازمة قبيل 25 جويلية 2021، لم تجد اذانا صاغية وقوبلت بالتهميش واللامبالاة.
• إجراءات 25 جويلية 2021 والمجتمع المدني المنقسم:
لكن سوء الأوضاع السياسية وانسداد افق الخروج من الازمة لا يبرران ارتباك جل منظمات المجتمع المدني ، فارتباط المجتمع المدني بقيم الديمقراطية الذي أشرنا اليه سابقا يحيلها الى ضرورة التمسّك بمسار مؤسسي واخلاقي، أي بعقد اجتماعي بين هياكل الدولة والمجتمع تكون دائما مرجعيته القوانين الوضعية والدساتير والمؤسسات، وكذا بالنسبة للمواطنة التي تستوعب الجميع وتتجاوز الانقسامات السياسية والأيديولوجية لتحيل الى وطن شامل، بقطع النظر عن اختلافات المشارب، وطنٌ يسعى كل مواطنيه الى حل مشاكلهم ومشاغلهم عبر الحوار واحترام القانون وليس عبر المغالبة والرفض وإرادة الهيمنة.
• حساب الحقل وحساب البيدر:
طغت اذن خلال الايام الاولى بعد إجراءات 25 جويلية 2021حالة من الارتياح والانتظار للخطوات التي سيتخذها قيس سعيد، املا في انه، بالتوازي مع تقليص سطوة حزب النهضة وصخب التيارات الشعبوية على غرار ائتلاف الكرامة والدستوري الحر، ستمهد الى حوار وطني تلعب فيه المنظمات الوطنية الدور الرئيسي، وكانت اللقاءات التي اجراها الرئيس مع عديد المنظمات الحقوقية وغيرها بُعيد توليه كل السلطات بمثابة الاعتراف بأهمية هذه المنظمات ولقد فهمته قياداتها على انها ستكون تمهيدا لدور مستقبلي في تحديد مسار البلاد.
لذلك غضت اغلب المنظمات الطرف عن التجاوزات ولم تكلف نفسها التساؤل حول مدى قانونية الاجراءات التي اتخذها قيس سعيد ومدى ملاءمتها للفصل 80 من الدستور ، ولم تكن البوادر الاولى للاستفاقة الا بعد ان أُنتهكت العديد من الحريات الاساسية ومُنع العديد من رجال الاعمال والسياسيين من السفر دون سبب قانوني واضح ووضع البعض الاخر تحت الاقامة الجبرية دون اذن قضائي ووظفت المحاكم العسكرية لمقاضاة المدنيين بسبب انتقادهم للرئيس ووقع التضييق على الاعلام ، هذه الإجراءات أحدثت ارتباكا كبيرا داخل منظمات المجتمع المدني ، وخاصة تلك التي لها تاريخ نضالي مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنية للمحامين ، المنظمتان اللتان شاركتا في الحوار الوطني الذي توّج بإنجاح الانتقال الديمقراطي واستحق جائزة نوبل للسلام سنة 2015، لكنهما المنظمتان اللتان حافظتا على علاقة قوية مع الرئيس ووافقتا على مساره الانفرادي وشاركتا في الخطوات التي اقرها في خارطة طريقه، ابتداء من الاستشارة الالكترونية وانتهاء بالحوار الذي قاطعته جلّ المنظمات.
واعتقادي أيضا، ان هذا الارتباك، خاصة في بداية مسار 25 جويلية، لا يخلو من رواسب أيديولوجية عمقها غرور حركة النهضة طيلة فترة حكمها و مكابرة بعض حلفائها، وهي رواسب قديمة لم تستوعب بعدُ كل ثقافة حقوق الانسان والدفاع المبدئي عن الحرية بقطع النظر عن طبيعة الأشخاص ومواقفهم وانتمائهم، عكس الاجيال الحقوقية السابقة التي، رغم عقيدتها السياسية والايديولوجية، عُرفت بمواقفها المبدئية تجاه تجاوزات السلطة، سواء كان ذلك زمن بورقيبة أو خلال حكم بن علي، كما كان لظهور الرئيس في عديد المرات الى جانب القوات الامنية والعسكرية، بما تحمله هذه القوات المسلحة من صرامة في تطبيق الأوامر وسرعة الرد الحاسم، ظهور ارفقه بخطاباته التخوينية والتهديدية المتهمة لجل الفاعلين المدنيين والسياسيين بالشبهة، اثر في تردد وخشية البعض.
• والان ؟
انه لمن الصعب اليوم ان يعود المجتمع المدني التونسي للعب الدور المحوري الذي لعبه في المنعرجات الهامة من تاريخ البلاد وان يساهم في إعادة بوصلة السياسة الى وضعها الطبيعي قبل ان يقوم بمراجعة شجاعة لمسار السنة الماضية بأكمله، مراجعة شاملة تضع كل مواقفه السابقة في تناظر مع الدور المنوط له في ترسيخ الديمقراطية والمواطنة بمعناهما الشامل دون انكار او تجنّي ، ولابد ان يقوم بذلك ذلك قبل فوات الأوان ، أي قبل أن يكون مصير منظماته مشابها للهيئات المستقلة الأخرى التي اضمحلت ، لان الخطاب السائد الان هو خطاب لا يعترف بالأجسام الوسيطة (منظمات وهيئات)ولا بدورها المجتمعي ،فهي ببساطة «عائق امام الديمقراطية المباشرة»، أي تلك التي تحقق «التواصل المباشر بين القيادة وإرادة الشعب».
منبــــر: المجتمع المدني التونسي وضرورة المراجعة
- بقلم مسعود الرمضاني
- 11:17 16/09/2022
- 2297 عدد المشاهدات
«وما يحز في قلبي عند الانزلاق، هو أني أعلم أنني كنت قادراً على الصمود»
(جون جاك روسو، دين الفطرة)