إذ عادة ما تفتح هذه اللحظات المهمة والمصيرية في تاريخ الشعوب مرحلة من التفكير النقدي والتقييم للأنساق الفكرية السائدة والسياسات العمومية التي حددتها .وتنتج عن هذا المخاض الفكري والسياسي أنساق فكرية جديدة وسياسات عمومية مختلفة تساهم في فتح لحظة تاريخية جديدة ومسار جديد.
ولا تختلف اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم عن فترات الأزمات الأخرى في التاريخ المعاصر .فقد فتح تواتر الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والمناخية فترة من المخاض الفكري والسياسي منذ الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009.وكانت هذه الأزمات على مستوى السياسات العمومية في المجال الاقتصادي وراء الخروج من النسق النيوليبرالي الذي ساد وهيمن على السياسات الاقتصادية منذ بداية ثمانينات القرن المنصرم.فعادت الدولة إلى تدخلها النشيط في الوضع الاقتصادي ومحاولة تفادي الأزمات والكوارث التي ساهم فيها السوق وتراجع آليات المراقبة مما فتح الباب واسعا أمام جشع المضاربين والمغامرين ونهمهم .
ولئن ساد بعض الفتور على هذه السياسات الجديدة إلا أنها عادت إلى الصدارة بقوة مع الجائحة حيث لعبت الدول والسياسات العمومية دورا أساسيا في مجابهة الفيروس على عديد المستويات من الصحة إلى البحث العلمي إلى حماية المواطنين والاقتصاد من الانهيار.
مع تراجع الأزمات المالية والاقتصادية وتراجع حدّة الفيروس يبدو أن هذا التغيير والتحول الكبيرين في السياسات الاقتصادية لن يهدأ بالهما بل سيتواصلان وسيتدعمان في السنوات القادمة لينتجا أنساقا فكرية جديدة تؤسس لسياسات مختلفة وتهيئ لمرحلة تاريخية جديدة .
ولعل أحد أهم القضايا التي أثارت الكثير من الاهتمام وحتى الجدل في النقاش العام تلك التي تخص دور الدولة في الديناميكية الاقتصادية .وهذا الحديث وهذه المساهمات المختلفة حول هذا الدور ليس جديدين.فمنذ ظهور الاقتصاد السياسي الحديث في منتصف القرن الثامن عشر مع تطور الرأسمالية في أوروبا حظيت الدولة ودورها الاقتصادي باهتمام أكبر الاقتصاديين .
أثارت هذه المسألة الكثير من النقاش والجدل لتكون لأكثر من قرنين من الزمن أحد أهم المواضيع التي اهتم بها وناقشها الاقتصاديون .
وقد عرف الحديث عن دور الدولة ظهور نسق فكري وسياسي ساد وهيمن على السياسات العمومية منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي والذي حصر هذا الدور وحدده في تعديل حركة الاقتصاد وديناميكيته والسهر على حسن عمل السوق .وقد قطعت هذه الرؤيا مع التصور السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي جعلت من دولة الفاعل الأساسي في السياسات الاقتصادية وجعلت منها الركيزة الأساسية لمجتمع الرفاه ومجتمع الاستهلاك الشامل (consommation de masse) إلا أن أزمة العصر الذهبي للنمو الاقتصادي في العالم الرأسمالي (les trentes glorieuses ) ستؤدي إلى نقد هذا التصور ونهاية عصر التدخل الشامل للدولة .وجاءت الثورة النيوليبرالية في بداية ثمانينات القرن الماضي لتضع حدّا لهذا التدخل وتجعل من السوق الآلية الوحيدة لتنظيم الاقتصاد ولتحفيز الاستثمار.إلا أن النسخة الليبرالية الراديكالية لن تصمد طويلا أمام النقد وخاصة أمام تعقد الأنظمة الاقتصادية لتفسح المجال إلى نظرة أقل
حدة في التعاطي مع دور الدولة .
من هنا برزت فكرة أو سردية الدولة المعدلة (Etat régulateur) والتي أخذت مكان وسردية الدولة الإستراتيجية أو (Etat stratégie) .
وشكلت هذه الرؤيا تراجعا عن النظرة الموغلة في النيوليبرالية ومحاولة بناء رؤيا وتصور أكثر واقعية للدولة ودورها في الاقتصاد.ولا تنفي هذه الرؤيا دور الدولة بل تحدده بطريقة كبيرة ليقتصر على تعديل الاقتصاد ومحاولة إصلاح أخطاء السوق وفي بعض الأحيان عجزت على بناء التوازنات الاقتصادية الكبرى وعلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي .
وكانت هذه الرؤيا الجديدة لدور الدولة وراء توافق (consensus) فكري وسياسي هيمن على السياسات العمومية في أغلب البلدان .
إلا أن الأزمات المتتالية الاقتصادية والاجتماعية والمناخية والصحية كانت وراء نسف هذا التوافق الليبرالي الناعم وبروز رؤى وأنساق فكرية جديدة تؤكد على الدور الاستراتيجي والنشيط للدولة للخروج من مجتمع المخاطر وبناء سياسات عمومية جديدة تمكننا من الوصول إلى بر الأمان .لكن قبل العودة إلى هذا النقاش سنحاول التوقف عند المسار التاريخي الذي عرفته مسالة الدولة ودوره في الاقتصاد .
• تطور دور الدولة الاقتصادي
في التاريخ
عرفت مسألة دور الدولة على المستوى الاقتصادي تطورا كبيرا في النقاش والتحاليل الاقتصادية منذ منتصف القرن الثامن عشر وظهور الاقتصاد الحديث.ولعل إحدى أولى القراءات والتي لازالت مؤثرة إلى حدّ اليوم في النقاش الاقتصادي هي التي قدمها الاقتصادي البريطاني ادم سميث (Adam Smith) والذي أكد على مبدإ «اليد الخفية» و (La main invisible) .
وقد أشار سميث في هذه القراءة على أن السوق قادرة لوحدها على تعديل النظام الرأسمالي و على تحقيق التوازنات الكبرى والاستقرار الاقتصادي .
وفي هذا الإطار لابد لدور الدولة أن يقتصر على خلق وبناء البنية التحية من طرقات ومستشفيات ومدارس وعلى حماية الملكية الفردية وخلق المؤسسات والقوانين من أجل المحافظة على الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين .
وكانت هذه الرؤيا ثاقبة وقوية من الناحية الفكرية حيث واصلت تأثيرها على التفكير الاقتصادي والسياسات العمومية على مدى أكثر من قرنين إلا أن هذه الرؤيا كانت محل نقد كبير اثر الأزمة العالمية الكبرى لسنة 1929 من طرف الاقتصادي الانقليزي الكبير جون مانار كينس (John Maynard Keynes) .وأكد كينز في مؤلفاته القليلة التي كان لها تأثير كبير أن هذه الأزمات الاقتصادية وتواترها نتيجة طبيعية لعجز السوق عن تعديل حالة عم الاستقرار الملازمة والكامنة في النظام الرأسمالي.وهذا العجز يتطلب تدخلا كبيرا للدولة لتحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي .
وقد أضاف عديد المفكرين والاقتصاديين آراء وأفكارا جديدة للنسق الفكري الذي صاغه كينز .ومن ضمن هؤلاء المفكرين يمكن أن نشير إلى الاقتصادي النمساوي جوزيف شامبيتر (Joseph Schumpeter) الذي أكد على أن تدخل الدولة الذي أوصى به الاقتصادي الانقليزي يقتصر على المسائل والتوازنات الكلية ولابد من تطويره على مستوى المؤسسات الاقتصادية.وفي هذا المجال أكد الاقتصادي النمساوي على أهمية دعم الابتكار والتطور التكنولوجي والذي يشكل الأساس في تطور النظام الرأسمالي في نمو المجتمعات.
وقد ساهمت هذه البحوث والقراءة في ظهور نسق في منظومة فكرية جديدة اثر أزمة 1929 والتي همينت على التفكير والسياسات العمومية اثر الحرب العالمية الثانية .وكان هذا النسق وراء نقد كبير لليد الخفية وعودة قوية للدولة في المنظومة الاقتصادية التي عرفت بدولة الرفاه أو Etat providence.ورغم اختلاف التجارب بين الدول اعتمد هذا النظام الاقتصادي الجديد والذي يرتكز على دور نشيط للدولة على أربعة مبادئ أساسية .المبدأ الأول يهم الدور الاستشرافي والاستراتيجي للدولة من خلال عملية التخطيط للمستقبل ومحاولة بناء رؤى وتصورات مستقبلية .ومهمة التخطيط (رغم بعض الاختلافات) أصبحت شائعة بين أغلب البلدان من الدولة الرأسمالية إلى البلدان الاشتراكية والى البلدان النامية التي تحصلت حديثا على الاستقلال .
أما المهمة الثانية للدولة في هذه المرحلة التاريخية فهي العمل على حماية ودعم العقد الاجتماعي الفوردي (contrat social fordiste) والذي ربط تطور الإنتاجية بتطور مداخيل الأجور .وساهم هذا الربط في نمو الاستهلاك الجماهيري (consommation de masse) الذي أعطى دفعا كبيرا للاستثمار والنمو .
وتعود المهمة الثالثة للدولة في هذه المنظومة الاقتصادية في الدور النشيط في الاستثمار من خلال الاستثمار العمومي أو المؤسسات العمومية .أما المهمة الرابعة فتهم الجانب الاجتماعي وقيام الدولة بتحديد سياسات اجتماعية تساهم في تطوير العدل والمساواة الاجتماعية .
وقد ساهمت هذه السياسات في دفع النمو وفي نجاح دولة الرفاه في أغلب بلدان العالم وفي تحقيق الرفاه الاقتصادي والمساواة الاجتماعية .واعتبر الكثيرون أن الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى منتصف سبعينات القرن الماضي الفترة الذهبية في تاريخ الاقتصاد العالمي .
إلا أن هذا الحلم توقف مع منتصف السبعينات مع تطور الأزمات الاقتصادية وتواترها ليفتح فترة جديدة من التراجعات حول دور الدولة الاقتصادي.