تحيل أولاها على ضرورة الربط ضمن مدركاتنا الجمعية بين التعبير عن السخط indignation تونسيا ومجابهة نطام الحكم التسلطي، لا مواجهة نظام ديمقراطي تمثيلي على غرار ما عينته بعض البلدان المتقدمة. كما أن تعبيرنا كتونسيين عن الصمود résilienceقد حصل ضمن سياقات مخصوصة اتسمت بطابع محافظة غير خاف لكل عين بصيرة.
أما ثاني تلك الفرضيات فترتبط بالثورة الاتصالية التي عرفها العالم منذ قرابة الثلاث عشريات، وهي ثورة لم يصحبها توجّه نحو صياغة مشروع تضامني كوني على الحقيقة، في حين أن الهشاشة التي طالت واقع التعاقد أو التشغيل كونيا لا تنبئ من جانبها عن حضور ملموس لدول عادلة.
أما أخر تلك الفرضيات فتتصل بالفورات أو بالتعبيرات الاحتجاجية الساخطة كونيا، وعلاقة ذلك بمعضلة بناء تصور جديد للتعاقد ينبني على توسيع دائرة التضامن، بغرض تشكيل مدلول ملموس لمفهوم المواطنة الكونية. وهو ما يدعونا إلى إعادة التفكير في مناويل أو مناهج البحث في الانسانيات والاجتماعيات قصد صياغة قراءة دقيقة لما يعتمل من مظاهر عدم الرضا بالواقع والتهيب من انتفاء الشروط الناظمة لدول ما بعد تصفية الاستعمار.
تلك هي الفرضيات التي بادرنا بالإشارة إليها قبل معاودة زيارة النظريات المستندة على المغالاة في تقديس الشعوب، قبل التخلص إلى فهم علاقة ذلك بسياقات زمن الجائحة تونسيا وتمظهرته.
الشعبوية السياسية: مقاربات «ما بعد الديمقراطية»:
وظفت لفظة الشعبوية غربا وعند ثمانينات القرن التاسع عشر، بغرض إدانة الممارسات الديماغوجية والانتهازية للمعارضة السياسية. غير أن تقدم البحوث العاملة على تفكيك هذه الظاهرة ساهمت في توسيع المجال المعجمي لتلك اللفظة عبر الاغضاء عن ذكر الفئات الشعبية ضمن الخطاب السياسي للأحزاب، والتركيز في المقابل على ما يتسم به سلوك الأوساط الاجتماعية وخاصة المحسوبة من بينها على تيارات اليمين المتطرّف من رعونة مغالية في تقديس الشعب وتضخيم مجمل التمثلات التي تحيل عليه. وهي حقيقة شددت عليها العديد من المقاربات منذ أن طفت تصورات النازي كارل شميت Carl Schmitt المدافعة على حكم مطلق جديد وحتى لإرساء التصورات السياسية المتصلة ما سمي بـ «ما بعد الديمقراطية»، على غرار العروض التي صاغها «جاك لارنسيير Jacques La Rancière» ضمن مؤلفه «المعلم الجاهل Le maître ignorant» وارناستو لاكلو Ernesto Laclau الذي شدّد ضمن مؤلفه «العقل الشعبوي La raison populiste» على أن: «هذا الخط في الفكر السياسي ليس ظاهرة هامشية ولكنه واحد من أكبر الأعطاب الحقيقية التي يمكن أن تنتاب طريقة اشتغال كل اجتماع بشري. وهو ذات ما أحالت عليه العديد من مؤلفات المؤرخ وعالم الاجتماع «بيير روزنفالون Pierre Rosanvallon» سواء ضمن «أزمة الدولة المنعمة La crise de l’Etat providence» أو ضمن كتاب «قرن الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد Le siècle du populisme: Histoire, théorie et critique»
وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى تلازم واقع التعسر تونسيا مع ما عاينته العشرية الماضية كونيا من أوضاع سلبية الشيء الذي عمّق من منسوب التشاؤم القلق ممّا يمكن أن يخفيه المستقبل والخوف مما قد يحصل في مقتبل الأيام، مع تفاقم شعور حاد بانفراط ما تم إنجازه أو مراكمته وتراجع بريق فكرة التقدّم التي خفت توهجها بحلول الألفية الجديدة، لدى جميع المدافعين عن التصورات الحداثية يساريين كانوا أو وطنيين.
هناك إحساس مؤرق لدى جميع شعوب العالم حاضرا بأن الأجيال الحالية تعيش على حساب رصيد الأجيال القادمة. وهو ما تؤكده العديد من المؤشرات الموضوعية على غرار:
انهيار أنظمة التغطية الصحية وجرايات انتهاء الخدمة، وتزايد عدد المحسوبين على أنظمة التشغيل الهشّ، ومحدودية الثروات، وندرة المياه الصالحة للشرب، وانحسار الأراضي الصالحة للزراعة، والاحتباس الحراري، والمشاكل المترتبة عن التلوث، وتعاظم المديونية العمومية، وتضخم مصاريف خدمتها سنة بعد أخرى، وأزمة نموذج دولة الرعاية وانهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي وانحسار التقدم الاقتصادي غربا. وذلك وفقا لما بلورته الدراسات النقدية بخصوص نظرية «الفضاء العام ما بعد البرجوازي» كما عرضتها مباحث عالمة الاجتماع الأمريكية «نانسي فرازر» ضمن مؤلفها الموسوم بـ «ما الذي تعنيه العدالة الاجتماعية؟»(N. fraser: qu’est-ce que la justice sociale, Paris, la découverte, 2001). لذلك يحسب للمتفائلين تمسكهم بروح المقاومة العنيدةrésilience ، وللتشاؤمين تعدّد أعذارهم في التعبير عن السخط وعدم الرضا indignation، حتى وإن شكل التحلّي بالشجاعة ومباشرة الفعل أنجع الحلول ضد تعاظم منسوب الخوف والكراهية وانذارهما بالخروج عن السيطرة.
وهكذا فإن ما يتعين الاحتفاظ به هو الحذر من السقوط في جميع أشكال التصرفات الشعبوية التي تتعيّش من تراجع بريق الديمقراطيات التمثيلية، معوّلة على خطاب ديماغوجي يدّعي الصدور عن الشعب بجميع مكوناته، الشيء الذي يتعارض بالكامل مع الديمقراطية تلك التي تتيح للأحزاب، كما للمجالس النيابية أو النقابات أو المنظمات فرصة التعبير المنظم عن وجهات نظر منظوريها أو المنتسبين إليها أو من تمثّلهم بالاستناد على نظام الاختيار والاحتكام إلى صناديق الاقتراع «آليغري eligere». لأنه غالبا ما يتم الاتكال في رفض هذا التمشي، على اعتبار جميع المحسوبين على النخبة السياسية مأجورين وفاسدين Tous pourris، مع الدفع باتجاه مزيد اضطرام المشاعر الحسيّة وتحريك الوجدان الجمعي المعطوب، دون تشغيل لآليات التحليل العقلاني أو اعتبارا بدواعي التصرّف الرصين، مع اللعب على مشاعر الخوف والغضب أو السخط، وتعاظم الأحقاد والكراهية، وهو ما يُغري الحشود عند استفحال الأزمات والشعور بالضعف والمهانة. هذا الوضع تحديدا هوما أكدته تجارب سياسية محاثة كونيا شرقا وغربا على غرار تجربة «هيغو شافيز» وحلفائه بفينزويلا (المحسوبين على النظرية الشعبوية اليسارية)، أو ضمن التجارب الشعبوية اليمينية بأوروبا الشرقية، وهي تجارب عكسها الواقعان السياسيان البولوني والمجري Jaroslaw Kaczinski و Viktor Orban، بصرف النظر طبعا عما عاينه بريطانيا حال انتصار المتشيّعين عبر للخروج من الاتحاد الأوروبي أو الـ Brexit أو وصول Donald Trump ممثل اليمين المحافظ للسلطة بالولايات المتحدة الأمريكية.
وعموما تبدو الديمقراطية التشاركية وبعد عشرية كاملة من الأزمات العميقة والانتشار المفاجئ للجائحة الوبائية، غير قادرة على تحقيق النتائج المرجوة من اعتمادها في تنظيم الحياة السياسية، لذلك يجد المدافعين عنها حاضرا صعوبة جمّة في مجابهة المطبّات الناجمة عن تسارع نسق العولمة وكارثية إعادة تركيز المؤسسات الصناعية العابرة للأوطان وتضخم مكانة مجموعات الضغط والنفوذ، تلك التي لم تعد تجد كبير صعوبة في فرض أشكال تعاملها على صانعي القرار السياسي كونيا، فضلا عن السعي الدؤوب إلى توريط المؤسسات السياسية في شرك مخططتها الربحية الانتهازية.
وعموما يبدو العالم على وشك رسم خريطة جديدة للنفوذ يحكمها فاعلون جيو استراتيجيون جدد. كما أشرعت سياسات الهيمنة المفروضة من قبل ديمقراطيات العالم الحر الباب أمام سياسة المنافسة غير الشريفة لإمبراطورية الوسط القديمة (الصين) بممارساتها المتسلّطة وتكتيكاتها الرقمية الكارثية، تلك التي وظفت الثورة الاتصالية قصد مزيد التضييق على الأفراد بعد سلبهم من كل حرية فعليّة. فالاتصال الشبكي للعالم لا يضع في اعتباره راهنا مجابهة الصعوبات الناجمة عن سرعة نسق التحديث، بل يبدو غير معني تماما بالسعي بشكل واضح لبناء مستقبل متضامن للإنسانية جمعاء، بينما لا ينبئ واقع الهشاشة ضمن سوق الشغل كونيا على حضور فاعل للدولة العادلة.
وليس بعيدا أن يكون هذا الانتقال هو المتسبب الرئيسي في تقلّص منسوب ثقة الناخبين في آليات الأنظمة السياسية للديمقراطيات التشاركية وقدرة الفاعلين السياسيين أيا كانت توجهاتهم وتلويناتهم الفكرية على مجابهة تشعّب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تنطوي عليها حياة الناس حاضرا. لذلك فضّل أغلبية الفاعلين التقليديين الانسحاب من الساحة السياسية، وتمّ استبدالهم تدريجيا -وباعتبار قانون التسوية إلى أسفل- بممثلين عن التيارات السياسية للحركات ذات المرجعيات اليمنية، دينية كانت أو مدنية. وهي تيارات ثبت انخراطها في تصوّرات سياسية شعبوية تشهّر بخيانة النخب، عامدة إلى تأجيج نوازع الحقد والكراهية وتعميق حقيقة الكسر الاجتماعي، الذي أضحى ماثلا للعيان، ليتجسم كونيا ضمن الأعمال الابداعية التي تحيل مضامينها عن تعاظم العوز وتزايد أشكال الهلع أو «الديستوبيا»، مع الشك في إمكانية الحياة بسلام فوق كوكب تم الافراط في تدمير توازناته الحيوية وإهدار مقدراته بشكل كارثي.
قراءة في تشكّل الشعبوية السياسية التونسية في زمن ما بعد 2011
يجزم كل متابع لواقع الفضاء العمومي التونسي حاضرا توفّره على جملة من الأطر المتخيّلة التي تحيل على أولئك الذين فازوا بانتخابات 2011 و2019 رافعين شعار الهوية الإسلامية الذي اندمجت في حياضه فكرة الأمة ضمن فكرة الوطن، والذي استحال معه تعقّل مسألة خدمة الصالح العام خارج التصوّرات الاعتبارية التي تحيل على أولوية الاحتكام إلى مقومات الفكر العربي الإسلامي، لذلك فإن حضور هذا المتخيّل الجمعي ضمن آليات اشتغال الأحزاب السياسية الدينية على غرار حركة النهضة والسديم الائتلافي الذي تشكّل حولها يعبّر عن نفسه من خلال ادعاء الصدور عن شرعية ثورية متوهّمة، اتصلت بالمساهمة الفعاّلة في تحرير دستور 2014، وكذا المصادقة على الممارسات العنيفة المزرية بمؤسسات الدولة التي أتتها «روابط حماية الثورة».
والبيّن أن الأخطاء المتعدّدة التي وقع فيها هؤلاء والتي كشفت عن قلة نجابتهم في تصريف الشأن العام، لم تدفعهم إلى الاتعاظ وتغيير سياساتهم الكارثية، حتى وإن ثبت لديهم بأن الطريق لم تكن سالكة أمامهم لتحقيق أهدافهم الرامية إلى فرض تصوّراتهم المحافظة على مختلف شرائح المجتمع التونسي.
ولعل ما يحصل في تونس غير منفصل بالمرة عمّا يجري في العالم. فقد ثبت بالتقصي الميداني أن التحركات الاجتماعية التي عاينتها البلاد منذ قرابة العشرية قد احتكمت إلى آليات متشابهة سواء في ما يحيل على مخزونها الاحتجاجي، أو على أشكال مجابهتها من قبل الدوائر الأمنية، سواء تم ذلك في البلدان العربية، أو عاينته دول أخرى على غرار ما شهدته الولايات المتحدة في غضون ربيع 2020. فما ينبغي الاحتفاظ به قبل سواه، هو أن «متخيل الاحتجاج» الذي سيَدفع حال اندلاع شرارته الأولى إلى حصول قطيعة غير منتظرة في مسار طويل une discontinuité aléatoire. وهي وضعية لا يمكن لأي طرف ادعاء فكّ شفرتها واستباق حصولها. فقد مكنت هذه الهزات القوية التي عرفها العالم من قلب مسار التعبير عن السخط كونيا. كما أثبت من جانب آخر أن ردود الفعل الأمنية ذات الطابع التقليدي لم يعد بوسعها -وخارج إطار التفاوض وتشبيك الوساطات ذات التوجهات المدنية- الخروج بأي طائل حيال مثل تلك الطفرات الخطيرة. لذلك ليس بعيدا في اعتقادنا أن تشكل المرحلة التي نعيشها حاضرا ارتدادات متصلة بهبّة 2011. فتعدّد المحطات الانتخابية (2011 و2014 و2019) لم يفض إلى تجاوز الطابع الانتقالي للحكم من خلال رسم أفق حقيقي لزمن الدخول في الاستقرار السياسي والتداول السلمي على السلطة. فقد عاينت البلاد تعاقبا للحكومات مع تحوّل سريع في الأغلبية البرلمانية نتج عما نُعت تونسيا بـ «السياحة الحزبية». الشيء الذي يبعث على التساؤل بخصوص حقيقة التحوّلات التي طالت الحياة السياسية تونسيا، ومدى قدرة المجتمعات كونيا على مجابهة النتائج السلبية للأزمة؟ وحقيقة ما ستفضي إليه الأوضاع تونسيا نتيجة للظروف العويصة الجدّ متقلبة التي تمرّ بها البلاد. وهي أوضاع تبيّن للتونسيين أن النجاح في انجاز الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتعاقب الحكومات أيضا، قد فشل بشكل ذريع في الحد من تبعاتها؟
فالبيّن أن انخرام التوازنات ضمن المشهد السياسي وانعدام استقراره بالكامل يدعوننا إلى تشغيل آليات جديدة للصمود. وهو توجّه يبدو أن مختلف الأطراف غير مهيئة واقعيا للبتّ بشكل معلن في تفاصيله. فليس هناك في تونس ما يثبت بلوغ الفاعلين السياسيين درجة من النضج تأهّلهم، وبشكل غير قابل للنكوص، إلى إنجاز نقلة في تدبير حقيقة تنوّع الفضاء العمومي، والكفّ عن إعادة انتاج صراعات المراحل التاريخية السابقة. وهي صراعات أعطت طوال العشرية المنقضية انطباعا موهوما بقدرة العائدين من الزمن البنفسجي على مقاومة تغوّل «التنظيم الاخواني» في انتظار عودة الدرّ إلى مكمنه.
وممّا يؤكد هذه الحقيقة حالة العطالة التامة التي يعيشها التمثيل البرلماني، الذي لم ير رئيسه أي غضاضة في إعلان مساعفته التامة للسياسة التسلطية المتّبعة من قبل زعيم الإسلاميين الأتراك، ومغالاته في الاعلاء من شأن ما وسمه بـ «الإسلام الديمقراطي» باعتباره الوريث الأمثل لعصر التوسع أو الانتشار الإسلامي، والحال أن الانزلاق في دواعي التسلّط غير منفصل في تقديرنا عن الانتشار غير المسبوق للتصوّرات الشعبوية كونيا. بحيث لا يعترينا شكّ في حضور توازي مربك بين ما هو بصدد التشكّل ضمن الفضاء العمومي التونسي ورصيفه التركي، حتى وإن ساهم تشعّب السياقات تونسيا في إكساب الواقع المحلي حقيقته الخاصة. فقد سبق للبحوث أن بيّنت حضور تلازم بين المسارين، مع اختزاله في جملة من العناصر التي تحيل تحديدا على تشكيل تيار رافد للغضب الشعبي يدّعي تمثيل جميع من طالهم الاقصاء وتأثيم التفكير الحرّ، مع التعبير عن الآراء بشكل متسلط باعتبارها الصدى الأمثل لإرادة الشعب أو الروح الحقيقة المطلقة لديه، وبناء مواطنة مغشوشة يتهيأ للفرد ضمنها بأنه بطل يمسك بالحقيقة ويُمثل نموذجا للتونسي الثوري الوريث الشرعي لحركة الإصلاح، بصرف النظر عن مناهضة العمل النقابي وردّ مسؤولية أزمة الأوضاع بالبلاد أو «نكبتها» إلى نخبتها المتعالية على مطالب الشعب المشروعة.
ويتمثل صدى هذه الوضعية في توجّه رئاسة الجمهورية ومنذ انتخاب قيس سعيد إلى التأكيد على التمسك بإرادة الشعب والدفع باتجاه تحويل عدم رضا الغاضبين نحو الأعداء السياسيين، وهو أسلوب ينمّ عن دفع مُضمر باتجاه التسريع بحل مجلس نواب الشعب والمرور إلى استفتاء حول الإصلاح الدستوري وتحوير المجلة الانتخابية. بحيث يبدو رئيس الدولة المنتخب وفيا للاستراتيجية التي أعلن عنها. وهي استراتيجية تتمحور نحو التعبئة السياسية باسم «سيادة الشعب»، الشيء الذي ينهض حجة على أن فهمه للسيادة قد تم اختزاله في زمرة الواقفين في صفّ الخير، مقابل الأشرار ممن جاهروهم بالعداء، الشيء الذي يدفع باتجاه دغدغة المشاعر وتغدية السخط وتحريك الغضب بغرض مزيد التحكّم في الجماهير.
وهكذا تبدو الحقيقة الواحدة القابلة للتحليل تونسيا، هي تواصل التحوّلات في شكل حلقات متضامنة لا تخلو من امتدادات إقليمية وكونية، وهي تحوّلات قد تحتاج في اعتقادنا إلى عشريات من الزمن. بحيث يستقيم واعتبارا لسرعة انقضاء القرن الماضي أن نعتبر أن ما هو حاصل في بلادنا واقع سابق لما سيعرفه الإقليم برمته في عضون السنوات القليلة القادمة، وذلك ضمن سياق كوني مشوب بتعاظم النزعات الانعزالية والتوجّهات السياسية المحافظة وتلبّد الآفاق وتأجج المخاوف الدافعة لتزايد منسوب العنف، وتفاقم الصراعات الإقليمية التي لا يمكن ألاّ تلقي بضلالها العكرة على واقع الأزمة السياسية تونسيا وعربيا.
ضد كل انتظار إذا انخرط رئيس الجمهورية قيس سعيد عند نهاية شهر جويلية الماضي في عملية تصفية أو فرز سياسي مُخلصا البلاد من حالة العطالة التامة التي تردت فيها، حتى وإن اتسم تصرفه بنوع من المخاطرة الحقيقية التي يمكن أن تقضي نهائيا على ركائز دولة الاستقلال تونسيا. ويطرح هذا التحول الطارئ على المشهد السياسي بشكل عميق ضرورة تدبّر الدور الذي يلعبه الـمُتخيل في صياغة تشعبات هذا البناء، الذي يبدو شديد التأثر بما عاينته حاضنته الدولية بعد أن دخلت منذ نهاية العشرية الأولى من القرن الجديد في مرحلة دقيقة عقّدتها الجائحة الوبائية غير المسبوقة والأزمتين الاقتصادية والبيئية. والبيّن أن تلك الأوضاع الصعبة هي التي شجعت رئيس الدولة التونسية المنتخب وتحت غطاء دستوري من احتكار جميع السلطات بشكل مؤقت، مستغِلا فشل المنظومة السياسية التي انخرطت بالكامل في صراعاتها العقيمة، مع عدم نجابة الـمُشرّع في تصور أشكال ناجعة تمكّن من تدبير واقع تعاظم الخلافات بشكل عقلاني. فخلف التوجهات التقدمية المعلنة اتسمت مرحلة الانتقال السياسي تونسيا بطابعها المحافظ، منبئة بتشعب الواقع السياسي مستقبلا وصعوبة تأصيل مدلول القطيعة الثورية، مع سيطرة التوجهات الشعبوية محليا وانتشار تلك الممارسات على شاكلة بقعة زيت كونيا، الشيء الذي يدفع إلى ضرورة وضع ألية ناجعة لتدبير العيش المشترك ضمن الفضاء العام، والاعتبار بدور النوازع الحسّية أو الوجدانية وامتداد الممارسات الشعبوية في تعقيد سيرورة التأهيل الهادئ والتعوّد الرصين على التداول على السلطة. فنحن غير واثقين من انبثاق تجربة ديمقراطية تونسية ذات مواصفات محلية قادرة على تخطي الأفق الأيديولوجي الإصلاحي المفروض فوقيا والموسوم بتسلطيته التي انتهى فصلها وبلغت حدودها الإيجابية. لأن الإيمان بقدرة هذا البلد الصغير حجما وسكّانا على القطع مع الجمود السياسي والتحوّل بالتدرج إلى تجربة من أبرز تجارب التصالح بين مقاصد الإسلام والديمقراطية على قاعدة الفصل التام بين الدين والسياسة قولا وفعلا، لا ينبغي أن يحيل إلاّ على تطبيق القوانين السائدة، وليست له أي علاقة بقضايا الاعتقاد حلالا وحراما. فما من خلاص من ورطة تجسيم شروط «الانتقال الديمقراطي» تونسيا دون إثمار للمسار الذاتي للحداثة، وهو مسار انطلق منذ إصلاحات القرن التاسع عشر، وذلك غبر صياغة مضمون عقلاني لمعادلة الاقرار بحقيقة تنوّع المجال العمومي وحسن تدبير مركّباته المتباينة فكريّا وسياسيّا.