ايضا انها اقلعت في موعدها وهو لعمري لأمر جلل عندما يتعلق الامر بناقلتنا الوطنية الحبيبة… اقول من الطاف الله لأن موعد السفر كان على الساعة السادسة مساءًا يوم ٢٥ جويلية… ولو صار تأخير لعنون بعض المأجورون « القبض على مسؤول سابق بصدد الفرار من مطار تونس قرطاج». رغم أني لا ناقة لي و لأجمل و سفري كان صدفة، و كان اليوم المشهود.
عند وصولي الى بلد اوروبي وجدت اكثر من خمسين اتصال، وارسالية يمكن تلخيصهم جميعا في كلمتي « افتح التلفاز»، او في سؤال صيغة في ابداع التونسي العامي في كلمة واحدة «تتفرج ؟؟؟».
كانت صاعقة سياسية، كانت ليلة من الليالي التي وحدها تونس قادرة على صياغتها.
حالة ستذكر في التاريخ، تماما مثلما يمكن ان يذكر يوم ٧ نوفمبر او ١٤ جانفي الله وحده أعلم، و وحده الغد سيروي في اي خانة ستصنف هذه الليلة.
لكن هذا هو السؤال الذي راودنا و لا يزال جميعا وهو السؤال الذي يفرق اليوم، التونسيين و التونسيات.
وانا اخط هذه الاسطر، اليوم ١٦ ديسمبر ٢٠٢١، ليلة اندلاع ثورة الكرامة، ينتابني بعد سماع خطاب الرئيس يوم ١٣ ديسمبر، نفس السؤال:
هل ٢٥ جويلية سيكون ٧ نوفمبر جديد ام ١٤ جانفي جديد؟ هل سيخلد التاريخ قيس سعيد كمصلح وطني أنقذ البلاد. ليكون من طينة خير الدين باشا والزعيم الحبيب بورقيبة، ام سيذكره كرئيس انفرد بالحكم بعد انقلاب، يبقى الخوض في تقييم فترة حكمه محل خصام ولا موضوعية كما هو الأمر مع الراحل بن علي ؟؟؟
باختصار شديد هل قيس سعيد مشروع دكتاتور يسير بنا الى الهاوية؟ ام منقذ جاء ليصحح مسار الثورة ويذهب بنا الى دولة القانون؟
لهذا اخترت عنوان من ادارة المعنويات الى ادارة التوحش. في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل الذي يحيرني و اتمنى ان يكون يحير الجميع.
• ٢٥ جويلية: بين الانقلاب القانوني والانقاذ السياسي
الرئيس يعلن على الملأ تجميد اعمال البرلمان، و اعفاء رئيس الحكومة استنادا على الفصل ٨٠ الذي يقول نصه للتذكير
(الفصل ٨٠ : لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب.
ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
وبعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما.
ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب)
الاسئلة عديدة في الحقيقة، مثلا، ماذا كان يمكن ان يكون العدد الذي يسنده، استاذ القانون الدستوري قيس سعيد، لأحد طلابه، لو استنتج من هذا الفصل انه يمكن تجميد مجلس النواب وإعفاء رئيس الحكومة، في غياب محكمة دستورية؟؟؟ هل كان سيعتبر التدابير الاستثنائية المعلنة قانونية و سليمة دستوريا لو لم يكن في الحكم ؟؟؟
العلم عند الله، لكن قراءة قيس سعيد رئيس الجمهورية للفصل كانت استنادا على ثلاث أسس
١- تعريفه للخطر الداهم: وهو اعتبر ان الخطر في ظرف الجائحة الصحية متأت من المؤسسة التشريعية و المنظومة المنبثقة عنها
٢ - من تعريفه لمفهوم التدابير الاستثنائية: حيث انه أطلق العنان و جعل من كلمة التدابير مظلة يمكن وضع جميع القرارات تحتها حتى وان عارضة الفصل ذاته
٣ - في غياب المحكمة الدستورية اعتباره نفسه الوحيد القادر على تأويل الدستور، وغيابها لا يعني استحالة الفصل بل يعني تحول صلاحياتها لرئيس الجمهورية.
الآن هل هذه القراءة سليمة قانونية ام لا ؟ في الحقيقة انا لست مؤهل للخوض في هذا، ولكن اغلب العارفين تكلموا عن عدم استقامة الأمور .
لكن، و بالطبع هناك لكن، الجدل ليس فقط قانوني، بل سياسي، والسياسي يمكن تحليله و الحمد لله.
هل سياسيا يمكنه ذلك؟
سياسيا سادتي العبرة بالنتائج، وسياسيًا هناك صورتين اثنين لا ثالث لهما:
الأولى : هي اعلان رئيس الجمهورية يوم عيد الجمهورية في مجلس الأمن محاطا بقادة القوات الداخلية والعسكرية.
والثانية: صورة الشعب يهلل فرحا في شوارع البلاد.
باجتماع هاتين الصورتين.
و باجتماع الصورتين، انتهى الموضوع سياسيا.
انتصر قيس سعيد. نقطة و انتهى.
هو يعلم هذا جيدا، اعلن ثم ترجل بين الجماهير، ثم خلد الى النوم، تاركا ثلة من النواب ورئيسهم يواجهون ابواب البرلمان المؤصدة ويخسرون بمفردهم الحرب الاتصالية حين قالت النائبة « لقد اقسمنا على حماية الدستور»، ليجيبها العسكري «وانا اقسمت على حماية الوطن».
يومها اكتمل النصر، نصر قيس سعيد سياسيا على خصومه، وانتصار مشروعية الوطن على شرعية الدستور، كما خطط لها بالميليمتر الواحد.
• ٢٢ سبتمبر : الأمر و الحاكم بأمره
نزاهة الرئيس و نظافة يده، مقابل مناخ اللا ثقة بين التونسيين والسياسة بصفة عامة.
شعبية الرئيس التي تناهز التسعين بالمئة من جهة، وتدني شعبية المؤسسة التشريعية والاحزاب من جهة اخرى.
تحميل الشعب البرلمان بمشهده العنيف و المشين مسؤولية الأزمة من جهة، و خطابات الرئيس الشعبي المعزول في قصره دون حول ولا قوة لمحاربة الفاسدين و المتآمرين على الشعب التونسي من جهة اخرى …
كلها عوامل و مفارقات جعلت الشعب يختار فريقه و كما قلنا من قبل، خط الفصل كان واضحا، فصار الشعب مع الرئيس ضد الكل.
وهنا بالذات التقط الرئيس اللحظة الفاصلة للإجهاز على اعداءه الذين اصبحوا يمارسون الضغوطات في الداخل والخارج نظرا لبطء تحرك الرئيس.
قيس سعيد اتقن ادارة معنويات الشعب التونسي، و هو ما كان يغيب عن جل الفاعلين السياسيين من قبله، الجميع يتحدث عن إدارة الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وينسى ادارة المعنويات.
نحن في لحظة عاطفية، لا مكان فيها للعقلانية، و هي اللحظة الحاسمة ليجهز فيها قيس سعيد على اعداءه تماما.
فكان الامر ١١٧،امر يلغي دستورا، امر يعطي الرئيس السلطة التنفيذية، والتشريعية، و حتى القضائية لولا لطف من ربك، امر يجعل قرارات الرئيس غير قابلة للطعن امر ليصبح الرئيس الحاكم بأمره، وكان أمرًا مقضيا.
• ١٣ ديسمبر: نهاية الواقع و بداية التاريخ
كما اتحفنا نبي الشعراء ابو الطيب المتنبي « أنام ملئ جفوني عن شواردها، ويسهر الخلق جرّاها ويختصم»…و كما هو الحال بعد ٢٥ جويلية، يضيع قيس سعيد آثار صائديه في غياهب القانون و النصوص…
كيف يمكن لأمر ان يلغي الدستور؟ وكيف يمكن ان يجمع السلط؟؟ وهل هذا تعليق للدستور ام لا؟؟؟ و غيرها من ما أُتْحِفنا به منذ ٢٢ سبتمبر… لينسى الجميع ان الرئيس هو الحاكم الوحيد بأمره و انه لا مفر فعليا من تطبيق رؤيته هو، ولا احد سواه.
لكن ايضا، و ككل مرة والتاريخ القريب يعيد نفسه، السقوط لطالما يبدأ عندما تكون في القمة.
رغم اعلانه حكومة، ووضعه في سابقة تاريخية امرأة تونسية على رأس الحكومة، في إدارة، كالعادة محكمة للمعنويات… ورغم عدم استجابة الشعب لكل المنددين بما سموه، بداية انحراف الرئيس عن خط الاصلاح و الاقتراب شيئا فشيئا من الحكم الفردي المطلق، ورغم شعبيته التي لا تزال في أعلى مستوياتها…
رغم انه في القمة إلا ان على قيس سعيد ان يشعر اليوم بالخطر…
خطر تحمله اليوم المسؤولية كاملة، امام الشعب. خطر فقدانه اكثر من عشرين نقطة في سبر الآراء منذ جويلية، خطر ملل التونسيين و التونسيات من الكلام و مسلسل الخطابات العنيفة المبنية للمجهول…
نعم خطر كان ولا يزال على قيس سعيد توقيه.
صحيح ان الحكم المطلق يمكنك من فعل ما تريد و تطبيق ما تريد، و تغيير ما تريد، لكنه ايضا يضعك في موقع الوحيد المسؤول عن ما ستأول اليه البلاد و العباد.
والوحدانية صفة من صفات الله عز و جل ولكن من صفات الله ايضا القدرة، فإن لم تقدر ستفقد الوحدانية.
ببساطة، ان كنت الوحيد الحاكم فأنت الوحيد المسؤول.
و علما و عملا بهذا، وفي مواصلة لإدارة المعنويات، قام قيس سعيد يوم ١٣ ديسمبر، وليس ١٧ ديسمبر كما قال…
ليعلن نهاية الواقع السياسي بتغيير عيد الثورة من ١٤ جانفي الى ١٧ ديسمبر…
وبداية كتابة تاريخ جديد بإعلانه انتهاء صلاحية الدستور التونسي.
نهاية الواقع وبداية التاريخ
- بقلم عبد القدوس السعداوي
- 11:46 29/12/2021
- 700 عدد المشاهدات
كان عليّ السفر الى خارج ارض الوطن، وكان من الطاف الله الطائرة تقلع على الساعة السادسة مساءً، ومن الطاف الله