منبر: لقد أتت

اثناء نيل الثقة امام مجلس النواب تكلم رئيس الحكومة الياس الفخفاخ عن دولة قوية وعادلة، وصار بعدها الى أداء اليمين الدستورية

وفريقه كما تقتضيه احكام الدستور، ثم جاء الى دار الضيافة لتسلم مقاليد الحكم، في مشهد، تم التحضير له بطريقة محكمة، ليكون جدير بأعرق الديمقراطيات.
سأذكر ذاك اليوم. كنت مطمئنا يومها، ظننت انها ستكون هدنة سياسية … حتى انني استقلت من الحزب وقررت التفرغ لحياتي المهنية والعائلية…الكل كان مثلي مطمئن.
الكل، في مارس ٢٠٢٠، كان يظن انه يعرف من عدوه وانه يمسك بزمام الأمور، لكن ما سيكتشفه الجميع، هو مدى تأثير جائحة كورونا على التوازنات السياسية العالمية عامة وعلى السردية السياسية التونسية خاصة. هذا الوباء الذي سيقلب الدنيا رأسا على عقب.
لم تستطع حكومة الرئيس ان تفعل شيئا مما كانت تنوي فعله، اذ قضت كل جهدها في مجابهة الكارثة. وامام تفاقم الوضع، طفت كل هنات الدولة اللوجستية و الصحية و الاجتماعية على السطح، وأمام تفاقم الازمة الاقتصادية ، و رغم كل المجهودات المبذولة من طرف الجيش الابيض، و الكم الهائل من التضامن الذي شهدناه، الا ان الشعب وجد نفسه وجها لوجه مع الموت.

هذه الوضعية الكارثية جعلت السياسيين يبحثون بعد الموجة الأولى للوباء، عن سبيل للتنصل من المسؤولية.

اليوم لا يبحثون عن عدو بل عن كبش فداء، يقدم قربانا للشعب نظرا لعلم الجميع، اولا بالتداعيات الاجتماعية للجائحة و ثانيا بداية ظهور ملامح الكارثة الاقتصادية التي ستنجر عنها.
فكان اول المتحركين حركة النهضة و حلفاؤها، بتسديد ضربة تحت الحزام السياسي للرئيس، وذلك عبر ما عرف بصفقة النفايات … والتي تم اتهام رئيس الحكومة الأسبق الياس الفخفاخ فيها، باستغلال النفوذ و تضارب المصالح، و منها مطالبته بالمغادرة. كانت النهضة وحلفاؤها يعلمون منذ تعيين الفخفاخ بوجود خلل، ولكنهم انتظروا اللحظة المناسبة، وعدنا الى مناورات السياسة.

لنعود لطرح السؤال من جديد. اين ستقع الكرة هذه المرة؟ في ملعب رئيس الجمهورية ام في ملعب حركة النهضة ؟
ليستقيل الفخفاخ، قبل ان يتم سحب الثقة منه ويرجح كفة رئيس الجمهورية.
يمكن ان يبدو الامر خوضا في تفاصيل، ويبدو هذا الحدث ثانويا، لكنه منعرج كلي في المعركة السياسية.

منعرج على مستويين اثنين :
الأول هو تحول المعركة السياسية الى معركة تفاصيل قانونية.
والثاني هو تحول توجه الرئيس من محاولة اسقاط ما يسميه «المنظومة» من الداخل الى قرار هدمها والمواجهة المباشرة.
وهنا يكمن المنعرج، تحويل المعركة الى قانونية يعني استدراج الرئيس كل الفاعلين السياسيين الى ملعبه، فهو استاذ القانون الدستوري، اي ان له المشروعية، وهو المؤول الوحيد للدستور في غياب المحكمة الدستورية اي ان له الشرعية.
اما تحويل المواجهة الى مواجهة مباشرة يجعل منه يمثل ارادة الشعب ضد عدوين اثنين الاحزاب(كل الاحزاب وليس فقط النهضة) و البرلمان، و هنا اقل المؤسسات ثقة من قبل التونسيين.
ليتحول قيس سعيد من السياسي الشفاف الى قيس سعيد السياسي المكيافالي.
انطلاقا من هذه اللحظة، بدأت الحرب الحقيقية، بدء التحضير لليوم المشهود، يوم ٢٥ جويلية ٢٠٢١.

• حكومة المشيشي والخيار الثاني
مخطئ من يظن ان اختيار هشام المشيشي رئيسا للحكومة كان اعتباطيا، او انه اختير من منطلق الولاء فحسب. ما لا يعلمه حتى المشيشي في حد ذاته حينها، هو ان الرئيس اختاره كي لا يمر.
اختاره ليضع أعداءه بعد استدراجهم الى ملعبه في وضعية ما يسمى في لعبة الشطرنج Échec et Mat.

خياران اثنان:
ان قبل البرلمان يكون قد قبل ان يكون الرجل وزيرا اولا في نظام يعطيه صلاحيات رئيس حكومة، اي ان الرئيس سيكون الحاكم بأمره على رأس السلطة التنفيذية.
واذا رفض البرلمان سيتم حله.
في الحقيقة قيس سعيد اثبت عبر اختياراته المتتالية ان نقطة ضعفه الاكبر هي عدم قدرته على حسن الاختيار، فبعد اختيار رئيس ديوان و تغييره، ووزير خارجية و تغييره، و وزير دفاع و تغييره، ومستشار أول وتغييره، و مستشار عسكري وتغييره، و تغيير سفير تونس لدى الامم المتحدة مرتين والحال ان تونس عضو في مجلس الأمن… اخطأ مرة اخرى و حدث مالم يكن في الحسبان، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن، واكتشف الرئيس ان قوانين اللعبة ليست بالضبط كالشطرنج، فما كان يعتبره بيدق سيستعمله لخرق صفوف المنافس اختار الاصطفاف مع الفريق الخصم.
عدم مصارحة قيس سعيد وزيره، و دفعه نحو الاقصى حتى الوصول الى جمع الاحزاب التي لم يقبل التحاور معها ليلة التصويت على حكومة المشيشي ليطلب منها عدم تمرير الحكومة التي اقترحها هو… دفع المشيشي لاختيار صف البرلمان و التحول من وزير اول الى رئيس حكومة.
ولكن كما له نقطة ضعف الرئيس له نقطة قوة، الى وهي استخفاف خصومه به،، و عدم تقديرهم اياه حق قدره. و مرة اخرى يسقط الجميع في نفس الفخ و يظنون انهم قادرون على عزله في قصره في سوء تقدير كلي مرة اخرى لتغير المعطيات.

• الجائحة حليفة قيس سعيد
«كورينا» هكذا سماها رئيس البرلمان، لم يأخذ راشد الغنوشي عناء التأكد من اسم الوباء فما بالك بتداعياته على الوضع.
نسي الشيخ ان الحكم يعني ايضا انك ستكون في الصفوف الامامية لمواجهة الكارثة، هذا التسونامي الذي اتى على الأخضر واليابس.
موتى بالآلاف، وضع اقتصادي كارثي، وضع اجتماعي اكثر كارثية… كل هذا و التونسيون والتونسيات وجها لوجه مع مشهد برلماني اقل ما يمكن ان يقال عنه انه كان رذيل جدا. عنف، تكالب على المناصب، حروب أيدلوجية ووووو …. وقيس سعيد في وضع البعيد عن المسؤولية، كيف لا وهو الذي قال لهم لا تقبلوا هذه الحكومة و قد رفضوا.

و هنا و امام هذا الفشل الذريع، بدأ الرئيس سياسة « دعه يتعفن» عدم تحرك ديبلوماسي لجلب التلقيح، عدم تمرير الحكومة، عدم المصادقة على تنقيح المحكمة الدستورية، عدم حتى الاحتفال بأعياد الاستقلال و الثورة والجمهورية، في اشارة الى عدم الاعتراف بكل مقومات الدولة الوطنية، لم تعد وحدها الاحزاب والبرلمان اعداءه، بل اصبحت المنظومة ككل، اليوم الرئيس يختار الصمود والانتظار بينما كان الكل يغرق في رمال الجائحة… الكل يتخبط الا قيس سعيد ينتظر… ينتظر الى ان تأتي… ينتظر كما قال درويش « انتظرها الى ان يقول لك الليل، لم يبقى غيركما في الوجود، و خذها برفق الى موتك المشتهى… وانتظرها»
انتظرها حتى اتت.

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115