او ما يمكن وصفه باكتمال مسببات الوصول للقمة، وهو ما عرفه الرئيس قيس سعيد في انتخابات ٢٠١٩.
شاءت الاقدار ان يكون محور الفصل في الحياة السياسية هو محاربة الفساد، ورحلة الفصل في الحياة السياسية كما تعلمون و الذكاء السياسي يكمن في مدى قدرة اللاعب السياسي على اختيار محور الفصل الاكثر نجاعة.
في العملية السياسية ،و خاصة عندما تكون الشعوب حديثة العهد بالديمقراطية وتعاني من نقص في التكوين السياسي، يكون السؤال المطروح عادة هل انت مع او ضد هذه التعبيرية السياسية او تلك؟
وتكمن النجاعة، في مدى قدرتك على وضع محور فصل عمودي قادر على التحرك افقيا، للفصل بينك و بين بقية اللاعبين السياسيين.
و يكون بذلك، الفائز في ما يمكن ان نسميه لعبة «الا انا»، ذلك الذي يرسم محوره بطريقة واضحة، تجعل منه في ضفة و البقية في ضفة اخرى، مثال الكل نظام بائد الا انا، او الكل اسلام سياسي الا انا، او الكل فاسد الا انا…
كما يمكن للمحور ان يكون زمني : الكل طبع مع الدكتاتورية، او الكل شارك في عشرية الخراب، او الكل ينتمي الى ما قبل ٢٥ جويلية …
المهم ان المحتوى لا يهم. المهم هو العدو.
الكل يبحث له عن عدو، غير انه على عكس الالعاب القتالية، اين عادة ما تغلب الكثرة الشجاعة، في اللعبة السياسية، الشجاعة، عادة ما تغلب الكثرة، و هو ما يجعلها اكثر الالعاب القتالية متعة و دموية و عدائية.
• الرجل المناسب،
تسليما بما سبق، كان قيس سعيد الرجل المناسب، اي انه نجح في وضع محور فصل بينه و بين بقية اللاعبين السياسيين، السياسة في حد ذاتها.
الرجل نظيف ليس نسبة للفساد فحسب، فغيره من الفاعلين ليست لهم علاقة بالفساد و لكنه كان الوحيد الذي لم يتلطخ بسواد و حل السياسة واللعبة السياسية على عكس كل من كان على الساحة.
اي ان الرجل مترشح للانتخابات الرئاسية، ولكنه ليس سياسيا، و كما بينت من قبل كونه الوحيد ضد الجميع، جعل منه الوحيد القادر على هزم الجميع، جعل منه الرجل المناسب.
• الوقت المناسب،
في مواصلة البحث عن الضد وجد الشعب التونسي في قيس سعيد ٢٠١٩، الضد المناسب لكل الساحة السياسية، في مواصلة لاستعمال نفس ادوات ٢٠١١، و ٢٠١٤ في التقييم و الاختيار… واصل الشعب التونسي ما يسمى بالفرنسية le vote sanction.
بعد تجربة الرجوع للوازع الديني و انتخاب معارضة بن علي في ٢٠١١، اتجه الناخب التونسي الى معاقبة النهضة لفشلها في ادارة البلاد، لينتخب نداء تونس كبديل. ولكن ايضا في محاولة للرجوع الى ما قبل ٢٠١١.
قد كان من الممكن مواصلة المراوحة بين الضدين كما هو الامر في الديمقراطيات الاخرى (المراوحة بين اليمين واليسار، الجمهوريون والديمقراطيون…) لكن سياسة التوافق المعتمدة بعد ٢٠١٤، اضاعة بوصلة الناخبين، وأدت الى ضرب الثقة في الكل.
وعدم وجود بديل في الساحة السياسية، جعل من قيس سعيد في ٢٠١٩ يجد نفسه في الوقت المناسب.
• المكان المناسب
كانت وزارة شؤون الشباب والرياضة، قد قامت بمسح وطني على ١٠ الاف شاب وشابة في كامل انحاء البلاد على امتداد ٢٠١٨-٢٠١٩. ثلاثة ارقام شدوا انتباه القائمين على المرصد الوطني للشباب.
• ٥٧ ٪ من السكان اقل من ٣٥ سنة : اي ان ثلثي الشعب التونسي غير معني بصراع السبعينات بين التيارات السياسية الثلاث الممثلة للقاعدة الفكرية السياسية التونسية، فلا الاخوان ولا الدساترة ولا القوميون قادرون على تسويق طرحهم السياسي، و هو من الاسباب التي تدفع الشباب خاصة الى العزوف، فالمنتوج السياسي المسوق لا يستهويهم.
• ٢ ٪ فقط من الشباب لهم ثقة في الاحزاب السياسية ، هي نسبة غير قابلة للاستئناف ان صحة الترجمة من الفرنسية « sans appel », اي انه يجب على من يريد الوصول إلى سدة الحكم في قرطاج ٢٠١٩، ان لا يكون مرشح حزبي، وهو ما كان بترشح كل من نبيل القروي و قيس سعيد للدور الثاني.
• ٦٢ ٪ من الشباب ليس لهم ثقة في الدولة : اي ان هذه الفئة بالذات تبحث عن خطاب لا مؤسساتي، الجيل الذي يلقب الأمن «بالحاكم»، يرفض رفضا تاما التعامل مع كل ما هو نظامي، خاصة مع كل من يتم تصنيفه في خانة الحكم او المشاركة في الحكم، و نعني هنا بالحكم المؤسسات، اي ان مجرد التواجد في البرلمان حتى ولو كان في المعارضة، يعني حتميا المشاركة في المشهد.
الآن وحب علينا اضافة معطيين اثنين للمعادلة السابقة لتكتمل الصورة:
اولهما بلوغ عدد المسجلين من الشباب ما يناهز المليون ناخب، و قد اثبتت الدراسات المقارنة في العالم ان، ٧٠٪ من المسجلين تقريبا في السنة الانتخابية، يتوجهون حتما الى صناديق الاقتراع ٧٠ ٪ = تقريبا ٦٠٠ الف ناخب).
أما المعطى الثاني فهو تصاعد عالمي للموجة الشعبوية عالميا، و لعل الاقرب الى الاذهان هو صعود «ترامب» رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، لكن الامر كذلك في ايطاليا اعرق الديمقراطيات بصعود «النجوم الخمس»، او تواتر صعود التيارات اليمينية المتشدد في غرب اوروبا... والامثلة متعددة.
كل هذه المعطيات مجتمعة يمثل اصطفافا للنجوم يجعل من قيس سعيد الرجل المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب.
البعض يذهب بالظن الى إضافة ايادي اجنبية خفية اعتمدت على الذكاء الاصطناعي، واجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي على شاكلة « Cambridge analytica ». لكن هذا يبقى صعب الاثبات، حتى ولو كان هذا الطرح مغريا لتفسير تواجد الاستاذ مدة ثلاث سنوات على الاقل بين الثلاثي المتصدر لسبر الآراء قبل الانتخابات، رغم غياب كلي عن الفعل السياسي.
فإني عن نفسي، احبذ تحليل الوقائع والارقام عن الاتهامات مهما كانت منطقية.
من معركة الانتخابات الى حرب السلطة:
ما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية
يوم الاربعاء ٢٣ اكتوبر ٢٠١٩، وتحت عنوان «تونس نحو دستور جديد يتفق ورؤرئ الرئيس الجديد»، كتب محمد علي السقاف في الشرقالأوسط اللندنية مقالا فيه من الاستشراف ما يناهز تنبؤات عرافي كسرى الفرس، حيث يقول: «إذا كان الرئيس قيس سعيد انتقد نظامالانتخاب النسبي، فالسؤال المطروح هل سيكتفي بتغيير النظام الانتخابي عبر آلية القانون فقط؟ أم من الأفضل أيضاً تثبيت نوع النظامالانتخابي الذي سيختاره بنص الدستور مما يتطلب إجراء تعديل دستوري، وهل سيكون مجرد تعديل دستوري أم صياغة دستور جديد؟»
تحدث الرئيس يومها بعد أداء اليمين الدستورية، عن الامانة، كان الخطاب، على عكس من سبقه من الرؤساء، خطاب مرشح وليس خطابفائز، وكأن لسان حاله يقول اليوم تبدأ المعركة، كان يدرك ان الدستور الذي اقسم عليه يعطي الشرعية للرئيس والحكم للأغلبية، كان يعلم انهليس قادرا على صياغة تصوره بصلاحيات محدودة، كان يعلم انه يقسم امام ما يعتبرهم اعداءه السياسيين «الاحزاب السياسية».
الحرب بين التشريعي والتنفيذي، في نظام جُعِل في ظاهره متوازن، غير ان حقيقة الامر هي هيمنة تشريعية على القرار التنفيذي، بتقسيمهذا الاخير بين قرطاج والقصبة، و بارتهان هذه الاخيرة لموازين قوى ولعبة تحالفات باردو.
الرئيس يعلم علم اليقين ان انتصاره في المعركة الجديدة يمر عبر انتصار السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وانه لا يملك لا هذه ولاتلك.
فاز قيس سعيد في معركة الانتخابات، ولكنه لم يفز بعد بحرب السلطة.
• حكومة الجملي و استهتار النهضة
في هذه الاثناء كان العدو والمتمثل في الأجسام الوسيطة «الاحزاب» وعلى رأسها الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، حركة النهضة،يواصل سياسة الهروب الى الامام التي ينتهجها منذ ٢٠١١.
كيف لا و هم من وضع قوانين اللعبة، كيف لا و الشيخ يمسك بزمام الأمور :
تحالف مع عدو الأمس «قلب تونس» يصعد به الى رئاسة البرلمان، اليد العليا على من سيعين رئيسا للحكومة، وعلى كل اعضائها، و اختيارفصل المسارين الحكومي والبرلماني في تحالفات تكتيكية لا هدف من ورائها الا السيطرة على الحكم، دون احترام لا للقواعد الحزبية، لاللتوجهات الفكرية، لا الاقتصادية، لا الاجتماعية ولا هم يحزنون…
الولاء ثم الولاء، والطاعة ثم الطاعة، والغنيمة ثم الغنيمة، في استخفاف كلي بذكاء التونسيين والتونسيات، وخاصة برئيس الجمهورية الذياستُعمل مطية انتخابية في شعار مازلنا نذكره « انتخب النهضة لتحقيق برنامج قيس سعيد».
الدنيا عبر، و كما هو الامر في حكايا كليلة و دمنة او خرافات «لافونتان»، السقوط عادة ما يكون عندما تكون على يقين بوصولك للقمة،وخاصة عندما تطيل البقاء في ما يسمى بالفرنسية «la zone de confort».
كانت مناورة السيد راشد الغنوشي، في مواصلة متغطرسة لسياسة العشر الأواخر، اي ادارة القصبة من باردو دون تحمل مسؤولية الحكم.
لكن هذه المرة ذهب به الاستهتار بالمنافس الى درجة عدم اعتبار المنافس منافسا اصلا. كان يرى في قيس سعيد مرزوقي جديد ستتمالسيطرة عليه، اكاد اجزم انه قال في نفسه، بالعامية « الباجي ومدارك ما نجمنيش باش ينجمني قيس سعيد!!»
فكانت حكومة الجملي، وأُسقِطت حكومة الجملي، وصار ما لم يكن في الحسبان.
سبحان المعز المذل، اصبح قرار اختيار رئيس الحكومة بيد رئيس الجمهورية ولم يعد بيد الحزب الفائز في البرلمان.
و هنا بالضبط، خرج الاستاذ قيس سعيد من ارضية الملعب و دخل المرشح قيس سعيد الى الحلبة، تغيرت اللعبة، و كشف قيس سعيد، عنقيس سعيد الحقيقي، قيس سعيد السياسي.
• حكومة الفخفاخ و الخيار الاول
المواجهة تحت قبة البرلمان، او تغيير المنظومة من الداخل، كان خيار الرئيس، و هو ما سيكتشفه قريبا
راشد الغنوشي و حركة النهضة و حلفائها.
بينما كان الشيخ يعيد ترتيب الاوراق بكل ثقة في النفس، في محاولة لإعادة سيناريو توافق ٢٠١٤، ومحاولة انتهاج سياسة ذئب ليلى، بدءرئيس الحركة، رحلة البحث عن شخصية وطنية توافقية تتمتع بالكفاءة ونظافة اليد، لإقناع الرئيس و الساحة السياسية بانه شخصية جامعة،همها الوحيد ايجاد حل وطني دون التشبث بالحكم.
فكانت اسماء مثل حكيم بن حمودة، خيام التركي وفاضل عبد الكافي في قائمة المرشحين، في دليل قاطع ان الحركة، حتى ولو رضختلقواعدها بإقحام اسم احد أبناءها، لكنها في مشاوراتها مع بقية الاحزاب و القوى المكونة للمشهد، تحبذ اسما يكون محل توافق منالجميع، قادرا على اخراج البلاد من الازمة
حتى ولو كان ذلك على حساب تضحية رئيس الحركة بتوازناته الداخلية… كل شيء يهون «فيسبيل تونس» بنبرة نوفمبرية بنفسجية رنانة، وما اشبه الأمس باليوم.
لكن كما يقول المثل الشعبي التونسي «كل واحد شيطانو في مكتوبو».
بدأ الشيخ باكتشاف غرابة ساكن قرطاج دون ان ينتابه الشك في مدى تصميمه على تغيير ما سماه في حملته الانتخابية المنظومة.
ذلك الشك الذي سرعان ما بدأ يتبدد، مع بداية جينيريك مسلسل الرئيس.
الرئيس يرفض قبول الاحزاب و طلب من الجميع مده بمقترحات مكتوبة، عوض الدخول في مشاورات مباشرة.
لم يكن الجميع يتصور، الا قلة ممن كانوا يرتادون قصر قرطاج، ان الرئيس سيختار السيد الياس الفخفاخ، لا لشيء الا لأنه كان واضحاعند لقائه بالرئيس في عدم التعامل مع قلب تونس و لأنه لم يتم اقتراحه الا من حزبين اثنين، تحيا تونس و التيار الديمقراطي.
كان الاختيار صادم، و يمكن تحليل الاختيار، لو توقف بنا التاريخ عندها، ان قيس سعيد قرر اختيار الشخصية الاقدر كما ينص الدستور،لكن الاقدر على ماذا ؟ على النجاح في التسيير ام على تحدي المنظومة القائمة والانتصار مع رئيس الجمهورية للسلطة التنفيذية في حربهاعلى السلطة التشريعية ؟؟
المهم ان النهضة في تصحيح للمسار التكتيكي وعودة كما قلت لتكتيك ٢٠١٤، قبلت عن مضض رئيس الحكومة المسلط عليها من قرطاج، كماقبلت بوزير واحد في حكومة الحبيب الصيد الاولى.
لكن هذه المرة مع تغيير طفيف، تحولنا من التوافق الى «التنافق». لأنها صارت تعلم من عدوها في هذه المعركة…الرئيس.