وغاب عن الجميع أنّ هذه المسألة من قضايا الفروع التي يجري فيها الخلاف وأنّه لا إنكار في المسائل الاجتهادية، وبالتالي لا وجود لأيّ إشكال، لكن التعصّب الأعمى يدفع بالمحرّمين للتهنئة إلى اتّخاذ المسألة سبيلاً للتفسيق، والتبديع، والتشنيع، والتكفير، ومعقداً للولاء والبراء.
في حين لو وضعنا على كفّتي الميزان إثم تكفير المسلم وسبّه وتحقيره لو وجدناه أكبر من إثم القول بجواز التهنئة بضابطها ودليلها؟!!
ولننتبه جميعا أنّ هذه المسألةُ ومثيلاتها لا يجب أن تأخذ تلك الأبعاد ومن الخطأ الجسيم ما وقع فيه المتشدّدون حين اعتبروها من قضايا العقيدة؛ واعتبار أنّ من يقول بجواز التهنئة أو يفعلها يشوِّش على عقيدته الصحيحة؛ وكأنّه أقرّ غير المسلمين وخاصة النصارى منهم على اعتقادهم في الإله المرفوض لدى المسلمين. وهذا التوجيه بعيد عن الصواب والسلامة لأنّ التهنئة بضوابطها لو كانت إقراراً لهم على معتقدهم لحُرِّم الزواج من نسائهم المتّفق على إباحته بنصّ آية المائدة، ومن مقتضيات الزواج حصول الأولاد، ووجود مساحات قوية ودائمة للتواصل بين المسلم وعائلة زوجته غير المسلمة، وكذا إباحة الأكل من طعام أهل الكتاب يُتصور فيه الإقرار على معتقدهم بصورة أبين وأوضح من مجرّد التهنئة؛ حيث إن الذبائح والأطعمة من الأمور التي تُجسِّد معالم الهويّة للمسلم يوضّح ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله ورسوله» فعطف أكل الذبائح على الصلاة واستقبال القبلة لأهميتها. وقد استقبل النبيء صلى الله عليه وسلم وفداً من نصارى نجران وأذِن لهم بالصلاة في مسجده، فهل كان ذلك إقراراً منه لهم على معتقدهم؟! كما قام النبيء صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي، فهل كان قيامه إقرارا له على معتقده؟!
كما أنّ المحرّمين لا يمتلكون أيّ دليل معتمد سوى ترك النبيء صلى الله عليه وسلم لتلك التهنئة، ومجرّد الترك النبوي لا يصلح أن يكون دليلا على التحريم، فلا يدلّ إلاّ على مشروعية الترك كما هو رأي عدد كبير من علماء الأصول، على أن الترك لا يكون حجّة إلا ّمع وجود المقتضي وانتفاء المانع، ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتضي التهنئة بخلاف عصرنا.
ثمّ لا يجب أن ننسى أنّ أحكام الفقه ملتصقة بالواقع وبالزمان وبالمكان وبالمستجدّات وقد أصبح الحال اليوم خاصة في حقّ مسلمي أوروبا الذين يتواصلون بصورة يومية مع جيرانهم وزملائهم وأساتذتهم من غير المسلمين، وكذا تتواصل المؤسسات الدينية والمدنية مع المراكز الإسلامية ويبدؤون هم بتهنئة المسلمين بأعيادهم ومشاركتهم الاحتفال بها وتغطيتها إعلامياً، فهذه الأعياد هي فرصة كبرى لإظهار القيم المشتركة بين الأديان، والإبانة عن أخوّة الأنبياء، وتثبيت هوية المسلمين، والتعريف بصحيح معتقدهم في المسيح عليه السلام.
وبالبحث في النصّ القرآني الكريم نجد عدّة آيات تجوّز حسن التعامل فآية الممتحنة رقم 8 التي تشكّل دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم وهي قوله تعالى «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» قد شرعت بر ّالمسالمين منهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلا وإحسانا، وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: (أن تبروهم) .
والآية الثانية التي أباحت للمسلم أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، وهي قوله تعالى في سورة المائدة الآية 5 «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـات وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـاتِ وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ»، ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: «وَمِنْ ءايَاتهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» الروم:21، وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده؟ وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض: «هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ» البقرة: 187، ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا» الفرقان:54.
ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة وما لها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟ وما موقفه من أقاربه من جهة أمه، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: «وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ» الأنفال: 75 وقال تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى» النحل:90.
وأما الآية الثالثة فهي قوله تعالى: «وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا» النساء:86، فقد أمرنا الله أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نردّ التحيّة بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، ومعلوم أنهم هم الذين يبدؤون بتهنئة المسلمين بأعيادهم، ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرما، وأدنى حظا من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر – حظا، والأكمل خلقا، كما جاء في الحديث «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» وكما قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».!
وأما الآية الرابعة فقوله تعالى: «هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ» الرحمن: 60، وقد أحسن الأوروبيون إلى المسلمين شعوبا وحكومات فاستقبلوا أعدادا هائلة من اللاجئين، وآووهم وكفلوا لهم عيشا كريما وعاملوهم وفق مقتضيات المواطنة العادلة، وأقل ردّ لهذا الإحسان هو صلتهم وتهنئتهم بأعيادهم.
ومع الآيات القرآنيّة نجد عدّة أحاديث ومواقف نبويّة ومواقف الصحابة والعلماء تشرّع هذا السلوك الإنساني من ذلك حديث إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا» رواه البخاري ومسلم و. قول عبد الله بن عباس –رضي الله عنه-بسند صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد: « لو قال لي فرعون بارك الله فيك، لقلت وفيك! «
وفي رواية الامام أحمد نقل ابن مفلح علّة الجواز أنها من مكارم الأخلاق !!
وفيما يتعلّق بالتكييف الفقهي للتهنئة، فينظر المحرِّمون للتهنئة على أنها إقرار للنصارى على صحة عقيدتهم، والواقع أن التكييف الفقهي الصحيح لتهنئة النصارى بأعيادهم اليوم لا تتجاوز المجاملة والصلة الاجتماعية لهم كما يقول الفقيه المعروف الشيخ مصطفى الزرقا:» التهنئة في نظري من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم، وإن الإسلام لا ينهانا عن مثل هذه المجاملة أو المحاسَنة لهم، ولا سيّما أنّ السيد المَسيح هو في عقيدتنا الإسلاميّة من رسل الله العِظام أولي العزم، فهو مُعظَّم عندنا أيضًا، لكنهم يُغالُون فيه فيعتقدونَه إلهًا، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا. ومن يتوهَّم أنّ هذه المُعايَدةَ لهم في يوم ميلاده ـ عليه السلام ـ حَرام؛ لأنّها ذات عَلاقة بعقيدتِهم في ألوهيّته فهو مُخطئ، فليس في هذه المجامَلة أي صِلة بتفاصيلِ عقيدتِهم فيه وغُلُوِّهم فيها».
وهذا فقد اتّفق الأصوليون على أن من شروط المفتي أن يكون على علم بالواقع، وأن معرفته بالواقع لا تقلّ أهمية عن معرفته بالنص، وهذا الواقع لا ينقل وإنما يعاش، وكما قيل «إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك فَلَا تُجْرِهِ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك، وَسَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ فَأَجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ، دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمَذْكُورِ فِي كُتُبِك» وقد رأينا وسمعنا عددا من المشايخ والمفتين يتشدّدون ويحرِّمون التهنئة ولا يوجد في بلدهم مسيحي واحد، ولم يسافروا إلى أوروبا ولم يطلعوا على واقع المسلمين في تلك المجتمعات ليفتوا لهم، ولو علموا أن المستفيد الأكبر من التهنئة في تلك الأعياد هم المسلمون لغيّروا رأيهم، أو أحالوا المسلمين على مؤسسات الفتوى في أوروبا، فهي أعرف بالواقع والأعراف والثقافات والقوانين، وهي مؤسسات عريقة تعتمد الاجتهاد الجماعي كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ولا شك أن الفتوى الجماعية أقوى حجة وسنداً من الفتوى الفردية مهما بلغ علم صاحبها؛ لأنها تنظر للقضية المعروضة من جميع الزوايا وتعتمد جميع المذاهب، وهى أبعد عن التعصب أو الهوى.
وقد ذهب المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ودار الإفتاء المصرية، وعدد من الفقهاء المعاصرين وغيرهم إلى جواز تهنئة النصارى بأعيادهم، وتوسّعوا كذلك في جواز تهنئة النصارى بعيد الميلاد وعيد رأس السنة الميلادية.وفي طباعة بطاقات التهنئة الخاصة بأعياد الميلاد ورأس السنة وعيد الميلاد الشخصي.وكذلك تجارة بيع بطاقات التهنئة المذكورة سابقا.
إنّ تهنئةَ الشّخص المُسلِم لمعارِفه النّصارَى بعيدِ ميلاد المَسيح ـ عليه الصّلاة والسلام ـ هي من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم. وإن الإسلام لا ينهانا عن مثل هذه المجاملة أو المحاسَنة لهم،
أضفْ إلى ذلك حال المسلمين اليوم من الضَّعف بين دول العالم، وتآمُر الدول الكبرى عليهم واتِّهامِهم بأنّهم إرهابيّون ومتعصِّبون لا يُطْمَأن إليهم إلى آخر المعزوفة… وحاجة المُسلمين اليوم إلى تغيير الصورة القاتمة عنهم التي يصوِّرهم بها العالَم الأجنبي.
ولا سيِّما أن المسلمَ قد يأتيه في عيده (الفطر والأضحى) معارِفُ له من النّصارى يُهنِّئونه فيه. فإذا لم يَرد لهم الزيارة في عيد الميلاد، كان ذلك مؤيِّدًا لِما يتَّهَم به المسلمون من الجَفوة، وعدم استعدادهم للائتلاف مع غيرهم، والمُحاسَنة في التّعامُل.
وما يقال عن التهنئة بعيد الميلاد يقال عن رأس السنة المِيلادية بطريق الأولويّة، لأن رأس السنة الميلاديّة لا صلة لها بالعقيدةِ، وإنّما هو مجرّد بداية التاريخ.
وقد كان الصّحابة الكرام حين جمعهم سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ للمذاكَرة في تعيِين حَدَث يكون مبدأً لحِساب السِّنين (التاريخ) طَرحوا فيما طَرحوا من آراء أن يُعتَمَدَ تاريخ الرومِ، أو تاريخ اليهودِ، فلو كان هذا حرامًا لما عَرَضوه.
وإذا عرَفنا الرأي الشرعي في التهنئة يُعرَف حكم طباعة البِطاقات والمُتاجَرة بها؛ لأن ما كان من وسائل المُباح فهو مباح.
لكن هنا نقطة توقُّف مُهِمٍّ يجب الانتباه إليها؛ فإذا كانت تهنئة المسلِم للنّصارى في ذلك مُباحة فيما يظهر لأنّها من قبيل المجاملة والمحاسَنة في التّعامُل، فإن الاحتفال برأس السنة الميلاديّة وما يجري فيه من منكَرات هو أمر آخر فيه تقليد واتباع من المسلمين لغيرِهم في عادات وابتهاج ومنكَرات يجعلُها من قَبيل الحَرام.
إن غاية ما أريد الوصول إليه هو الإقرار باعتبار الخلاف في المسألة والتحلي بأدب الخلاف عند المناقشة، وتجنب تفسيق وتبديع وتكفير المخالف في الرأي، وطبيعة الفتوى أنها غير ملزمة، فيسع من لم تقنعه فتوى إباحة التهنئة أن لا يهنيء شريطة ألا ينكر على من هنأ، أو ينتقص من إيمانه، أو يتهمه بعدم سلامة عقيدته.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى فقه حضاري إنساني عالمي، نظهر به جماليات إسلامنا، ونعلو به على تاريخ صراعنا، ونتجاوز به مرير أزماتنا، ونغير به الصورة السلبية المغلوطة عنا.