لها ذلك كان لابد من العمل منذ البداية على الاجهاز على ما يسمى ب «الدولة الوطنية».
هكذا عملت حركة الدينية منذ امساكها بزمام الدولة على ادخال النخب السياسية والمثقفة في دوامات عديدة واسترجاعها لمفاهيم كاد المجتمع ينساها تماما مثل الهوية والمسالة الدينية وشكل الدولة والحريات والمرأة والاجهاز على التعليم عبر دعم التعليم التقليدي الذي قطعت معه البلاد التونسية.
أما على المستوى الاقتصادي فأصبحنا دولة الموازي بامتياز إذ أن التجارة البينية أو التهريب عبر الحدود البرية تم الاجهاز عليه في مقابل تحول بعض رجال الاعمال والعائلات المتنفذة إلى السيطرة على الموانئ والمطارات للتهريب»المقنن» واصبحت المؤسسات الاقتصادية التونسية تشتغل بالوكالة لدى الشركات الاجنبية. كل هذا نسف البنية الاقتصادية والتبادلية والصناعية في حالة من التفليس شبه الممنهج والتدمير المقصود للبنية الاقتصادية للمجتمع.
راهنت الحركة في فتح هذه المواضيع على تشتت النخب الاخرى وضعف تنظمها في مقابل ذلك قوة الحركة في وحدتها وخاصة الدعم الخارجي الذي تجاوز المال إلى الدعم الفني والسياسي في إدارة الازمات وكيفية التمكن من الدولة عبر تشخيص دقيق للواقع السياسي والإداري والمالي والاقتصادي عموما.
كان لسيطرة الاسلاميين على إدارة الدولة ومفاصل الادارة أثرا بالغا على تفكك المنظومة الادارية عبر خلق جزر معزولة بين الوزارات وهياكلها وحتى داخل الوزارة نفسها كما كان لحالة الارباك والمحاسبة الصورية لعديد الموظفين إلى تعاظم الوهن في التسيير وأخذ القرار داخل المنظومة الإدارية كما أن استقالة كبار الموظفين والتحاقهم بالعمل في القطاع الخاص أفرغ الدولة من الكفاءات التي لها قدرات مهمة في فن إدارة الازمات.
كشف الممارسة السياسية وممارسة الحكم عن عجز بنيوي لدى الاسلاميين في التعاطي مع الدولة خاصة في ضل واقع مأزوم مثل تونس.
أما القوى الأخرى فاتخذت استراتيجية دفاعية أمام قوة الهجمة التي قام بها الاسلام السياسي وقدرته التعبوية وخاصة استنصاره بقوى متطرفة عنيفة ادخلت البلاد في دوامة الارهاب والترهيب. القوى الحداثية ومنذ بداية الحراك تعاني من تأزم هيكلي ليس فى مستوى التصورات واالرؤية التي كانت على الاقل أكثر وضوحا وهي المحافظة على مكتسبات الدولة الوطنية بل كانت عجزها الهيكلي في البناء التنظيمي الذي يمكن أن ان يساعد على صراع المنظومة التقليدية في الحكم. إن ضعف المخيال السياسي لدى النخب الحداثية وتصاعد منسوب الانانية والذوات المتضخمة كاد أن يعصف بالملامح الحداثية للمجتمع التونسي.
• الشعبوية الإجهاز على ما تبقى من الدولة
يعتبر ظهور الشعبوية في القرن الواحد والعشرين أشكالا كبيرا للديمقراطيات خاصة في البلدان المتقدمة التي أنشأت تاريخيا هذا النموذج للحكم، فهو انتكاسة كبرى إذ لا يمكن بأية حال من الأحوال الموائمة بين الديمقراطية اليوم والاتجاه نحو أنظمة تسلطية متسربلة بالخطاب الشعبوي.
تشكل الشعبوية خطرا حقيقيا للديمقراطية باعتبارها قائمة على التمثيلية وعلى برامج اقتصادية واجتماعية وعلى الحرية والقيم الانسانية وحرية الاختيار و التعبير والعقيدة، فتصاعد هذا التوجه الشعبوي اليوم في عديد بلدان العالم خصوصا البلدان المتقدمة و كذلك البلدان حديثة العهد بالديمقراطية يشكل أزمة حقيقة وانتكاسة للنظام الديمقراطي كما بين ذلك Stéphane Foucart في كتابه .Populisme
يتم اليوم استعمال مفهوم الشعبوية بشكل مكثف وأحيانا بصفة اعتباطية حتى اصبح ممجوجا، فالكل يصف خصمه بأنه شعبوي كما يقول Paul Ricœur «الشعبوية هي خطاب الاخر».
يحدد Jacques Rancière في مقال له سنة 2013 بعنوان L’introuvable populisme بأنه وصف دون تحليل، هو تجريم وإلغاء للآخر» لذلك يرتكز الخطاب الشعبوي على كل ماهو انفعالي عاطفي، حيث يستغل بدقة ماهو ديني رمزي وينتعش من آلام الناس وانحطاط أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وارتباك حالتهم النفسية وينتعش حيث يعشش الفقر والخصاصة والتهميش، يحسن صياغة الاحلام والتسويق للجنة الموعودة.
هكذا يمكن القول بان الخطاب الشعبوي ليس وليد اللحظة بل هو خطاب عوض تدريجيا الخطاب السياسي منذ احداث 2011 خاصة مع تصاعد الخطاب الديني ووصول الاسلام السياسي السلطة فارغ الوفاض من البرامج والخطط العملية التي سوف تخرج البلاد من أزمتها المركبة. ركز خطاب الاسلام السياسي على التباكي على وضع الاستثناء والتعويض عن سنوات الاقصاء والسجن وتجريم الخصوم وتكفيرهم ضاربا عرض الحائط الدولة وفن إدارة الحكم حيث غلف ذلك بخطاب ديني يتراوح بين التسامح والقصووية والتطرف.
إن المعنى الذي تعطيه الشعبوية ل»الغالبية» يختلف عن معناها في تحديد الديمقراطية الكلاسيكية، «فالشعبوية لا تستخدم الغالبية كمنهج يحدد الطرف المنتصر وحجم المعارضة»، بل إنها تستخدمها عوضاً عن ذلك، كقوة تدعي أنها تعبر عن الأشخاص الصالحين ضد الفاسدين والوطنيين ضد الخونة الاغبياء ضد الاذكياء، وبالتالي تقزيم المعارضة وامتهانها ووصفها بالعجز والتخريب وتخوين مؤسسات المجتمع المدني وتجريمها.
يمكن القول أن الانحراف بالمشروع الديمقراطي برز منذ البدايات وتدعم بمساندة العائلات المتنفذة اقتصاديا وبعض القوى الدولية حتى تم الاجهاز نهائيا على ما تبقى من مكتسبات الدولة الوطنية.
أما في هذه المرحلة الحالية، فإن الرهانات السياسية منذ 25 جويلية 2021 قد عجلت بنسف منظومة تحالف فيها المال بالسياسي وشهدت النخب إعادة تموقعات عديدة تصل حد التناقض بما تحمله من توجهات وقيم متنكرة لمرجعياتها الفكرية والسياسية.
لكن هذه المرحلة لم تقطع مع الخطاب الشعبوي نحو براقماتية سياسية تخرج البلاد من أزمتها المتشعبة، بقدر ما أعادت إنتاج نفس الخطاب الشعبوي ولكن بصفة متشنجة وخطاب عنيف غير منسجم مع المرحلة وخطورة الوضع الذي يتفق حوله جميع المحللين بأنه متفجر إلى أبعد الحدود. فما نعيشه اليوم هو التوصيف الحقيقي للخطاب الشعبوي المهرول نحو المجهول والضبابية دون ضوابط أو حتى فكرة واضحة، فكل ما رشح عن هذه المرحلة ليس إلا الغموض وحالة اللامشروع، بل هو التمسك بشعارات ممضوغة في كل وسائل ووسائط الاتصال الجماعي مثل مقاومة الفساد.
على مشروعية هذا المطلب وأهميته واستعجاليته، فإن معالجته معلومة لدى الجميع ولا تتطلب كل هذا التهييج والتجييش الاعلامي والخطابي، المسالة ترتهن في تطبيق القانون وعدم الافلات من العقاب وعدم تحويل ملفات الفساد إلى ورقات للتفاوض من أجل المصالح الضيقة والتكسب السياسي والمالي.
ما ميز هذه المرحلة هو ذلك الخطاب الشعبوي المتمفصل مع التحديدية القانونية Le déterminisme juridique وصراع المدارس الذي كان أحرى وأولى أن يتم في مدارج الجامعات وبين الاكاديميين. هذه المرحلة افتقدت الاختصاصات الانسانية الاخرى كالفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية حتى نفهم لماذا هذه المقبولية المجحفة للخطاب الشعبوي؟ وماهي المخاطر المحدقة بالمجتمع وتقسيمه جراء هذا الخطاب الذي نخر وينخر المجتمع منذ عشر سنوات؟ وهل يمكن اليوم التأسيس لخطاب عقلاني رصين وغير متشنج؟
ما نعيشه الان هو حالة من الانتكاسة عن الديمقراطية والحريات، ليس بفعل من يمسك بالسلطة بل من الخطاب التبريري المشرعن لما يقع من قبل بعض النخب المثقفة، فهذه مرحلة لا يقيتية مزمنة وهي أخطر من الصراعات والحروب لأن الشعوب لاتسير إلا بوضوح الرؤيا والبرمجة العقلانية وبالنفعيات Pragmatisme.
إن التنديد النخبوي للشعبوية هو نوع من التعارض الكاريكاتوري للعقلانية الموضوعية ضد الانفعالية الجامحة. فالخطاب الشعبوي يقوم على نوع من الاطراء وعلى دغدغة مشاعر دفينة أين تمكن الخطورة خاصة إذا ما انطلقت أعيرة الحقد والكراهية فإن إمكانية السيطرة على ذلك تكون مكلفة جدا.
إن حالة الارباك والتذبذب وغياب الوضوح ليس في مستوى الخطاب فحسب بل وأيضا على مستوى الممارسة ينذر بالإجهاز على ما تبقى من مقومات الدولة الوطنية والمكتسبات التي كنا نتصور أنها تحولت أحد محددات الشخصية التونسية. فالتداخل بين عناصر متعددة ومتشعبة ينبئ بهكذا نتيجة: فإعادة المنظومة الرأسمالية التفكير في التقسيم الدولي للعمل من أجل نظام علمي آخر متعدد الاقطاب والتحولات الاقليمية وتفشي ظاهرة الارهاب وضعف سطوة الدولة في تطبيق القانون وضعف اندماج البناء المجتمعي كلها مؤشرات دالة على أن الوضع سيكون أكثر تفجرا.
صراع سياسي أم صراع مجتمعي؟ الشعبوية وتهديد ما تبقى من الدولة (الجزء الثاني والأخير)
- بقلم المغرب
- 11:15 03/12/2021
- 992 عدد المشاهدات
بقلم: ا.حسان الموري باحث في علم الاجتماع
• الصراع المجتمعي ورهاناته
منذ وصولها إلى السلطة راهنت الحركة الدينية على تحقيق حلم البدايات أي قيام «دولة اسلامية» وحتى يتحقق