ومواقف تتجذر أغلبها في مرجعيات فكرية وسياسية وأيديولوجية ونظرية متنافرة تصل حد التناقض.
اتخذت هذه المشاريع تصورات وأشكال عديدة ومتنوعة منها ما هو حزبي وما هو جمعياتي ومنظماتي وما هو تفردي أقرب ما يمكن تسميته بالفوضوية. كما برزت أفكار ومشاريع مهمة غابت عن دائرة الضوء أو تم تغييبها قسرا بحكم النزعة التسلطية والعنف السياسي الذي انخرطت فيه النخبة السياسية وخاصة من أمسكوا بمقاليد الحكم منذ 2012.
إن المتمعن في التاريخ السياسي لتونس لا يمكن ان يغفل الحركة التحديثية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر والتي أسست للبناء الدستوري والتنظيمات والمؤسسات في محاولة للخروج من الحكم الفردي التسلطي، إلا أن هذه الحركة أربكتها الأزمات الداخلية والتدخل الاستعماري في المنطقة منذ البداية ثم الهيمنة الاستعمارية على تونس لاحقا. تواصل هذا الجهد الاصلاحي مع النخب المحلية أو تلك التي درست في أوروبا وصولا إلى تأسيس الدولة الوطنية.
انقسم المجتمع السياسي التونسي منذ بدايات الاستقلال ومن داخل الحركة الدستورية إلى مشروعين كبيرين: أحدهما قومي عروبي والثاني حداثي ليبيرالي حيث كانت الغلبة إلى هذا الاخير مستعينا بالنخب المتكونة في أوروبا وخاصة فرنسا وكذلك بعض القوى الاقليمية والدولية الداعمة للتوجه الليبيرالي عموما.
هذه التجربة التحديثية على أهميتها في بناء مشروع مجتمعي قائم على المؤسسات والقانون وعلى بناء علاقات موسعة مع منابع الحداثة وبناء دولة تؤطر المجتمع وتدفع به نحو تبني الاصلاحات الكبرى مثل التعليم والصحة وتوحيد القضاء ومجلة الاحوال الشخصية واعتماد دستور للجمهورية التونسية وتصفية الرصيد العقاري وتفعيله نحو الإنتاج، سرعان ما تحولت إلى نظام تسلطي مغلف أو مختفي وراء براديقم تنموي Paradigme Développementaliste تمحور أساسا حول تلبية الحاجيات الضرورية للمجتمع ضاربا عرض الحائط بحرية الفكر والتعبير وخنق أي نفس تحرري لكل حراك سياسي من خارج المنظومة الليبرالية مثل تجربة اليسار التونسي في الستينات والسبعينات.
مع بداية الثمانينات بدأ هذا المشروع يتآكل ويفقد زخمه الجماهيري المؤيد له حيث تمظهر ذلك خاصة عندما انفضت من حوله ما تبقى من النخب خاصة جيل الاستقلال أو النخب الجديدة من الجيل الثاني آن ذاك. كما عاشت البلاد التونسية أزمة اقتصادية خانقة عبرت عن محدودية التوجه الثنائي المدولن Etatisé واللبيرالي مع ميل واضح نحو هذا الاخير. كان في البدايات الصراع على أشده بين النظام أو ما تبقى منه والاتحاد العام التونسي للشغل الرافض للتوجه الليبيرالي وكانت الانتفاضات والحركة الاضرابية أحد أهم ملامحه.
استغلت دوائر الرأسمال العالمي حالة الوهن الاقتصادي والاجتماعي لتحاول فرض الاصلاحات الهيكلية على الاقتصاد التونسي وما شابهه في المنطقة كلها. إلا ان ما تبقى من رعاة التوجه الثنائي، رفض منذ البداية الاصلاحات الهيكلية ليس في المطلق ولكن على الاقل في شروطها المجحفة، هذا الرفض دفع بالنخب السياسية للتوجه نحو رأسمال الرعي النفطي المتلبس بالوهابية وبالتطرف الديني.
هذه العوامل وغيرها ساهمت في تقديرنا في بروز تيارات راديكالية جديدة ومتطرفة اتخذت من مسألة الهوية والقيم الدينية الذريعة الأساسية لضرب خطاب التحديث والتفتح والانفتاح وراهنت في ذلك على بعض رموز السلطة آن ذلك التي عولت على الخروج من الازمة بالتمويل الخليجي من ناحية وتصفية الحراك النقابي وكل القوى اليسارية الداعمة له.
حاولت هذه القوى فرض خطابا رافضا للحداثة ومرتكزا على مقولات الهوية والأصالة والسلف الصالح وصل به حد التطرف واستعمال العنف بداية من الجامعة التونسية ألى الساحة النقابية وصولا إلى الخصم السياسي «الحزب الدولة» الممسك بالسلطة منذ الخمسينات.
كما كان للسياسة الليبيرالية والتوجه الاقتصادي التحرري أثر كبير في جمهرة هذه الجماعات وتوسع قاعدتها الشعبية واختراقها مفاصل الدولة وصولا إلى الاجهزة الحساسة.
فهذه السياسة الليبيرالية ساهمت في تغيير القيم المجتمعية وأنهكت القيم الانسانية الكونية وتراجعت الأيديولوجيات الحاثة على العدالة والحرية والمساواة والفكر النقدي والعقلانية مقابل توجهات جديدة تبسيطية وسطحية غير مكلفة فكريا وذهنيا. هذا التحول الجديد رسخ ثقافة الاستهلاك في كل شيء وتشكلت قيم جديدة configuration تقوم على المصلحة الذاتية وعلى الانانية المفرطة وتحقيق المنفعة بمعقوليات براقماتية قصووية.
أسست هذه الثقافة الجديدة إلى تجفيف منابع الفكر النقدي ووفرت أرضية خصبة انبتت التطرف الديني وشكلت أيضا قعدة ترعرع الشعبوية وقبولها بسلاسة تسترعي كل انتباه.
صراع سياسي أم صراع مجتمعي؟ الشعبوية وتهديد ما تبقى من الدولة (الجزء الاول)
- بقلم المغرب
- 09:45 02/12/2021
- 1175 عدد المشاهدات
بقلم: ا.حسان الموري باحث في علم الاجتماع
• صراع سياسي أم صراع مجتمعي؟
بعد أحداث 14 جانفي 2011 تزاحمت الافكار وتراكضت المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعبرة عن آراء