• 1. ليس جديدا عليَّ التفكيرُ في مفهوم الوضع الاستثنائي مهما كانت المناسبة الداعية إليه، إذْ كان موضوعا لدراسة متخصصة ومعمقة ودقيقة نُشرت مرتين (2013 و2014). وفيها استحضرتُ، على الصعيد النظري الحجاجي، كتاب «الجيم» من «ميتافيزيقا» أرسطو، ونصوصا لكارل شميت في السيادة والسلطة القرارية، وهو الفيلسوف والحقوقي المتفقّه في القانون الدستوري المعاصر في ألمانيا والذي ما تزال نظرياتُه تثير جدلا واسعا بين المنظرين، بل وصارت تشغل تفكير الفلاسفة الماركسيين أو ما بعد الماركسيين، رغم أني أقف على طرف نقيض مع شميت سياسيا وإيديولوجيا، إضافة بالطبع إلى الإيطالي جورجيو أغامبين، وآخرين معاصرين لنا ليس أقلُّهم فطنةً وصرامةَ تفكيرٍ جولي سعادة الفيلسوفة الفرنسية من أصل تونسي والتي انكبت على دراسة قانونية وحقوقية للوضع الإمبراطوري الجديد ولظهور تنظيمات «المقاتلين غير الشرعيين [غير القانونيين]» في ظله. المحور الرئيس في دراستي تلك هو «الأمر الإمبراطوري» (imperium) الاستثنائي الذي تحوزه الولايات المتحدة الأمريكية في سياق العولمة وعلاقته بتوْأَمه الهُلامي، ألا وهو «الإرهاب». وتخلص الدراسة إلى عرض تحليلي لحالتين نموذجيتين مختلفتين من الاستثناء الحقوقي: محتشد غوانتنامو وتأسيس دولة إسرائيل، وكنت في ذلك الوقت أمنّي النفس بإدراج حالة الأزمة الثورية الاستثنائية في تونس ومآلاتها، ولكني لم أفلح فأرجأتها، وما زلتُ كذلك. صدرت الدراسة بعنوان «العدالة في وضع استثنائي: ملاحظات في مآزقها الدولية» (وهي تحتل، في طبعتها الثانية، الفصلَ السابع من كتاب «ما العدالة؟ معالجات في السياق العربي»، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت: 2014). ومن دون أن أرجع إلى دراستي تلك، أستأنف هنا تفكُّراتي في مفهوم الوضع الاستثنائي وأسوقها للقارئ على نحو تأليفي مقتضب:
• 2. الوضع الاستثنائي مفهوما وتعريفا — بل وممارسةً أيضا، مثلما بيّنَتْه عدّةُ تجارب في العالم قبل حلول عهد «التهدئة» و«السلم» الذي وعدتنا به العولمة الليبرالية، ومثلما صارت تومئ إليه منذ سنوات بعض الارهاصات البازغة هنا أو هناك في ظل أزمة العولمة والأزمة الصحية الحالية — هو وضع ظاهرُه كباطنه، ومضمونه كامن في شكله، ومقصده البعيد متضمَّن في منطوقه الأوّلي. لا وجود لفرق ذي قيمة وذي وزن مؤثر بين «ما قبل» الأكمة و«ما وراءها». السطح هو الجزء المتكثّف والمُتَبَلْوِر من العمق بفعل تأثير المحيط ووهم الرؤية الموضوعي. فإذا ظهر لنا وكأنّ هناك فرقا بين الاثنين فإن مصدر وهمنا هو خداع العمق نفسِه بمعونة مخيّلتنا الحائرة، وليس عقلنا التحليلي والنقدي الرصين. أمّا الخطابة التي تصاحب الوضع الاستثنائي فهي الكساء الذي يكسو الكلَّ، سطحا وعمقا، فترسم، من ناحية أولى، «نُوتةَ» الفرق بينهما، وتسمح، من ناحية ثانية، بحركة النقلة من طرف إلى آخر لتعزز لدينا الوهم الموضوعي الذي ينوء به كل استثناء كائنا ما كان.
• 3. وإذن ففي كل حالة سياسية قُصْوَى تفترض الوضع الاستثنائي أو تفرضه، يكون «البعديُّ» (apostériori) — سواء كان مأمولا أو مكروها — كامنا في «القبليّ» (apriori) كمونَ النّار في الحجر، مثلما تقول العبارة الشائعة. فإذا عمد العقل النقدي إلى تجريد الوضع الاستثنائي من الترسانة الخطابية التي تصاحبه، وإذا ردّه إلى عناصره الخام الخالية من الشوائب الخطابية المُتَلدِّنة (التشكيلية / البلاستيكية) التي تنضاف إليه، فقدت سياسةُ الوضع الاستثنائي كلّ مرونة، وسكنت مقولاتُها التأسيسية، وكأننا نثَبّت مسمارا شديد القوة في خشب صلب. المسمار لا يتحرك من تلقاء نفسه. ها هنا بالتحديد تصير عناصر الوضع الاستثنائي السياسية أقرب إلى قضايا المنطق والرياضيات منها إلى ليونة أو لَدانة العبارات والمواقف الاعتيادية المألوفة عند «الحيوان السياسي» النّمطيّ: فإنّ النتائج الممكنة للإجراء الاستثنائي حاصلة من الأول في المقدمات، وإلّا لما كان الاستثناءُ استثناءً. يكفي إذن أن نُجرِيَ تحليلا مترويّا للمقدمة لكي نتحصّل على النتيجة. وهنا، فإن النتيجة لا تُخترَع، وإنما تُكتَشف فقط في القضية الأصل (= في المقدمة المعطاة)، أيْ في ما هو سابق على التحليل. هذا من منظور منطق الوضع الاستثنائي مجردا من زمانية التجربة. أما من منظور التجارب التاريخية السابقة أو الممكنة، فإن السابق يَحبُل باللاحق، والبرعُم يستبق الثمرة الطازجة، بل قُلْ أيضا إنّ الثمرة طازجة منذ البدء في طيّ الاستثناء. ذلك هو قانون الوضع الاستثنائي أو منطقه الداخلي الصارم. وهكذا فإن عبارات الإجراء الاستثنائي تكون — عقلّيّاً — تحليلية لا تركيبية (أي غير تأليفية) لو استعرنا تمييزَ الفلاسفة الشهير بين التحليل والتركيب. وخلافا لذلك، فإذا أقحمنا في الوضع الاستثنائي عناصرَ خارجة عنه، أي تركيبية، فسد منطقه الداخلي وتناقض مع نفسه، وهو الذي لا يقبل بالتعريف النقض ولا التناقض. الاجراء الاستثنائي هو إذنْ من بين جميع الوضعيات السياسية المشهودة في المجتمعات المنظمة، أو حتى الوضعيات الممكنة والمتصوَّرَة، أكثرها تماسكا من حيث بناؤه المنطقي السياسي ومن حيث استنتاج مقولاته ومواقفه وقراراته من بعضها بعض استنتاجا داخليا هي من صميم مقاصده. فلا حاجة لنا، إذن، إلى انتظار المستقبل لمعرفة مآلات الاستثناء من «حيث هو كذلك». أقول «من حيث هو كذلك» في ذاته ولذاته، أي بصرف النظر عن التحقّق الفعلي الذي يخفيه «مكر التاريخ» ثم يكشف عنه لاحقا.
• 4. المنطق الداخلي هو إذن ما يفصح عن المقاصد، والمقاصد تحيلنا إلى تسلسل منطقها الداخلي. وأكاد أجزم بأن العلم السياسي يفوق منطقُه منطقَ الميتافيزيقا من هذه الناحية بالتحديد، مهما بدا خطابه سياقيا ومتحولا أو بدا انفعاليا في ظاهره. ولذا، فنظريا، أيْ على صعيد الحق «الخالص» أو القانون «الخالص»، لن يزيد التطور اللّاحق شيئا مهمّا على ما يرشح به مبدأ الاستثناء حالما يتمّ إجراؤه. ولا وجود فيه للغموض البتة إلا لمن يستعصي عليهم الفهم، أو لمن يقبلون بأن يدغدغ الوهمُ انفعالاتِهم، أولمن يريدون إيهام غيرهم من الناس، أو لمن يتّخذون من الغموض ذريعة للتقية. فليس هناك في العلوم السياسية أوضح وأفصح ولا أكثر تماسكا داخليا من الوضع الاستثنائي، وذلك بسبب قيامه على ذاته لا على غيره، وهو ما يجعله «بسيطا» بالمعنى الأرسطي (مميَّزا وواضحا بسبب غياب التركيب فيه)، شرط أن نفهم أنّ ما اقصده هنا هو فقط المنطق الداخلي للقرار الاستثنائي، ولذلك فإني أتعمّد استبعاد السياقَ المتحول، والعوائقَ التي قد تعوق الاستثناء من خارجه، وموازينَ القوى السياسية المؤثرة فيه، وهي الدائبة على التغيّر.
• 5. ولكي يزداد فهمنا للوضع الاستثنائي وضوحا، يمكننا أن نستعير من العلوم الفيزيائية مفهوم حركة الجسم الحرة في الفضاء الفارغ ومفهوم العطالة (inertie) الذي يناسب ذلك النوع من الحركة. إنّ ما يحكم الوضع الاستثنائي من حيث بناؤه المفهومي هو مفهوم العطالة خاليا من الجُزَيْئِيّات ومن التأثيرات الخارجية. ورغم أن مسألة السياق والعائق وموازين القوى هامة جدا، فلا دخل لها في موضوعنا هنا، وهو مبدأ الاستثناء في حدّ ذاته. ولا يأتي هذا منّي اجتنابا للخوض فيها وإنما انصياعا طوعيا لطبيعة مفهوم الاستثناء نفسه. وسبب ذلك أن الاستثناء في الحقل السياسي، وخاصة إذا طرأ على أرقى أشكال التنظيم العضوي للشأن العمومي، وهو شكل الدولة، كَفَّ عن أن يكون تأكيدا للقاعدة (أي أنه عكس القول المشهور: «الاستثناء يؤكّد القاعدة»). وفي هذه الحالة النوعية القُصوى، ليس الاستثناء تأكيدا للقاعدة، أي تأكيدا لخلافه، بل إنه يصبح هو القاعدة نفسها مادام تأكيدا لنفسه في نهاية المطاف. ولذا عليك ألاّ تغترّ بما يبدو من كلامي وكأنه من باب اللعب المنطقي بالعبارات (القضايا)! فالأمر أكثر أهمية على الصعيد العملي من المنطق وأشد أثرا في مصائر الناس! وذلك لأن هذا الضرب من الاستثناء في السياسة هو الشرط القُصْويّ الذي بواسطته يثَبِّت صاحبُ السيادة سيادتَه العليا: صاحب السيادة الحقّ هو صاحب القرار الباتّ أو الفيصل عندما «يقرّر أمرَ الحالة الاستثنائية»، أي يبُتُّ فيها بلا مضادة (كارل شميت). ولذا فإن صاحبَ السيادة «ذاتيُّ المرجع» و«ذاتي الإحالة» (autoréférentiel)، باعتبار السيادة غير قابلة للقسمة من منظوره هو على الأقل، لأنها لو تُقوسِمت لفسدت أو بطلت. الاستثناء هو شرط السلطان السياسي بامتياز، ويقترن قرانا حميميا بالتمييز السياسي الراديكالي والوجودي واللاهوتي بين «الصديق والعدو» (كارل شميت أيضا، وهو الذي يرى أن «السياسة» الحق في أعلى تعبيراتها وأقواها إنّما تقوم على هذا التمييز الأصلي وتتكفّل به).
• 6. ها هنا تنغلق الدائرة، وتستوي المقدمات مع نتائجها، ويتماهى الشكل والمضمون، وتصير الوسيلة مطلوبة لذاتها فتتماهى الغايةُ مع الوسيلة، والمقاصدُ البعيدة مع السلوك المباشر، بل زد على ذلك تصير الوسيلةُ هي كلّ الغاية، ويصير الإناءُ أفضلَ من الشراب الذي فيه أو الغائب منه. فليس الإجراء الاستثنائي سكة قطار تحملنا إلى محطة نهائية، بل إنّ «المحطة» هي القطار المتحرك نفسه. وهكذا نرى أنّ ما كان يظهر على أنه لعب منطقي من جانبي، أو هو، في أفضل الحالات، من قبيل المفارقات الحجاجية كما عند زينون الإيلي، إنما هو في حقيقة الأمر كل الشأن العام الواقعي نفسه. مضمون الإجراء الاستثنائي في الشأن العام هو الشكل الإجرائي نفسه. وهكذا يتحايث (يتلازم) الشكلُ والمضمون على مسطّح واحد. بالطبع، للسياقات ولموازين القوى أثرُها الفعّال في توجيه الإجراء الاستثنائي، ولكن لا دخل لها في تعريف جوهره السياسي وفي إدراك مقاصده. وبالطبع أيضا، كل استثناء حقوقي قانوني هو إفراط يتغذّى من إفراط أوّل موجود في الواقع الحيّ ويريد تجاوزه. وبعبارة أخرى، صحيح أن الاستثناء ينطلق من إفراط في الواقع لم يعد يحتمله المجتمع الديناميكي أو جزء كبير منه على الأقل، ولكن الاستثناء سرعان ما يستهلك قرينَه، أي ينفيه، لأنه في حقيقة الأمر لا يطلب سوى ذاته: وهو القرار الحاسم الباتّ الذي يؤكد السيادة بامتياز بمعزل عن السياق وعن الشروط المحفزة: الاستثناء لا يمكنه، منطقا، أن يدوم تابعا لشروط قيامه المباشرة، فإن «للضرورة أحكامها»، ومنطق الضرورة هو منطق الاستثناء وليس منطق الأشياء المستثناة.
• 7. الاستثناء والشرط لا يلتقيان. الاستثناء «المشروط» لا يمكنه أن يعود قائما بذاته إلا باستبعاد الشروط الخارجية التي أنتجته، تماما مثلما يفعل كرونوس بأولاده في الميثولوجيا اليونانية. فإنّ احتراس صاحب السيادة (أو فطنته) إنما يكون بإزاء كلّ فعل من شأنه أن يفقده المرجعية الذاتية فيناقض بذلك مبدأ السيادة التامة الذي يحرّكه. وهو فعل لا يستقيم من منظور منطق الوضع الاستثنائي الذي شرحنا بعض جوانبه. وها هنا تنعكس مرتبةُ الغاية ومرتبةُ الوسيلة: فإنّ ما كان غايةً يتحول، في حقيقة الأمر، إلى وسيلة، وما كان وسيلةً يتحول إلى غاية.
• 8. وإن هذه الحقيقة المتخفية في طيّ كلّ وضع استثنائي هي ما يدعو الحكيم «الرّواقي» إلى الابتسام عندما يشاهد الناس يضعون لصاحب الإجراء الاستثنائي شروطا، وتحفظات نقدية، وأمانيَ، وآجالا، ونصائح؛ فلا يسع الحكيم إلا أن يستحضر عبارة سبينوزا: «دعهم وشأنهم يهذون»! وقد يضيف إلى عبارة سبينوزا شيئا آخر: إنهم منافقون مع أنفسهم ومنافقون مع الواقع العنيد. وإذا كانوا صادقين مع أنفسهم فمعنى ذلك أنهم لا يدركون أنهم منخدعون.
• 9. وربّما يعقد الحكيم أمله في «معجزة». قد يبستم القارئ بدوره وهو يقرأ هذه الكلمة. فمهلا أيها القارئ الكريم! فإن «المعجزة»، في معناها المجازي، مستمدَّة بالإمكان من الاستثناء تحديدا، والعكس بالعكس: الاستثناء مستمدّ بالإمكان من المعجزة. كما أن الوضع الاستثنائي، من جهة أخرى، يشترك مع الثورة في عنصر المعجزة مع اختلافهما الشديد في اتجاه الحركة وفي ديناميكيتها. وتتمثل المعجزة في كون الوضع الاستثنائي والثورة يعلّق كلاهما زمانيةَ التاريخ ويوقف عجلة «التقدم» الجرّارة التي تدهس المعذبين في الأرض وتعبر فوق جثثهم، على نحو ما يذهب إلى ذلك المفكر الفذّ فالتر بنيامين الذي كان يرى في ماضي المضطهَدين والمقاومين المهزومين بأسره وضعا استثنائيا لم يتوقف تاريخُه بعدُ. بقي أن فالتر بنيامين كان — ويا للمفارقة التراجيدية — يلَوِّح بـ«صورة» الوضع الاستثنائي المأمولة (الثورة) بديلا عن وضع استثنائي آخر مختلف، وكان ، هو بنفسه، قد ذهب ضحيةً له في عام 1940، تاركا لنا وصيّته الدامغة والملهمة: «أطروحات في مفهوم التاريخ » التي استأنف فيها «الأطروحات حول فويرباخ» لماركس، ونسخها بالتأويل إلى رؤية للتاريخ مختلفة وغير مسبوقة.
• 10. كثيرون — كما يعتبرهم بريخت — لا يتفقون لأنهم لا يعرفون كيف يتفقون. ولذا وجب أولا وقبل كلّ شيء أن نعرف كيف ولماذا نتفق. وإنّ «الكيفية» هي ما يحيلنا مجددا إلى الحجاج العقلي الذي أشرت إليه في بداية هذا النصّ، أي إلى الوعاء أو الشكل. والثقافة الفقيرة هي تلك التي تستهين بالشكل الحجاجي، بينما هي أكثر الثقافات ولعا بالشكل في عموم عمومه. ولكنها تنطلق من مضمون المسائل الخلافية. ولذا فإنها تطارد الشكلَ لتقويضه إذا خالفها القصد. ولكي توَفّق تلك الثقافة الهزيلة في مسعاها (ومثال ذلك غوبلز، وزير تنوير الشعب والدعاية في العهد النازي)، تلجأ إلى تجزئة القضية إلى ما لا نهاية (وهو «اللّامتناهي الفاسد» عند هيغل). هذه واقعة إنسانية عامة، أو قُلْ، تدقيقا، هذه واقعة ديالكتيكية. والتجزئة تفتح الباب واسعا للفتاوى بالشيء وبضدّه على نحو مستسهَل، والحال أن الوضع الإنساني كلّ شامل. وفي السياسة كما في الفلسفة — بل وقد تزيد السياسة على الفلسفة من بعض الجهات — فإن من لا يأخذ بالكل (بالكلية / totalité) يخطئ المرمى. وفي ثقافة الجمهور الواسع، فالأرجح أنّ التقليد التجزيئي والذرائعي (وهو مبدأ «سد الذرائع» مقلوبا رأسا على عقب) — وقد تخالط مع الحس المشترك في الممارسة اليومية وفقد حتى الحس الكلامي العقلي — ما يزال مترسبا، شكلا، في ممارساتنا الثقافية وفي قاع أعماقنا اللّاواعية أيّا كانت مشاربُنا الفكرية وآفاقنا السياسة، ومهما كانت مختلفة وحتى متنابذة. وذلك ما يجعلنا نطلق الأحكامَ جزافا أو قياسا على المتحّول في أفضل الحالات، فنعدّل «قالب» القياس لكي يناسب العنصر المتحول، ونمطّط الواقعي أو نقلّصه لكي يناسب القالب: القانون قطعة من الصلصال نطوّعها حتى ليفقد قِوامَه؛ والجزءُ يُجرَّد من سياقه مثلما تُجرَّد حبّة جلبّان من كُمامتها ليوضع في سياق غير سياقه أو في نظام للخطاب غير نظامه الأصلي المناسب الذي أنشأه. وهذا ضرب من التجريد التلفيقي. ولمّا كان هذا النوع من التجريد (اللّانهائي الفاسد) لا يمكن الناس تحمّله إلى ما لا نهاية، يحاولون التخفيف منه بالخيالات وبالأماني وبطلب أحزمة أمان. ولم يسلم مفهوم الوضع الاستثنائي من التخييل إنْ بالتزيين أو بالتقبيح على حد سواء مركَّبيْن عليه من خارجه. وهذا ما يؤول بسلطة الحجة إلى أن تتقهقر أمام حجة السلطة أو إلى أن تدخل في خدمتها.
• 11. حاولت في ما سبق أن أبيّن كيف أنّ الاستثناء في سياسة الدّول هو تَوْأمُ سيادةٍ لا حدود لسلطانها إلا مدى اقتدار صاحبها، فلا حسيب له إلا نفسه أو ضميره ها هنا على الأرض، أو حسيبه الأعلى. فغافل أو ساذج أو مُراء من يطالب بضمان مِمّن يَعُدُّ نفسه الضامن والضمان في آن واحد، وهو رجل الاستثناء السياسي. وذلك، تلخيصا، لأنّ الاجراء الاستثنائي يستثني كل شيء عدا نفسه، وعدا نواياه ومقاصده، فلا يوجب من الغير إلا حسن الظن به والاعتقاد فيه. ولذا فالمواثيق والضمانات والتعاقدات تتناقض جوهريا مع منطق الوضع الاستثنائي من حيث هو كل موضوعي منسجم لا مجرد صدى لأهواء شخصية. إنّ «الذاتوية» في دائرة السياسية، والتي يقصدها صاحب السيادة بواسطة إجرائه الاستثنائي، ليست تعبيرا عن مزاج، بل إنها لازمة رئيسة من لازمات السيادة وهي في عنفوان نشاطها، فإذا بتلك الذاتوية النوعية — أوّلا — تمتص في جوفها الموضوعيةَ الوجودية وشروطَها الاجتماعية الحافة، فتكتسب بفضل ذلك — ثانيا — معقوليةً سياسية مّا، قبل أن تلفظ — ثالثا — الموضوعيةَ خارجها عندما يطفو على السطح من جديد التضادُّ بين الذاتي والموضوعي على الصعيد الحقوقي الخالص، مهما كان التضاد ظاهريا فحسب. وببلوغ هذه العتبة، ترجح كفة الميزان لصالح الذاتية على حساب الموضوعية، والحال أن هذه الأخيرة قد أدت وظيفتها إلى أن انتهت الحاجة إليها فصارت لاغية.
• 12. قد يظن القارئ أني أصف حادثا. كلا! فإني أستعرض مقولات الوضع الاستثنائي الموضوعية والضرورية والكونية (الكلية) كما استنتجتها من قراءتي الخاصة لسوابق غربية بالخصوص (أوروبية وأمريكية)، وذلك بسبب العلاقة المتينة بين «الوضع الاستثنائي» و«دولة القانون» في البلدان ذات التقاليد الدستورية العريقة الراسخة. وبالمقابل لا يمكن الحديث بجدية عن استثناء في الدول التي لا دستور لها، مكتوبا كان أو غير مكتوب. فإذا بدا للقارئ وكأنّ تلك المقولات تنطبق على حالة بعينها أو على أخرى، فذلك هَمُّ الحالة؛ أما همّي في هذا النص فكان الشرح النظري. ولقد جاء الشرح من داخل مفهوم الوضع الاستثنائي. أمّا لو اعتبرناه من خارجه — وهو ما استبعدته منذ البداية — فذلك ما يطرح مسألة صلاحيته العمومية ومسألة عدالته وفقا للحالات الحادثة حالةً بحالة، وهو موضوع آخر أتركه لتقدير الناس على اختلاف مواقعهم ومواقفهم. ولكن تقدير الناس يكتسب مزيدا من الوجاهة ومن السداد بحصول البيّنة العقلية والدليل الحجاجي. وهو ما اكتفيت بتقديمه للقارئ.
بقم عبد العزيز لبيب
أستاذ الفلسفة بجامعة
تونس المنار