عندما يتلقى الشر ضربة فإنّ أحدا لن يكلّف نفسه عناء قراءةِ ما تقوله الدساتير، اللهم إلاّ إذا كان يبحث فيها عمّا يخوّل له رد الضربة.
من كان وجهه في الوحل وقدم ثقيلة تضغط على رقبته، حتى لو كان في الدستور ما يشير إلى مفاتيح خلاصه لا تتوقعوا منه أن يفكر في أمر آخر عدا استجماع قوّته والالتفاف على خصمه بشقلبة على طريقة سمك القرش المخطط.
إنها غريزة البقاء التي تسبق ظهور الدساتير. من أجل ذلك فإنّ تأوّل مفهوم «الخطر الداهم» كما ورد في الفصل 80 من الدستور التونسي على أنه حرب خارجية أو حرب داخلية أو انفصال جغرافي يتهدد الدولة هو تأوّل ساذج. عندما يصبح القانون غطاءا للقتلة واللصوص فإنه لابدّ أن يتسبب في اقلاق عنيف لعمل الضمير. إذن، ما هو «الخطر الداهم»؟ في الحالة التونسية، إنه معضلةٌ يستشعرها في صميم ضميره كل فرد بات على يقين أنّ مصدر حمايته قد أصبح هو نفسه مصدر الخطر.
بخصوص مسألة الضمير هذه، لا ينبغي أن يغيب عنا أنّ تدمير الدولة التونسية قد جرى بسلاسة منقطعة النظير وسط اكتفاء عموم التونسيين بالمشاهدة. لذلك، بالعودة إلى احتجاجات 25 جويلية، فإنّ علم النفس يقدم لنا مفاتيح للفهم. إنّ احتجاجًا يعقب صمتًا طويلا عن الظلم والقهر هو، من حيث الجوهر، نشاطُ ضمير معذب.
لا أحد ينكر أنّ نشاط هذا الضمير، الذي بدا في سورة غضبه مستعدا لأكل الأخضر واليابس، هو أحد الأسباب التي دفعت رئيس الجمهورية لتفعيل فصل «الخطر الداهم». والحال هكذا، فإنّ قرارا بتعليق أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن نوّابه ما كان له إلاّ أن يُقابل بالارتياح لدى طائفة واسعة من التونسيين رأت في هذه الخطوة تتويجًا لسلسلة طويلة من الاحتجاجات المجهضة بقوة البوليس.
ولكنّ ما أبهج التونسيين لم يبهج كل التونسيين. من على قناة الجزيرة أطلّ كلّ الغاضبين ليدلوا بدلوهم في الأمر، متّهمين الشعب بالجهل، وضيق الأفق، وبالحنين إلى عبادة الزعيم المخلّص. م.منصف المرزوقي، حمة الهمامي، مصطفى بن جعفر، م.نجيب الشابي، شقيقُه، ليس من بينهم من لم يصبّ جام غضبه على «الشعب»، طالبًا منه أن يتفاعل مع الأحداث وفقا لما يعتبره هو صحيحًا، لا وفقا لما يعرفه هذا الطيف الواسع من «الجهلة» ومن «عبدة الدكتاتورية». والنتيجة؟ أكثر الناس ارتيابًا من كلمة «الشعب» تخلّى عن حذره بمجرد سماع هؤلاء العباقرة.
لا نريد أن نخدع أنفسنا. أليست قسوتهم على «الشعب» نابعة من خوفهم على الديقراطية؟ الحقَّ، ماذا يمكن أن يكون أكثر أهمية منها؟ بالطبع لا شيء. لهذا على الشعب أن يتفهّم خوف هؤلاء العباقرة، حتى لو بالغوا قليلا في قسوتهم عليه. في النهاية، سيكون من الجيّد لهذا «الشعب» أن يتذكر أنه مصدر الخطر وأن يستبطن، أبدَ الدهر، تبكيتَ الضمير هذا. ولكن، بما أننا لا نريد أن نخدع أنفسنا، إذا تفهّمنا خوف هؤلاء العباقرة على الديمقراطية، فكيف نتفهّم أنهم بدوا منفّرين وهم يتحدثون عنها؟ لماذا بدت، وهي تخرج من أفواههم، أشبه بكلمة مؤذيةٍ، فارغة، وبلا معنى؟ برأيكم، أليس هذا لأنهم في كل مرة نطقوا باسمها جثوا على رُكبهم ؟ وأمام من؟ أمام أنفسهم. أمام عقائدهم وأفكارهم. أمام إيمانهم بذواتهم كما لو أنهم في حضرة قدّاس.
أستمع إلى أحد هؤلاء العباقرة وقد كاد يخرج عن طوره: «أين كنتم عندما كنتُ أناضل ضد الدكتاتورية؟». «أين كنتَ؟». «أين كنتِ؟». يستمرّ في الكلام دافعًا بالفكرة تلو الفكرة، ساحبًا وراءه الماضي مثل دخان المذنّب. وحتى عندما يحاول أن ينوّع في أسلوبه فإنه لا يُفلح في منع الدخان من أن يتصاعد من كلماته اليابسة. إنه يتظاهر بأنه ليس في مكانةٍ «أعلى» في مواجهة من يتحدث إليهم. يتظاهر بأنه مساوٍ لهم وأنه يحدثهم كأخٍ لا كمعلّم ومرشد، وكلما تظاهر أكثر كلما اندفع الدخان من فمه بقوة أكبر.
عليّ أن أعترف بأنني مدين لهذا الدخان، فلولاه ما كان ليساورني الشك في مزاعم هؤلاء العباقرة عن «اخلاصهم للشعب»، و»احترام الدستور» و»الديمقراطية». بل عليّ أن أعترف بأنني مدين له برؤية كيف تتحوّل كلماتٌ خطيرة كهذه إلى كرةٍ، حيث المهم هو من الذي سيفوز على من، ومن سيلمع، ومن سيتميّز في هذا الاشتباك. لا تخدعوا أنفسكم. أمام عدد الكرات التي دخلت شباك الوطن، ليس من بين هؤلاء العباقرة من لم يمنّ نفسه بأن يكون هو من يصفّر معلنا انتهاء اللعبة. كان ليكون بطلاً. وماذا عن كل تلك الكلمات التي دبّجوها في ادانة «الانقلاب» على الدستور؟ حسنا. حتى الذين لم يقرؤوا سطرا واحدا من سيغموند فرويد بامكانهم معرفة أنها لا تزيد عن أن تكون أعراض ضمير معذّبٍ.
الدستور. هذه الكلمة السحرية التي لا ننفكّ نسمعها من كل جانب، من اليمين ومن اليسار. يتعجّب البعض من أنّ ناشطا ماركسيًّا لينينيًّا يدافع عنها بنفس الكلمات التي يستعملها قياديّ في حركة النهضة. يتعجّب من أنهما يقولان الشيء نفسه، بالحماس نفسه، ولكني لا أتعجّب. كان يمكن للرفيق أن يتمايز عن موقف خصمه وعن كلماته فقط لو أنه كان قرأ نيتشه و»يوميات» فيتولد غومبروفيتش، مثلما قرأ كتب «العقيدة» السوفياتية. ولكنّ الرفيق لا يريد أن يقرأ إلاّ ما يعزز عقيدته.
لماذا نخدع أنفسنا؟ ليس الدستور غير ثمرة صراع مأساويّ بين القوى، وكلّنا نعلم في جانب من كانت القوّة. كلّنا نعلم ما فعله الاسلاميّون من أجل صياغة «وثيقة» على مقاس الطائفة، وخدمِ الطائفة من الحرس القديم ومن الأُسر النافذة. في هذه الحالة، يجب قول الحقيقة. عندما يكون «الدستور» في خدمة حزب بعينه، أو فئة بعينها، أو شخص بعينه، فإنه ينفصل عن بقية الشعب. وأثناء انفصاله هذا، فإنه يأخذ في الاغتراب إلى أن يصبح نصّا متعاليًا مثله مثل الكتب المقدسة.
في إحدى القنوات أنتبه إلى صفة «فقيه دستوري» تحت اسم أحد أساتذة القانون. وهو يكافح من أجل اثبات حق «فقهاء القانون» في احتكار تفسير الدستور وتأويله، ألاحظ بيسر بالغ أنّ كلماته تشبه كلمات حرّاس المعبد. مرة أخرى، تبرق في ذهني عبارة «طاعة الجثث» Kadavergehorsam.
أستمر في مراقبة كفاح هذا «الفقيه» من أجل اعادة الزمن إلى الوراء بكلمات تشبه سجع الكهّان. من خلاله أفهم على الفور أنّ دعاة التعقل هم أكثر الناس خطرًا. أسحب «اليوميّات». أفتحها على الصفحة 60. أقرأ: «انهار الصرح الجليل. الهدوء والفراغ، وعلى الأنقاض هناك شرب من البشر العاديين والصغيرين، الذين مازالوا يتعافون من الصدمة واقفين على الأنقاض. لقد انهارت كنيستهم مع مذابح القرابين واللوحات والزجاج الملون والتماثيل التي ركعوا أمامها. ذلك القبو الذي حماهم تحول إلى ركام وتراب، وتم إظهارهم بعوراتهم. إلى أين يمكنهم أن يأووا؟ ماذا سيعبدون؟ إلى من سيصلّون؟».
طاعة الجثث يوميّات تونسية بقلم: زياد عبد القادر كاتب وشاعر
- بقلم المغرب
- 10:51 26/08/2021
- 1004 عدد المشاهدات
في منعطف تاريخيّ بهذه الدقة، دعاة التعقل هم أكثر الناس خطرًا.