25 جويلية 2021: المخاوف الحقيقيّة والتخويف التكتيكي

بقلم: نادر الحمامي
من ضمن الأسئلة الملحّة في السياق التونسي الراهن، أي بعد منعرج 25 جويلية 2021، أن يسأل المدافعون بحقّ عن القيم الديمقراطيّة

وعن الحريّات الفرديّة والجماعيّة وبناء المواطنة، وأساسها المساواة التامّة والمطلقة: لماذا تراكمت التحرّكات والخطابات والكتابات والندوات الّتي قادتها مكوّنات كثيرة من المجتمع المدني والنخب عموما، إضافة إلى الاحتجاجات الشعبيّة والشبابيّة، ضدّ الطبقة الحاكمة الممثّلة أساسا في الإسلام السياسي وفي مقدّمتها حركة النهضة؟ بمعنى هل أنّ تلك المقاومة، إن شئنا، كانت لرفض الإسلام السياسي في ذاته، أم لمشروعه المعادي للحريّات والعدالة الاجتماعيّة؟
ربّما علينا، للإجابة عن مثل هذا السؤال، أن نذكّر ببعض النقاط بسرعة، دون العودة إلى الكثير ممّا قيل عن العشريّة الأخيرة وهو معلوم لدى المتابعين. من بين تلك النقاط المهمّة في تقديرنا أنّ نتائج الانتخابات الرئاسيّة سنة 2019 ليست سوى إحدى نتائج السياسات والسلوك السياسي والاختيارات الّتي سادت في تونس منذ انتخابات أكتوبر 2011 وما أفرزته من تعميق للأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بإهمال شبه كليّ لإدارة الشأن العام وتكريس دولة المواطنة والقانون والمساواة، واللجوء، في كثير من الأحيان، إلى ما سمّي «توافقات» لم تكن سوى نوع من التكتيك السياسوي الذي خدم الإسلام السياسي وأخرجه في أكثر من مناسبة من مآزقه وأبقاه في السلطة، بل حتّى «الحوار الوطني» كان بشكل من الأشكال إنقاذا له وتمديدا لتمكنّه من الدولة ومؤسّساتها. هذا بالإضافة إلى التدهور الأخلاقي والقيمي الّذي تعاظم بشكل لم يعد مقبولا بأيّ شكل من الأشكال، ممّا أدّى إلى نفور مجتمعيّ من كلّ الطبقة السياسية المهيكلة في أحزاب أو منظّمات. وكان هذا بالخصوص لدى الفئات الشبابيّة الّتي تجاوزت ذهنيّا، بفعل تكوينها وعمرها وانخراطها في العمل السياسي بأشكال غير تقليديّة، كلّ النسيج السياسي التونسي التقليدي. وهي فئات تتكوّن في معظمها من شباب تربطه بالثورة ذكريات طفولة لا غير، ولكنّه عاش مراهقته وبداية شبابه في جوّ من الصراعات على كافّة الأصعدة، ولكنّها صراعات لم يرَ أنّها تعنيه بشكل مباشر إلاّ من جهة وعي دفين بأنّ تلك الصراعات بين مختلف مكوّنات الطبقة السياسيّة تقف حجر عثرة أمام أحلامه وطموحاته الّتي تعاظمت بحكم انفتاحه على العالم بأسره، وهو ذلك الشباب الّذي يشاهد العالم على لوحة رقميّة.
أمّا من هم أكبر سنّا نسبيّا، فقد فقدوا كلّيّا الثقة في السياسيّين «التقليديّين» والأحزاب، سواء تلك الّتي حكمت - وانعدام الثقة فيها أكبر بكثير-، أو كذلك من كان في المعارضة، وأصبحت عبارة «كلّهم كيف كيف» عبارة شائعة في المجتمع التونسي، ولعلّ ما نجح فيه الساسة بامتياز منذ 2011 هو جعل المواطنين يقرفون من السياسة ويعتبرونها رديفًا للتحيّل والنهب والسرقة والأنانيّة والانحطاط الأخلاقي. وكان ذلك مجتمعًا عاملاً حاسمًا وأساسيّا في انتخاب قيس سعيّد بها رئيسًا للجمهوريّة التونسيّة في الدور الثاني بتلك النسبة الكبيرة التي لم يفهم معناها سياسيّونا. وأقدّر اليوم أنّه حتّى لو تجمّعت قوى معيّنة ممّا سمّي بـ «العائلة الديمقراطيّة» على مرشّحة أو مرشّح واحد فلم يكن يغيّر ذلك من الأمر شيئًا في تلك الظروف، إذ أنّ المجتمع قد حسم أمره تقريبًا ولفظ كلّ الوجوه المرتبطة بالأحزاب التقليديّة المعروفة. ما حسم الأمر هو إعلان المرشّح وقتها قيس سعيّد مرارًا وتكرَارًا على عدم انتمائه إلى حزب من الأحزاب أو ووقوف أيّ منها وراءه. بل إنّه لم يسمّ مطلقا أيّ مرشّح أو أيّ حزب بأيّ شكل من الأشكال، سلبًا أو إيجابًا، إضافة إلى ما شاع على وسائل التواصل الاجتماعي عن جوانب تتعلّق بالمسألة الأخلاقيّة وأساسا الاستقامة ونظافة اليد. وعلينا أن نلاحظ أيضا مقاطعة المترشّح وقتها للوسائط المعروفة، وأساسا وسائل الإعلام الّتي كان الأقلّ ظهورا فيها. وعند الظهور كان لا يقدّم أيّ وعود انتخابيّة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وكان ما يقوله يتلخّص في معارضة تكاد تكون راديكاليّة للمنظومة الحزبيّة والسياسيّة والدستوريّة والانتخابيّة القائمة، مع مواقف محافظة جدّا من بعض القضايا الحقوقيّة الجوهريّة، وهو أمر يتناسب في الحقيقة، وعلينا عدم إنكار ذلك، مع التقبّل الاجتماعي العام.
هل كان كلّ ذلك من باب التكتيك الانتخابيّ أم هو يدخل في باب المسائل «المبدئيّة» الّتي يؤمن بها قيس سعيّد؟ وعلينا التأكيد هنا أنّ وصف أمر ما بأنّه مبدئيّ لا يعني الحكم له إيجابيّا بل إنّه مبدئيّ بالنسبة إلى صاحبه.
أثبتت تجربته في الرئاسة، إلى حدّ الآن، أنّ الأمر لم يكن تكتيكا انتخابيّا بل قناعات لديه. وهو أمر برهنت عليه مواقفه الكثيرة في عدّة مناسبات ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تجاهله شبه التامّ للمكوّنات الحزبيّة. ونذكر أيضا خطابه يوم 13 أوت 2020 بمناسبة عيد المرأة التونسيّة الّذي أبان بشكل واضح وجليّ الخلفيّة المحافظة إزاء مبدأ المساواة. ولكن ما تمّ الوقوف عليه بوضوح، من خلال شكل تدخّلاته، هو كلامه بمفرده فيما تنشره غالبا صفحة رئاسة الجمهوريّة دون أن نسمع مطلقًا الشخص المقابل له، والّذي عادة ما يكون في منزلة المستمع لا غير، بل هو مجرّد إطار ليتوجّه من خلاله الرئيس إلى المتقبّل الوحيد بالنسبة إليه وهو «الشعب»، بما يعني إلغاء كلّ الوسائط الحزبيّة أو الجمعيّاتيّة أو المنظّماتيّة. ويمكن أن نضيف أيضا إشارته الأخيرة إلى الفصل السادس من الدستور المقرّ لحريّة الضمير وفي الآن نفسه يشير إلى منع المسّ بالمقدّسات، ولئن كان هذا الأمر في تقديرنا يشكّل تعارضا بيّنا، فإنّ الإشكال في ما يريده الرئيس: هل هو مع نفي التعارض بإقرار الحقّ في حريّة الضمير أم إنّ تأكيده على التعارض هو من باب نفي حقّ حريّة الضمير؟
مثل هذه المسائل كانت وما زالت مصدر المخاوف الديمقراطيّة الحقيقيّة الّتي يحملها الديمقراطيّون الحقيقيّون، ولكن الخوف على الديمقراطيّة في الآونة الأخيرة لم يكن خطاب الديمقراطيّين وحدهم بل شاركتهم في ذلك أطياف لا علاقة لها بالقيم الديمقراطيّة، وهي أطياف في الداخل والخارج، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه.
من الأمثلة على المواقف الخارجيّة ما كان في 26 جويلية إذ عبّر الاتّحاد العالمي للعلماء المسلمين، أحد أذرعة الإسلام السياسي الإخواني، عمّا أسماه «انقلابا على العقد الاجتماعي»و»نقضا للعهود» ممهّدا لذلك بآيتين لا علاقة لهما بالسياق السياسي الذّي حدث في تونس، وذلك للتحريض ولإشاعة الفوضى وتجييش العواطف الدينيّة، في تدخّل صارخ في الشأن التونسي باستعمال الدين. ووصل الأمر إلى حدّ التكفير والتحذير من «الانقلاب على الحريّات». فهل المطلوب من عاقل أن يعتبر أنّ مثل هذا الاتّحاد خائف حقّا على الديمقراطيّة في تونس؟ وليس ما صدر في بعض وسائل الإعلام الأوروبيّة والأمريكيّة وبعض مراكز البحث، وكلّها ذات توجّهات يمينيّة محافظة، بعيدا عن ذلك، إذ ما هو إلاّ ترجمة ملموسة لتحالف موضوعيّ بين الإسلام السياسي الكافر بالحريّات والديمقراطيّة والدوائر الرافعة لشعار الديمقراطيّة وهي منها براء.
أمّا المواقف الداخليّة الّتي أعلنت خوفها على الديمقراطيّة في تونس فتنقسم إلى قسمين كبيرين: القسم الأوّل يمثّله الديمقراطيّون الحقيقيّون، أي أولئك الّذين واللاتي لم يخلفوا موعدا مع الدفاع عن حقوق الإنسان ولم يشكّكوا فيها يوما، ولم يشتموها، ولم يعتبروها طريقا إلى الفوضى، ولم يقولوا يوما أنّنا لسنا مؤهّلين لها، وهم يعبّرون عن مواقفهم بصدق حقيقي، له مشروعيّته التاريخيّة والنضاليّة. أمّا القسم الثاني من رافعي راية الدفاع عن الديمقراطيّة والحريّة، فإنّ الواقع والعيان والتجربة، مع شيء بسيط من العقل، يؤكّد أنّ الأمر لا يعدو أن يكون إعادة تموقع دأبوا عليه منذ عقود، بل منذ نصف قرن، إذ أنّهم تقلّبوا من نظام إلى نظام إلى حدّ اليوم، وشغلوا المناصب، وتحصّلوا على الامتيازات، وشرّعوا لكلّ أشكال الاستبداد لسنوات طويلة، ولم نسمع لهم صوتًا في أيّ ظرف يدافع عن الحقوق والحريّات وقيم المواطنة والمبادئ الديمقراطيّة وحريّة التنظّم. بل إنّهم كانوا إلى حدود يوم 24 جويليّة يجرّمون التحرّكات الشعبيّة والشبابيّة بالخصوص ويعتبرونها مأجورة وتحوم حولها الشبهات. البعض من هؤلاء يعرفون اليوم أنّهم بشكل ما متضرّرون من إجراءات 25 جويلية الّتي أزاحت «عدّوهم اللدود» الذي كان مصدر إشعاعهم وعاملا من عوامل تقدّمهم في سبر الآراء.
ومن ممثّلي القسم الثاني أيضا أولئك الّذين كانوا يحكمون طيلة العشريّة الأخيرة، وفي طليعتهم حركة النهضة، ومن تحالف معها أيضا منذ 2011 إلى اليوم، وقد صمتوا عن كلّ الانتهاكات للحريّات وعن ضرب الديمقراطيّة، وسكتوا عن كلّ أشكال خرق القوانين الجسيمة في الانتخابات وغيرها، وكانوا شهود زور بامتياز. كيف لعاقل أن يصدّق دفاع مثل هؤلاء عن الحريّات وعن الديمقراطيّة؟
وحده القسم الأوّل، جدير بالتصديق، ومن حقّه أيضا أن يخاف بشدّة على الديمقراطيّة والحريّات، وفي الواقع ما يبرّر تلك المخاوف وهي حقيقيّة. أمّا القسم الثاني فإنّ مخاوفهم تنحصر في الخوف على السلطة والنفوذ والامتيازات الّتي ضمنها لهم «السيستام» منذ سنوات، وليست الديمقراطيّة والحريّات بالنسبة إليهم سوى مطيّة لإبقاء الوضع عمّا هو عليه.
إنّ ما لم يُفهم بحقّ، إلى حدّ الآن، أنّ 25 جويلية، وهو مغامرة غير مضمونة العواقب في المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي، كان نتيجة يوم 15 جانفي 2011، ذلك التاريخ الّذي تمّ القطع فيه مع النظام والمحافظة على المنظومة بأسماء أخرى لا غير. هذا الأمر بدأ يشهد نهايته، ولكن لن ينسى الديمقراطيّون الحقيقيّون شعار الثورة: «شغل، حريّة كرامة وطنيّة»، بمعنى أنّه لا مجال للفصل بين العيش الكريم، والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة من ناحية، وحقوق الإنسان والحريّات العامّة والفرديّة من ناحية أخرى، وهو جمع ثابت لا محيد عنه وينبغي تركيزه بالحذر من توجّهات الحكم الفردي من جهة، ومن راكبي «قطار الديمقراطيّة» الذّي لم يركبوه قطّ من قبْل، ولم يقفوا في محطّاته، ولم يؤمنوا يوما أنّه يؤدّي إلى أيّ مكان يرغبونه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115