منبــــر: الأساس الفلسفي لحق الناخب في إعفاء أو عزل من انتخب

بقلم: الأستاذ سالم السحيمي
المحامي لدى التعقيب

يرتكز الحكم الرشيد على ثلاثة أعمدة وهي : حق الاختيار / حق الرصد والتتبع والمراقبة / حق الاستبدال والعزل « مفهوم الحكم الرشيد حسب وثائق الأمم المتحدة .

تأسست الدساتير منذ البداية ( دستور فرنسا / دستور الولايات المتحدة ... ) إلى اليوم على مفاهيم فلسفية سياسية مختلفة يؤشر كل مفهوم على رؤية كاملة للسياسة والسيادة والحكم والديمقراطية بطريقة مختلفة ويمكن تلخيص هذه المفاهيم الفلسفية / السياسية المختلفة في مفهوم السيادة ( السيادة الوطنية / السيادة الشعبية ) ومفهوم الوكالة ( الوكالة الملزمة / الوكالة الغير ملزمة).
فعلى هذه الأسس والخلفيات الفلسفية المتعارضة يبني النظام السياسي ويعطي للديمقراطية معنى خاصا (ديمقراطية نيابية وديمقراطية شبه مباشرة تعرف اليوم بالديمقراطية التشـاركية ) ومن أهم هذه الخصوصية هو مبدأ قبول أو رفض حق العزل / الإعفاء الشعبي للمنتخبين أو حق الناخب في عزل من انتخب قبل نهاية العهدة.

I- مقولات السيادة الوطنية والسيادة الشعبية
تنص بعض الدساتير على السيادة الوطنية Souveraineté Nationale ) (في حين تستعمل دساتير أخرى عبارة السيادة الشعبية أو السيادة للشعب (Souveraineté populaire) وهذه المفاهيم أو المصطلحات ليست كلمات بلا معنى بل هي مصطلحات فكرية وفلسفية لها مخرجات وأثار قانونية على غاية من الأهمية ومنها مسالة عزل المنتخب ( révocation de l’élu ) ويعرف هذا الحق في القانون الأمريكي بـ Recall rappel.
فالدساتير التي تؤكد على السيادة الوطنية (مثل الدستور الفرنسي) فان مرجعها هو «الأمة» (Nation) في حي إن الدساتير التي تستعمل مصطلح « السيادة الشعبية» فان مرجعها هو «الشعب» ( le peuple ) وقد جاء دستور 2014 المصري صريحا في فصله 3 حين قال بان «السيادة للشعب وحده». (1).
وقد اجتهدت الدراسات الفقهية في تحديد حدود التفريق بين «الشعب» و«الأمة» فعرف الشعب بأنه مجموعة المواطنين في دولة معينة ( بحدودها الترابية المضبوطة) في زمن معين أي هو جملة المواطنين الأحياء التابعين لدولة محددة على رقعة ترابية محددة , في حين أن الآمة هي « الشعب في ماضيه وحاضره ومستقبلة « بما يعني آن الآمة هي اكبر من الشعب وان الشعب هو جزء من الآمة أو جملة الأحياء من الأمة ولا يشمل من مات في الماضي ومن سيولد في المستقبل .(2)
وينعكس هذا المفهوم على «حق العزل» باعتبار انه إذا كانت السيادة وطنية فان المنتخبين في الحقيقة يمثلون « الأمة « أي يمثلون « شعب الماضي وشعب الحاضر وشعب المستقبل « وان التزامهم لا يكون أمام الشعب (شعب هنا وألان ) بل تجاه الأمة وبالتالي فان سيادتهم مستقلة ومتجاوزة لسيادة من انتخبهم ولا يمكن على هذا الأساس للناخب إن يعزلهم لأنهم في الحقيقة هو من ينتخبهم لكنهم لا يمثلونه بل يمثلون كل الأمة وعلى هذا الأساس والسبب فان عديد الدساتير قد نصت على إن النائب في البرلمان هو نائب كامل الأمة (3) كما جاء ذلك صراحة في الفصل 27 من الدستور اللبناني « عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء ... ».
في اتجاه معاكس فان الدساتير التي اختارت مبدأ « السيادة الشعبية « قد ذهبت في منحى فلسفي وإجرائي مختلف أساسه إن المنتخب يستمد سيادته وسلطته من الناخب ( أي من جملة المواطنين الأحياء/الشعب ) وعليه يمكن لهذا الناخب ( الشعب ) صاحب السلطة والسيادة إن يسلمها لمن يشاء وان يسحبها متى يشاء . وقد سعى بعض الدارسين تأصيل هذا المفهوم في منظومة التشريع الإسلامي وذلك استنادا لفكرة التعاقد بين الحكام والمحكوم واعتبر وان « الأمة هي صاحبة الحق في إنشاء هذا العقد وهي أيضا صاحبة الحق بفسخه لأنها تعد طرفا أصليا وثابتا» (4) .
ولهذا السبب إن دستور تونس لسنة 2014 لم ينص في أي فصل من فصوله على أن النائب هو نائب كامل «الأمة» كما كان ذلك « صريحا في دستور 1959 في الفصل 25 الذي نص على انه « يعتبر كل نائب بمجلس النواب نائبا عن الأمة جمعاء » وقد وردت إشارة بالفصل 20 من القانون الداخلي للبرلمان فيها وان «النائب عن الشعب بأكمله» وهذه الإشارة تستلزم ملاحظتين:
- أنها وردت في القانون الداخلي للبرلمان ولم ترد في الدستور كما هو الحال في القانون المقارن وكذلك استعملت عبارة « الشعب « وليس عبارة « الأمة «» كما هو متداول ومألوف في الدساتير المقارنة (دستور 1959 ، دستور فرنسا ، المغرب ... ).
- أن هذه الإشارة تتعارض مع ما ورد صراحة بالفصل 315 من قانون الجماعات المحلية الذي أعطى « لنواب الجهة » الحق في الحضور بالمجالس الجهوية إلى جانب رؤساء البلديات لتلك الجهة . فهذا يعني وان قانون الجماعات المحلية لا يعتبر وان النائب هو نائب الشعب بأكمله وإلا لصار بإمكان أي نائب من أي جهة الحضور بآي مجلس جهوي في إي جهة كانت دون تمييز أو تفريق وهذا غير ممكن وغير معترف به قانونا . فقانون الجماعات المحلية -وانسجاما مع الدستور- يقر مؤسسة « نواب الجهة » وهي حالة قانونية وسياسية وإدارية قائمة ومعمول بها ومن غير القانوني أو الواقعي اعتبار أن « النائب نائب الأمة أو الشعب وفي نفس الوقت نائب لجهة معينة» إلى جانب أن هذا مفهوم قديم ولم يعد ينسجم مع المفاهيم الجديدة (5).
إذا, عندما اختار الدستور وضعية كون المنتخب / النائب هو « نائب من انتخبه » وليس « نائب الأمة » فانه قد اختبار أن لهذا الناخب حق الانتخاب والمراقبة والتوجيه ,والتقييم والإعفاء كلما اعتبر أن نائبه أساء استعمال النيابة ولم يحترم بنود اتفاق النيابة/الوكالة (6) .

II - التفريق بين الديمقراطية والنظام النيابي:
ينطلق أنصار حق الإعفاء / العزل (droit de révocation ) من التفريق الكلاسيكي بين الديمقراطية والنظام النيابي فبالرجوع لروسو ومونتينيسكو نجد إن وقع التأكيد على انه « إذا كانت السلطة ذات السيادة في قبضة الشعب جملة تسمى هذه الديمقراطية ,وإذا كانت السلطة ذات السيادة في قبضة فريق من الشعب تسمى هذا ارستقراطية».
فعديد المختصين في تاريخ الأفكار السياسية يعتبر وان الديمقراطية النيابية هي نظام سياسي يختلف عن الديمقراطية الأصلية والأصيلة كما عرفتها أفكار الأنوار, وان اعتماد النظام النيابي كان حلا عمليا لتجاوز سلبيات نظام الاستبدادي الفردي ولم يكن تكريسا للديمقراطية حتى أن احد كبار مفكري الثورة الفرنسية قد أكد على ذلك صراحة وبشكل واضح حين قال »أنهم كانوا أمام واجب الاختيار بين الديمقراطية ( بمعنى ديمقراطية أثينا) وبين النظام النيابي فأنهم اختاروا النظام النيابي « مما دفع الدارسين إلى اعتبار أن المشرع في الثورة الفرنسية قد انحاز إلى الأفكار التي لا تثق في الشعب méfiance de peuple ولم يعتمدوا النظام الديمقراطي في معناه الأصيل Authentique واستبدلوا ذلك بالتمثيل النيابي.
وفي إطار المقترحات الحديثة في تجاوز سلبيات النظام النيابي ( الذي أصبح يعرف لاحقا بالديمقراطية النيابية ) وتصحيحا لانزلاق هذه الديمقراطية النيابية نحو الارستقراطية الانتخابية أو حتى الاوليغريشية Oligarchie فانه (7) لا بد من أن يسترجع الشعب/ الناخب صاحب السيادة الأصلية حقه في عزل من انتخب قبل نهاية العهدة لان الشعب وبالعملية الانتخابية » قد فوض السيادة والسلطة ولكنه لم يتنازل عنها لأي كان».
فالرجوع للفصول 3 (المبادئ العامة ) و50 ( السلطة التشريعية ) من الدستور نجد أن المشرع المؤسس قد :

- خص الشعب بالسلطات ( في الجمع أي كل السلطات) واعتبره مصدر السيادة ( كل السيادة )

- أن كل الهياكل المنتخبة هي « واسطة « ( آو وسيلة) الشعب في ممارسة السيادة والسلطات

- أن الوحيد صاحب السلطة والسيادة هو الشعب/الناخب وان هذا الشعب له عدة وسائط لممارسة هذا السيادة والسلطات منها «ممثليه المنتخبين والاستفتاء» ( بالتساوي ودون أفضلية ) حسبما جاء ذلك صراحة بالفصل 50 من الدستور.

- ان كل «السلطات» هي وسيلة من وسائل ممارسة الشعب لسلطة الأصلية وهي في أحسن الحالات سلطات فرعية بما في ذلك «السلطة القضائية» التي تصدر أحكامها «باسم الشعب» ( الفصل 111 من الدستور ) .
فالديمقراطية لا يمكنها إن تتحول إلى إلية قانونية تجعل من الشعب «مجرد ناخب» تبدأ علاقته بتيسير الشأن العام بالعملية الانتخابية وتنتهي بالعملية الانتخابية بل يجب أن يكون صاحب السيادة والسلطة يفوضها بالانتخابات لكن دون أن يتنازل عنها ويبقى هو السيد le souverain حسب عبارة روسو ويبقى من يمثله مجرد عون لديه commissaire de peuple ( حسب عبارة روسو أيضا ) يعينه متى أراد ويعزله متى أراد ( طبعا طبق ضوابط وشروط وإجراءات قانونية ) لأنه دون هذا لا معنى للحديث عن سلطة الشعب «وحكم الشعب وللشعب» (كما جاء بدستور فرنسا ودستور الجزائر).
فالشعب عندما ينتخب من يمثله ( من ادني سلطة إلى اعلي سلطة ) لم ينتخب قائدا ولا زعيما ولا إمبراطورا أو سلطانا ولا ملكا بل اختار «وكيلا» ،الذي يجب عليه احترام بنود الوكالة والرجوع للناخب صاحب السيادة والسلطة والقرار في كل القرارات عبر أساليب الاستشارة والاستفتاء واحترام إرادة الناخب وإلا فان هذا الأخير له حق العزل استنادا لمبدأ فقدان المشروعية .

III - تنازع المشروعية والشرعية:
إن المكلف بمهمة التسيير والإشراف على الشأن العام ومصالح الموطنين لا يتمتع بهذه الصفة والحق في التصرف والقرار والمبادرة إلا على أساس «الشرعية» La légalité أي انه يقوم بذلك على أساس القانون ( القانون الانتخابي, القانون الدستوري ,...) وفي إطار القانون طبقا لمنظومة كاملة في التعيين والصلاحيات، والحدود، واكتساب صفة التمثيل والنيابة و الحدود ( مجال الاختصاص ونهاية العهدة والمدة) .

ولكن في نفس الوقت, فان الشرعية «( بما تعني أنها احترام القانون ) لم تعد تكفي للمحافظة على صفة تمثيل الناخبين واتخاذ قرارات باسمهم والى نهاية العهدة (مدة التمثيل ) بل يجب ان تكون هذه « الشرعية « مسنودة «بالمشروعية» La légitimité .(8)
لقد مثل مدلول « المشروعية « مجالا قانونيا مختلف فيه وتباينت الآراء والتعريفات ولكن بصفة عامة يمكن أن تلخص هذه المقاربات في أن المشروعية هي «التطابق مع الحق Le droit » أو كذلك هي التطابق مع العدل l’équité أو « القيم والمصلحة العامة » بما يعني أن الجهة المنتخبة انتخابا قانونيا متى صارت تتصرف بما يخالف « الحق والعدل والمصلحة العامة » فإنها تفقد المشروعية حتى وان ضلت تتمتع بالشرعية (9) .

وإفقادها للمشروعية يسقط عنها حق النيابة والتمثيل لان الديمقراطية في المحصلة ليست سوى تسيير الشؤون العامة طبق « مصلحة الشعب وحسب ما يرضيه «( البعض يعرف المشروعية بأنها » الرضا العام ( La satisfaction générale ) فازا صار المنتخب يتصرف بما لا يرض الناخب /الشعب صاحب السلطة والسيادة والمصلحة فانه يحق لهذا الأخير عدم انتظار نهاية العهدة /المدة بل ممارسة حقه في الإعفاء / العزل الشعبي باعتبار إننا دخلنا في مجال عدم المشروعية والتي يفقدانها تصبح الشرعية بلا قيمة.
وكأحسن تعبير عن علاقة الشرعية بالمشروعية نقدم ما ورد في إحدى خطب احد الناشطين السياسيين. Je souligne toujours l’écart entre légalité et légitimité..nous avons le devoir de mettre en cause en tant que citoyens la légalité d’un gouvernement … mais quant quelque chose nous apparait mon légitime même si c’est légale il nous appartient de protester et de désobéir... إذا لم تعد « الشرعية « وحدها كافية للمحافظة على سلطة القرار وتسيير الشأن العام ونيابة الشعب بل أن هذه الوظائف يجب أن تمارس كذلك في إطار « المشروعية « واحترام مصالح الناخبين واعتبارهم بشكل متواصل وكل حين أصحاب السلطة والتفويض الذي يمكنهم سحبه بالقانون متى رأوا مصلحة في ذلك ومتى اعتبروا أن نائبهم المنتخب فقد اقتناعهم به وخسر كل مشروعية دون الالتفات للشرعية.
هذه جملة من الأفكار عن الأساس الفلسفي الّتي استندت عليها فكرة إقرار حق العزل / الإعفاء وسنتناول في دراسة لاحقة الأساس القانوني.

------------
1) « le mandat impératif » موسوعة Wikipédia
2) « … la souveraineté nationale en s’appuyant sur le concept de la nation élargit la notion de peuple en lui donnant une dimension passée et future … elle fait du peuple, de chacun des citoyens un figurant occasionnel de la politique »
3) « ... و لا يجوز للناخب حل البرلمان أو عزل العضو ولا يجوز في النظام النيابي الرجوع لجمهور الشعب لأخذ راية في أمر من الأمور من خلال الاستفتاء « ( كتاب المركز القانوني لعضو البرلمان دراسة مقارنة / خالد عبد الرحمان ) (ص28)».
4) دراسة : علاقة الحاكم بالمحكوم « حسن داري مجلة بصائر الفكر سنة 2015
5) « ... بعد الثورة الفرنسية اصحب عضو البرلمان يمثل الأمة بأسرها مما جعله حرا في إبداء رأيه دون التقيد بالتعليمات الإلزامية الصادرة عن الناخبين من منطق مراعاة الصالح العام للأمة وليس مجرد تحقيق مصالح ناخبيه» « .. وأصبح غير مسئول مدنيا عن نيابته أمامهم».
6) «IL peut donc faire ce qu’il veut , renier ses engagements de compagne et trahir ses électeurs ».
7) « l’apparition de baronnies dans certains territoires clientélisme , mandats à répétition .., castes politique , monarchie , privent le peuple de l’exercice de sa souveraineté … »
8) « … la légitimité se réclame d’une idée morale supérieure au droit établi) Paul Bastid)
9) «إن اختيار النائب لا يختلف على اختيار الوكيل في القانون المدني ... » ( كتاب إشكالية الديمقراطية في العراق / سلام مكن ص 20 )

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115