منبــــر: هشام جعيط والسيرة النبوية: صرامة المنهج التاريخي أمام المعتقد

«فهذه الدراسة ليست كالأولى التي أرادت لنفسها البحث في ماهية الوحي و النبوة من وجهة نصف كلامية - ميتافيزيقية و نصف تاريخية

و كما يمكن أن يراها المفكر المسلم الآن بل هي دراسة تاريخية بحتة في موضوع حساس جداً لأنه يلتصق بالماورائي ويتصل بالمعتقد، و التاريخ إنما هو علم وضعي و أرضي يتناول فعاليات الأفراد و المجتمعات البشرية في الماضي ويخرج عن دائرة الإيمان و المعتقد».
هشام جعيط، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (II,5).
• مقدمة
إن آثار الأستاذ هشام جعيط كثيرة ومتنوعة، تطرق من خلالها إلى مجالات مختلفة، من تاريخ المدينة الإسلامية إلى تاريخ المغرب العربي مروراً بالفتنة الكبرى، دون أن ننسى أعماله الفكرية الثمينة مثل «أوروبا و الإسلام» و»أزمة الثقافة الإسلامية». كل هذه الآثار هامة، لكن لا شك أن أخطرها بالنسبة لنا كقراء عرب ومسلمين هي ثلاثيته حول السيرة النبوية و مجهوده العلمي في استقراء نشأة الإسلام وتاريخ الرسول. وهذا العمل خطير لأنه يسعى إلى تناول موضوع النبوة من زاوية تاريخية بحتة وهو ما يضع موضع السؤال بل يفند أحياناً مسلمات حول السيرة النبوية توارثها المسلمون منذ ما يزيد عن 12 قرناً.
وكان هشام جعيط واعيا تماماً بخطورة مشروعه وبما يمكن أن يكون وقع عمله على ضمير قرائه المسلمين، فيذكر أن «بصفة عامة التاريخ يتجه إلى المختصين في ميدان معين قبل كل حساب. لكن مع هذا إذا اتسع أفقه فهو يمس من ينتمي إلى الحضارة المدروسة أو المجتمع المدروس بصفة قد تكون وجودية» (II,7). لهذا السبب رأى أنه من المستحسن أن يأخذ كل الاحتياطات لشرح أسباب خوضه مثل هذه المغامرة وتفسير خصوصية منهجه في دراسة السيرة النبوية، ف «قد يقال لا نحتاج بالخصوص إلى دراسة أسس الإسلام من موقع غير إيماني أو قد يبدو تشكيكاً في أمور قد تقبلها الوعي الجماعي». (II,8).
وفعلاً إننا نجد في الجزءين الأولين اللذين اعتمدناهما في هذا المقال، خاصة في المقدمتين، هاجساً بيداغوجياً واضحاً عند الكاتب. فهو يخصص حيزاً هاماً ليفسر لماذا وكيف ارتأى درس تاريخ الرسول بصفة علمية. وقد قام بمجهود كبير حتى لا نسيء فهمه. كما أنه أجاب في المقدمتين بطريقة استباقية على الانتقادات التي يمكن أن تأتيه من «اليمين»، أي من قراء محافظين سوف يحترزون من تحليلاته أو يعارضونها صراحة، أو من «اليسار»، أي من قراء «علمانيين» ربما سيعتبرون أن الكاتب قد تحاشى الذهاب إلى الاستنتاجات المنطقية التي كان من المفروض أن يوصله إليها المنهج الذي توخاه. وقد نجح جعيط في رأينا من خلال المقدمتين في وضع بحثه في اطاره، وهذا ليس بغريب عن مفكر عميق مثله كان جد متمكناً من القضايا المنهجية.

ويؤكد جعيط أن الهدف من عمله «ليس المس بالمقدسات الإسلامية و لا بالذات النبوية و لا إقامة أحكام تقريظية أو سلبية «(II,6) كما أنه ينبه أن مقاربته لا علاقة لها بأي ايديولوجيا (II,7) و إنما المقصود من بحثه هو «تعميق المعرفة و إثراؤها في فترة عرف فيها علم التاريخ تقدمًا بالغا في الغرب» (II,7) و قد رأى جعيط أنه يمكن تجديد البحث في السيرة النبوية و السعي إلى «إخراجها من تراكم الأفكار المسبقة أو غير المثبتة أو من التحليلات النفسية الواهية، في المقابل لا بد من وضع موضع السؤال و النقد الأخبار التي أتت بها السير و اعتبرت كأنها معطى» (II,21)

التمشي واضح إذن. جعيط يعتمد أبحاث المستشرقين و ينقدها في آن، و يستعمل هذه الأبحاث لنقد السير النبوية القديمة : «فنحن نعتمد هذه الأبحاث (التي سبقت) و نذكرها و نحللها أو ننقدها على السواء، لكن أيضا نرجع الى المصادر و ندرسها عن كثب و كأن الموضوع طرق لأول مرة (II,15). و لكن نقده للاستشراق و للمصادر القديمة كذلك يرتكز على … القرآن! و هنا تكمن خاصية بحث جعيط و إضافته : اعتماده على القرآن كمصدر أساسي لتحليل و نقد السيرة النبوية ف: «بما أن القرآن معاصر للأحداث، فهو المصدر الأساسي، خصوصًا بعد أن رتبه العلماء المحدثون من المستشرقين إلى فترات متباينة و متتالية» (II,183). و بالطبع لا يمكن أن يكون القرآن مصدرا تاريخيًا عاديًا فهو «لا يعطي تفاصيل عن الأحداث بل يثبتها فيجعلنا نتحقّق من وجودها» (II,22).

من الواضح أن مثل هذا الخيار يطرح إشكاليات كبرى، فكيف يمكن اعتبار نصً مقدسً يرى فيه المسلمون كلام الله المنزل مصدرًا تاريخيًا أساسيًا؟ لا بد هنا من العودة إلى ماهية الوحي و القرآن وهو ما فعله جعيط بتعمق وذكاء كبيرين في الجزء الأول من الثلاثية و لكن حجته الرئيسية في التعويل على القرآن كمصدر هي ابتعاده عن الخوارق : «لأنها مستحيلة في ذاتها ويستحيل الإيمان بها في هذا الوسط» (I,29) و»ابتعاده خاصة عن كل عنصر لا عقلاني بخصوص النبي بالذات» (I,29) وهو ما يضفي عليه مصداقية في رأي المؤرخ، إلى جانب المحافظة عليه عمومًا من أي تحريف سواءً كان بالإضافة أو بالحذف.

هذا هو إذن منهج جعيط في دراسة السيرة النبوية: إلمام و معرفة معمقة بأعمال المستشرقين و المصادر القديمة و نقدها متى وجب و العودة إلى القرآن للاستئناس به كذلك للحسم في بعض الأحيان. و هذا الخيار المنهجي هو الذي شجع جعيط على الكتابة في تاريخ الرسول بعد تردد طويل (I,7). و جعيط يؤكد في بداية الجزء الأول أن «هذا الكتاب و ما سيتبعه كتاب علمي و ليس بالدراسة الفلسفية و يعتبر بالتالي كمعطى ما هو لب الدين الإسلامي : الوحي و الإيمان والبعث. و سواءً كان المؤرخ - المسلم و غير المسلم - مؤمنًا أو خارج عن الإيمان، فمنهجه هو هذا، أي اعتبار المعطى كمعطى ومحاولة تحليله لا أكثر (I,8).

ها نحن إذن في جوهر موضوعنا : ما هو منهج المؤرخ مسلما كان أم غير مسلم، مؤمنًا كان أم غير مؤمن، في دراسة ما هو «مرتبط بالماورئي و ما هو ملتصق بالمعتقد»؟ إلى أي مدى يمكن أن يذهب العلم في نقد الرواية الدينية الموروثة ؟ و في تفنيد ما هو مختلق لحبك الرواية و ما هو خرافي ؟ و الأهم من كل هذا، كيف يمكن للمنهج العقلاني و للعلم الوضعي التعامل مع المعطى الإيماني، أي مع ما يطرح مسائل بعلاقة بما وراء العالم ؟ هل على المؤرخ أن يغامر في طرق مثل هذا الموضوع ؟ و كيف ؟

سنرى في فقرة أولى أن جعيط كان واعيًا بكل هذه الإشكالات و أنه خصص لها ما سميناها «تأملات منهجية» حيث يعود المؤرخ على علمه و يلبس لذلك ثوب الابستمولوجي. كما سنحاول في فقرة ثانية إبراز أهم النتائج التي يصل إليها جعيط عندما يلتزم بصرامة المنهج التاريخي في دراسة السيرة النبوية، وذلك أساسا في علاقة بأمية الرسول المزعومة و بالتأثيرات التي تأثر بها الرسول و آثار المسيحية السورية في القرآن، حيث يذهب جعيط إلى استنتاجات أبعد مما ذهب إليه أكبر المستشرقين في هذا الصدد. و سنخصص فقرة ثالثة لإبراز المواقف التي يكبح فيها جعيط جماح المنهج التاريخي أو يقر بعجزه على تناول ما له علاقة بالماورائي وهو بهذا يكون قد تموقع خارج المنهج العلمي العقلاني.

• تأملات منهجية حول التاريخ والمعتقد
يستعد جعيط إذن إلى تطبيق صرامة المنهج العلمي في استقراء السيرة النبوية و هو يعرف أن إضافته بالنسبة للقراء المسلمين تكمن هنا بالذات. إذ «ليس لنا هنا أن نستسلم و نتخلى عن طريقتنا الفينومينولوجية، وإلا رددنا ما أوردته المصادر القديمة» (I,28). لكنه و إن تمسك بالمنهج العلمي فإنه أورد في نصه مجموعة من الملاحظات ذات طابع ابستيمولوجي سعى من خلالها إلى تنسيب الحقائق العلمية و التذكير بحدود العلم بصفة عامة و علم التاريخ بصفة خاصة. ف»العلم بذاته رسم حدودًا لنفسه، فحقائقه نسبية ودقيقة في آن (…) وتبقى أصول الأمور و أسبابها النهائية معلقة» (I,93). وأما علم التاريخ فهو»لا يتسم بالمصداقية الكافية كعلوم الطبيعة أو الدقة و الصرامة كالرياضيات و لا يفلت من التأويلات» (II,8). لكن رغم كل هذه النقائص «فإن المؤرخ الصميم لا بد له أن يلتزم بما لديه من مصادر و أن يتسم بالحذر ... من دون إخضاع (واقع الماضي) لأية نظرة مسبقة (II,8). هذا و لا يفوت جعيط التأكيد على أن التاريخ معرفة «تخضع إلى روح الزمنية التي تنتجها» (II,7).

و بعد التذكير بحدود علم التاريخ و تنسيب نتائجه فإن جعيط واجه جوهر موضوعه أي علاقة علم التاريخ بالمعتقد و بما يتصل بالإيمان. و في هذا الصدد يذكر جعيط بأن التاريخ علم دنيوي أرضي و هو ما يترك الماورائي خارجًا عن موضوعه «قلت أن التاريخ كواقع و كعلم يجري على سطح الأرض و لا يتناول الحقائق الميتافيزيقية في حد ذاتها» و هذا ما يتطلب من «المؤرخ المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الشخصية عندما يدرس بزوغ الإسلام. فالحقائق الدينية يتناولها بالوصف والتحليل، بالبحث في التأثيرات و التطورات، ويضعها في لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطى الإيماني، و إلا بطل البحث و هو دائما خارجي لا يهتم إلا بالظواهر و ليس بالحقائق العليا» (II,6). الماورائي إذن خارج عن موضوع التاريخ و لكنه أيضا أعلى من التاريخ. و هذه فكرة أشار إليها جعيط بوضوح في مقدمة الجزء الأول لما شرح مخططه و لماذا يجب في رأيه أن يسبق التفكير في الوحي و النبوة البحث التاريخي البحت : «تاريخية النبوة و النبي التي ستأتي ًفي الآخر لوضعه في الإطار الواقعي من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصة، بل هو أدنى من الحقيقة الدينية المحضة» (I,7). المهم أن جعيط واعي تمامًا بالإشكال الموجود في تأريخ ما له علاقة بالدين أي أنه واعي ب «الصراع بين العقلانية و التاريخية) التي تضع الدين في مجرى التاريخ( و بين مطلقية المعتقد كحقيقة فوق التاريخ أي كحقيقة لا زمنية» (I,106). وهو يرجع هذا الصراع إلى المنحى الذي اتخذته الحداثة في أوروبا، «وهو إقصاء الدين جملة من الوجود البشري» (I,106)، مذكرًا بالملاحظة الصميمة لعالم الاجتماع «ماكس فيبر» في هذا الصدد «ارتفع السحر عن العالم في فترة الحداثة، أي أن أوروبا، وهي طليعة الإنسانية، طردت كل القوى الخفية التي وزنت بوزن كبير على البشر من آلهة و شيطاين و أرواح و ملائكة «(I,93).

إلا أن الحداثة حداثات. و جعيط يبرز أن الموقف من الدين في الغرب قد تغير. إذ ولت «عهود الصراع مع الكنيسة» و «عهود تصادم العلم مع الإيمان» و ذلك لأن «العلم ابتعد عن نضاليته الأولى و تجاوز النظريات الوضعية القديمة، أي أن العلم و بالخصوص علوم الانسان صار يتسم بالرصانة في نفس الوقت الذي نأى فيه عن مواقع السذاجة و الكفاح الايديولوجي» (II,8), بل إن «الفكر الحديث يجنح إلى تفهم (المعتقدات) في منطقها الخاص بروح رحبة» و «من ينظر اليوم إلى الأديان الماضية و الحاضرة من أهل العلم و الحكمة و حتى سلامة العقل، ينظر إليها بمحبة و تقدير، و يجب عليه ذلك» (I,93).

ليس من المفاجئ إذن أن تتنزل محاولة جعيط في استقراء تاريخ الرسول في إطار مثل هذه المقاربة التي تنظر إلى موضوع بحثها بحب و تقدير و تجنح إلى تفهمه في منطقه الخاص. و هذا ما عبر عنه جعيط صراحة في مقدمة الجزء الثاني لما أكد أن «على المؤرخ أن يتسلح - زيادة على الموضوعية و الدقة - بالتعاطف، أي بقسط كبير من النزاهة و التفهمية» (II,6). و قبل ذلك في الجزء الأول لما أعلن أنه في هذا الكتاب حاول «الاعتماد على المعرفة و استنباط منهج عقلاني تفهمي» (II,12).

ما عسى أن يكون هذا المنهج العقلاني التفهمي؟ إلى أي مدى ستذهب العقلانية و متى سيبدأ التفهم؟ و ما هي أهم النتائج التي أفضى إليها هذا المنهج فيما يخص تاريخ الرسول؟ و هل هناك قطيعة منهجية بين الجزء الأول الذي كتب من وجهة نصف كلامية - ميتافيزيقية و نصف تاريخية و الجزء الثاني الذي قدم على أنه تاريخي بحت؟ سنقدم في مرحلة أولى أهم النتائج التي وصل إليها جعيط لما انتهج نهج الصرامة التاريخية في استقراء السيرة النبوية، خاصة و أنه قدم محاولته على أنها «استقراء تاريخي للنص القرآني و تتبع التأثيرات الخارجية و النظر النقدي في المصادر التاريخية و البيوغرافية» (II,15).

• جعيط مؤرخاً صارماً : حول أمية الرسول و تأثيرات المسيحية السورية على القرآن
قلنا في البداية أن مشروع جعيط في كتابة السيرة النبوية يعتمد على قراءة نقدية لأعمال المستشرقين الجديين التي تطرقت بصفة أو بأخرى لنشأة الإسلام. وكذلك الشأن بالنسبة للمصادر القديمة التي و إن نجحت في كتابة تاريخ متماسك لحياة الرسول فإن مصداقيتها ضعيفة : «و نحن لا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد (...) لأن القاعدة هي أن كل ما دون بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرخ» II,94)). و يستند جعيط إلى القرآن الذي، على العكس، يتسم بمعاصرته للأحداث وتم الحفاظ عليه من التحريف. إذ يرى الكاتب أن «الرسول سهر في آخر حياته على تنظيمه وهيكلته ومراقبة محتواه، بل إن النص سجله هو كتابياً من الأصل في مكة ذاتها» (II,22). كما يعتبر أن إقحام كلمات أو عبارات لم يبح بها النبي أو إسقاط لعبارات أخرى «محتمل في حالات قليلة» (II,22).

نستنتج مما سبق أن جعيط يرفض أحد أعمدة السيرة النبوية ألا وهي فكرة «أمية الرسول»، أي جهله المزعوم للقراءة و الكتابة، كما يرفض إحدى أهم تمظهراتها : قصة الغار التي لا أثر لها في القرآن (II,35). و بالنسبة لجعيط المسألة واضحة و»لا تحتاج إلى جدال طويل : النبي الأمي يعني النبي المبعوث من غير بني إسرائيل» (I,43). ويضيف جعيط «أن من الواضح عندي أن شخصاً مثل محمد، في الزمن و الوسط الذي عاش فيه، كان يحسن القراءة و الكتابة و أنه كان يتمتع بأوصاف النبوغ والعبقرية و الحافظة و الذكاء الوقاد» (I,45) كما ينبغي أن يكون الأمر لمبدع دين كبير. وهذا الموقف بتدعم في الجزء الثاني عندما يؤكد جعيط أن محمدًا «كان علامة في مجال الكتابات اللاهوتية» (II,175).
وهنا نأتي إلى الإسهام الخطير الثاني و هو التأكيد على التأثير الكبير للمسيحية السورية على القرآن بصفة عامة و تأثير كتابات افراييم على توصيف نهاية العالم ويوم القيامة بصفة خاصة. فالتشابه هنا كبير و يذهب حتى إلى الجزئيات. وأمام هذه النصوص المتقاربة في الزمن و المكان: «نصوص من الكنيسة السورية بالسريانية واليونانية، و النص القرآني، فإن المؤرخ الذي يبقى على مستوى النصوص و الزمن التاريخي، التاثيرات أمر مقبول و هنا تكون في اتجاه سوريا - مكة و يصعب ألا تكون معرفة كتابية عن كثب» (II,174).

و في خصوص هذه النقطة بالذات أي اطلاع محمد عن كثب على نصوص المسيحية السورية باللغة السريانية، إن كانت وعظات افراييم أو قصص مريم و الطفل المسيح أو الأناجيل المنحولة، فإن جعيط يذهب في استنتاجاته أبعد مما ذهب إليه المستشرقون بصفة عامة و المستشرق السكاندينافي «تور اندري» بصفة خاصة الذي اكتشف التشابه بين القرآن و كتابات افراييم فاعتبر أن «لا بد وأن محمدًا قد سمع في الأسواق بعض الرهبان يحكون عن هذه الكتابات (II,12). و هذا ما يرفضه جعيط بشدة إذ يلاحظ أن «تور اندري يبقى أسيرًا لفكرة أن محمدًا لم يكن بعرف مباشرة النصوص السورية و هي فكرة غلبت على المباحث الاستشراقية، إما لأنهم يعتقدون بأمية الرسول بالرغم من أنهم أناس متحررون من الانتماء الإسلامي أو لأنهم بقوا أسارى نظرة دونية لمعرفة الرسول وإلى استعداداته للرؤيا و الكشف من جهة أخرى. فيجب في رأيهم أن يبقى عربيًا بسيطًا سمع بالسماع آراء رائجة في الأسواق و لم يهضم تمامآ التقليد اليهودي-المسيحي، فيخطئ في عرضه لهذا التقليد» (II,12). و هكذا فإن تور اندري لا يجرؤ على المضي قدمًا في برهنته لأنه لا يمكن للنبي (في رأيه) أن يكون عالمًا بالمسيحية» (II,12).

و الملفت للانتباه أن جعيط لا يتبنى المخرج الذي ذهب إليه اندري و الذي يمكن أن يفسر التشابه «في الفكر … في التعابير و الصور و الاستعارات» (II,168) بين القرآن و عظات افراييم بما يتماشى مع فرضية أمية النبي أو على الأقل عدم اطلاعه على هذه الكتابات. إذ يرى اندري أن «هذه الرؤى و بنى التقوى الممزوجة بالخشية لدى افراييم و في القرآن إنما هي نماذج دينية مقولبة، كليشيهات معبرة عن منهاج الذهنية السامية آنذاك، فينكر أي نقل مباشر من القرآن عن افراييم» (II,168). ويرفض جعيط هذا التحليل المغري، إذ يعتبر أن «ذهنية عرب الحجاز ليست ذهنية أهل الشام و لا الحيرة و لا الغساسنة» (II,168) المسيحيين.
يتمسك جعيط إذن على عكس المستشرقين بفكرة عبقرية محمد و بكونه كان علامة في اللاهوت المسيحي بل و يتعمق في هذا النهج إذ يعتبر أن الرسول قد اطلع على الكتابات المسيحية و أنه «لم يدرس فقط … بل تفكر وتأمل» (II,156). و في خصوص هذه النقطة بالذات يؤكد جعيط على الأهمية التي يكتسبها تعاطي محمد للتجارة إذ «أن القرآن مفعم بمعرفة دقيقة للتراث المسيحي و للتراث اليهودي» (II,150) و أن مثل هذه المعرفة تستوجب رحلات إلى اليمن و إلى سوريا بل و إقامات طويلة بهما وخاصةً بسوريا.

كما أن جعيط يولي اهتمامًا كبيرًا للفترة السابقة للرحلات التجارية و التي عاشها الرسول بمكة معتبرًا أنه ابتدأ التأمل و التفكير في القضايا الميتافيزيقية منذ ذلك الوقت و لا بد أنه تأثر بحوارات و نقاشات في هذا الموضوع. ف»من الواضح أن شابًا قرشيا مهما كانت عبقريته و حساسيته و ميله للتأمل الديني لا يمكن أن يتجه إلى البحث اللاهوتي في الشام و عبر لغات أجنبية مثل السريانية و اليونانية من دون تهيئة مسبقة في بلده أو تأثير تأثر به لكي يتولد لديه مثل هذا الاهتمام» (II,152). إذن وقع تأثير في مكة و جعيط ليس مقتنعًا برواية السيرة التي تحدثت عن من سمتهم «حنفاء» و هم أناس غير راضين بدين العرب يبحثون عن إجابات أخرى على حيرتهم الدينية. وهو يعتبر أن هؤلاء كانوا مسيحيين بكل بساطة و أن القرآن نفسه يؤكد هذا التأثير لما يرد على اتهامات قريش التي تقول أن محمدًا معلم من طرف أعجمي : «إن القرآن لا ينفي هنا لا الاتصال بهذا الشخص و لا بنهل المعرفة منه و يكتفي بالإجابة على أن القرآن لا يمكن أن يكون أملاه هذا الرجل في شكله الموجود. إنما من الواضح أن النبي كان يعرف هذه اللغة الاعجمية (السريانية؟)» (II,154).
و بالعودة إلى تأثير المسيحية على القرآن، فإن جعيط يعتبر أنها تتجاوز التشابهات مع كتابات افراييم التي تفطن إليها تور اندري. فهناك كذلك تأثيرات هامة للأناجيل المنحولة على ما يقصه القرآن حول مريم و حول المسيح، و الأهم من هذا ربما هو أن المسيحية وراء بعد الزهد في الإسلام ف»النبي زاهد إذن و متأمل … وهو مكتسب لمثل ديني رفيع جدًا و صارم جدأ» (II,173) وهو بدون شك مثل الرهبان المسيحيين.

و تأثير المسيحية السورية على القرآن هو من أهم استنتاجات جعيط في استقراءه العلمي للسيرة النبوية. فهو يذكرنا بأن المسيحية كانت تزن بوزنها على شبه الجزيرة العربية التي ربما كانت لتصبح مسيحية لولا سبقتها الدعوة المحمدية لتوحد العرب تحت دين توحيدي جديد. و يعتبر جعيط أن بروز نبوة محمد لا يمكن أن يفهم خارج تأثير المسيحية إذ «كبار المصلحين و المبدعين في الدين و الفكر يظهرون في غفلة من التاريخ … لكن باتصال ولو قليل في ميدانهم. من دون هيكلة الهندوسية في زمانه لم يكن ليظهر البوذا و من دون المسيحية الشرقية السورية لم يكن ليظهر محمد و إلا فلا نرى كمؤرخين حلًا للإشكال» (II,164).

لنستعد إذن أهم نتائج بحث جعيط وهو ملتزم بالمنهج التاريخي الصارم، أي عندما يضع الدين في مجرى التاريخ و يحاول أن يفهم الدعوة المحمدية استنادا إلى ما يجري على سطح الأرض و يبحث في التاثيرات : محمد لم يكن أميًا بل كان يحسن القراءة و الكتابة وكان عبقريًا و كبعض أبناء وسطه و زمنه لم يكن راضيًا بدين الأجداد و كان يبحث عن إجابات أسمى لحيرته الدينية. و هنا نأتي إلى مسألة الحضور المسيحي في الجزيرة العربية و اليمن و الشام. إذ لا شك أن محمدًا عرف مسيحيين في مكة وناقشهم، لكن الأهم من ذلك هو تعاطيه للتجارة بعد زواجه و سفراته إلى اليمن و الشام حيث اطلع على كتابات افراييم و الأناجيل المنحولة بل و درسها و تأمل فيها حتى أصبح علامة في اللاهوت المسيحي، على عكس ما يعتقده كبار المستشرقين. وهنا نصل إلى السؤال الخطير: إذا دحضنا فكرة أمية الرسول بل أكدنا على ذكائه وإلمامه بلاهوت المسيحية السورية، فما القرآن إذن؟ ومن جهة تاريخية بحتة تأتي إجابة جعيط واضحة: «إن كل ما اختزنه محمد في ذاكرته سيرجع عن طريق الوحي، في حالة الإيحاء الداخلي، عن طريق الصوت الداخلي الملهم في فترات الانخطاف و الذي اعتبره محمد بكل حماس وحيا إلهيا من الخارج» (II,154).

هذه إذن أهم النتائج التي وصل إليها جعيط عندما التزم بالمنهج التاريخي الصارم. لكن في الجزء الأول من الكتاب، خاصةً عندما ينكب على تحليل ماهية الوحي والقرآن، نلاحظ أنه لم يلتزم بالمنهج التاريخي الصارم، إذ قام بإشارات إلى الماورائي و تدخله في التاريخ الذي يجري على سطح الأرض و إلى عدم قدرة العلم بل العقل الإنساني على إدراك مثل هذه المسائل.

• التاريخ و الماورائي
لاشك و أن صعوبات جمة ستعترض المؤرخ ما أن حاول التطرق إلى القضية الجوهرية في السيرة النبوية : قضية الوحي. و إن قام جعيط في الجزء الأول ببحث هام حول ماهية الوحي و لحظة التجلي استنادا إلى سورتي النجم و التكوير، فإنه أعلن منذ البداية أنه لا يمكن للعلم بل للعقل الإنساني فهم هذه التجربة الفريدة التي عاشها النبي،: «الوحي هو العملية التي تم بها التبليغ إلى الرسول و التجربة الفريدة التي عاشها و ليس همنا أن نستنكه هذا بالعقل فهو أمر مستحيل» (I,18). وهو يعود مرة أخرى، في الباب السابع المخصص «لقوة النبي»، إلى هذا الموضوع مؤكدًا محدودية علومنا أمام هذه الظاهرة : «التجلي و الوحي يبقيان الصيغة الحاسمة التي تتجاوز العقل، وبالتالي لا يمكن تفسير ذلك بمعارفنا البسيطة المحدودة» (I,93). هناك إذن إقرار بوجود عالم آخر غير عالمنا، فيلعب النبي دور الوسيط بينهما : «فالنبي وسيط بين العالم الأرضي الإنساني و بين العالم الآخر، عالم الروح و الإله ذاته» (I,93).

و هنا يظهر أول إشكال منهجي : ما هو المقام الذي يجب أن يعطيه المؤرخ لظاهرة الوحي ؟ هل يمكن اعتباره حدثًا تاريخيًا ) وهو كذلك( أم أكثر من مجرد حدث تاريخي ؟ و يعتبر جعيط أن الوحي فعلًا أكثر من ذلك : «التجليات هي أكثر من أن نعتبرها أحداثًا تاريخية، فهي في التاريخ لكنها ترمز إلى ما وراء التاريخ و ما وراء العالم سواءً إلى الكائن الإله المشخص أو المطلق اللا مشخص» (I,27). و الأمر يزداد تعقيدًا عندما سيطرح جعيط ثنائية الحقيقة و الواقع : «فظاهرة الوحي... هي كشف للحق المطلق» (I,98). وهو ما يجعل النبي في منزلة : «ما بين الحقيقة و الواقع» (I,104) أي بين التاريخ و ما وراء التاريخ. وليس من المفاجئ أن يعتبر جعيط أن : «الحقيقة تسمو على الواقع» (I,104) والمعتقد على التاريخ. واستنادًا إلى كل هذه الأفكار فإن جعيط يحدد مقام الوحي بالنسبة له : «الوحي ظاهرة تاريخية واقعية من وجهة التاريخ والأنثروبولوجيا. إلا أنه يصبو إلى ربط العلاقة مع المطلق و الحقيقة المطلقة و هذا ما يخرجه عن التاريخية العادية المحدودة النظر» (I,97).

ولا شك أن بتناوله ظاهرة الوحي بهذه الطريقة يخرج جعيط عن التمشي المعتاد عند المؤرخين. وهو واعي بذلك: «يبقى أن الوحي ظاهرة دينية فحسب معطاة من التاريخ، و العقلانيون لا يؤمنون بواقعيتها الفعلية : هذا شأن المؤمن ليس شأن العالم و الفيلسوف» (I,105). فهل كان جعيط المؤرخ مستنبط المنهج العقلاني - التفهمي مؤمناً بواقعية الوحي الفعلية؟ هذا ما توحي به بعض التحاليل. و هذا الأمر يتجاوز مسألة «صدقية الرسول» التي طرحها المستشرقون و التي لطالما أزعجت جعيط، منذ «أوروبا و الإسلام»، لأنها لم تطرح في علاقة بعيسى ولا بموسى. و يتبع جعيط في هذا الإطار النهج الذي انتهجه المفكر الألماني الكبير «ماكس فيبر» في توصيف هذه التجربة فيرى أننا مع الوحي و التجلي ندخل في واقع لا إنساني و حقيقة تفوق الإنسانية و لذا يكون من الأرجح أن محمداً من أصحاب الرؤى» (I,57) و «فيبر» يعتبر أن علينا أن نصدق ما يقوله الأنبياء عن تجاربهم وهذا ما يتبناه جعيط. لكنه لا يتبع «فيبر» إلى الآخر لأن هذا الأخير «كوضعي عقلاني حديث و حتى كاجتماعي تفهمي، اعتبر أن سلوكات الأنبياء هي من النمط المرضي» (I,75). فجعيط يرى أن عند التجلي و الوحي الأنبياء يعطون عقولهم دون أن يفقدوها و يقتربون من الجنون دون أن يقعوا فيه .(I,98)

إن كل ما بلوره جعيط من تحاليل و أفكار حول ظاهرة الوحي هو نتيجة لتطبيق المنهج العقلاني التفهمي الذي سعى لاستنباطه و هو الذي يتجاوز المنهج العقلاني الوضعي القديم و يتطرق إلى موضوعه بقسط كبير من التفهم والتعاطف، على غرار ما فعله «فيبر» محللاً تجارب الأنبياء و ما أوصى به من ضرورة تصديق ما يقولون عنها. لكن يبدو أن جعيط يذهب إلى أبعد من هذا فكأنه يقر بوجود ما وراء العالم حيث الآلهة و الأرواح و أن هذا العالم محتضن للحق المطلق، على عكس عالمنا الدنيوي حيث الواقع و الحقائق النسبية...

ولا يقف جعيط عند هذا الحد، إذ نجد في الجزأ الأول وحتى الثاني تحاليل لم نتعود عليها عند المؤرخين كالتي تتحدث عن تدخل للإله في التاريخ البشري. فهو يلاحظ مثلاً بكل أسف أن «العقلانيين الأكثر تفهماً في أوروبا العصر الحديث ضخموا من دور مؤسسي الأديان لأنهم اعتبروهم مبدعي هذه الأديان ... لكن الذي حدث في كل هذا هو إقصاء الله» (I,105)! و هذا ما لا يفعله المؤرخ هشام جعيط، إذ يرى «أن النبي كان قبل البعثة يبحث في اتجاهات عدة عن الحقيقة، و أن الله هداه إليها، لكن القرآن فرض عليه بغتة» (I,100). كما نجد في الجزء الثاني، التاريخي البحت كما قدمه جعيط، أثراً لفكرة تدخل إلهي في التاريخ البشري، ولو بأقل حدة و بصفة غير مباشرة. إذ يكتب جعيط : «إن تعلم (النبي) و درسه و تدريبه إنما كان بإلهام من الله و تحت رعايته»، لكنه سرعان ما يضيف «هذا ما اقتنع به الرسول بكامل القناعة و الجدية» (II,155). و من هذا المنطلق لا يمكن أن يفاجئنا تأكيد جعيط على أن القرآن «هو الأثر الإلهي الذي انطبع في الصيرورة الإنسانية» I,22).
هل يمكن اعتبار أننا هنا أمام اختلال للتوازن بين العقلانية و التفهم لصالح هذا الأخير؟ أم أنه يجب علينا فصل الجزء الأول عن الجزء الثاني و اعتبار أن بعد تقديم مسألة الوحي و النبوة كما يجب أن يطرحها المفكر المسلم اليوم راح جعيط إلى عمله كمؤرخ صارم في الجزء الثاني؟

• الخاتمة
وقفنا فيما سبق على خصائص المنهج التاريخي الذي انتهجه هشام جعيط في استقراء تاريخ الرسول. و مهما كانت المؤاخذات حول ما سماه منهجه العقلاني التفهمي، خاصةً عند تطرقه إلى مسائل في علاقة بالماورائي كالتجلي و الوحي، حيث هناك إقرار بتدخل للماورائي في التاريخ الإنساني، أو تقديم ثنائية الواقع (التاريخي) و الحقيقة المطلقة (الماورائية)، فإن إسهام جعيط في استكشاف نشأة الإسلام و استقراء السيرة النبوية إسهام عظيم. إذ يهدينا في ثلاثيته رؤية جديدة و جريئة لتاريخ الرسول فند من خلالها بكل شجاعة ما علق به من أساطير و خرافة و اختلاقات كتبت أكثر من قرن بعد الأحداث و سعت بطريقتها إلى حبك رواية معقولة و ملئ الفراغات (خاصةً فيما يخص حياة الرسول قبل البعثة) مع تعظيم لشخصية الرسول، وهو أمر طبيعي في كل الديانات يتنامى مع مرور الزمن، و أعطانا سيرة نبوية جديدة لا شك و أنها أقرب إلى الحقيقة التاريخية مما توارثناه منذ قرون.

و الإنجاز عظيم كذلك لأنه «عمل عمر». فهو نتيجة لقراءة نقدية قام بها عبر عقود لكتابات المستشرقين القدامى منهم والجدد و للمصادر القديمة من تاريخ و أخبار و أنساب و غزوات و كذلك لمعرفة عميقة و دقيقة للقرآن غذتها أعمال المستشرقين الذين أعادوا ترتيبه مثل نولدكه في القرن التاسع عشر و بلاشير في القرن العشرين. و هنا تكمن أهمية إسهامه. فجعيط ليس المؤرخ الأول الذي يرفض قصة الغار أو يفند فكرة أمية الرسول أو يبرز تأثيرات المسيحية السورية على القرآن، لكنه بفضل قراءته النقدية للمستشرقين و للمصادر القديمة و اعتماده على القرآن كمصدر رئيسي، توصل إلى كتابة تاريخ لمحمد يحمل بصمته الخاصة.
ولا شك أن ما حث جعيط على إنجاز هذا المشروع العظيم هو ما أخطأه الاستشراق القديم في حق الرسول و المنحى غير العلمي الذي تورط فيه الاستشراق الجديد. فأما بالنسبة للأول و بالرغم من أنه يعد علماء كبار وجديين يشيد بهم جعيط مثل فلهاوزن و قولدزيهر وشخت و نولدكه فإن بحوثه حملت : «قسطًا غير قليل من الأحكام المسبقة حول شخصية

(الرسول) و أخلاقيته وحول مدى صدقه في ادعاء النبوة، و كل هذا ليس من العلم في شيء» (II,10). و أما بالنسبة للثاني فنقد جعيط أكثر قسوة. فهو يعتبر أن أتباعه ينتجون علمًا «من دون تثبت ولا مسؤولية و لا حذر» (II,13) وأنهم «اعتبروا أن كبار العلماء في الميدان قد خبا ذكرهم و درجوا فيمكن عندئذ البوح بأي فكرة من دون رقابة الرابطة العلمية العالمية «(II,14). و لا شك أن جعيط يضع في هذه الخانة ما ذهب إليه الاستشراق الجديد من اعتبار «أن النص القرآني … حرر في القرن الثاني ه / الثامن وأنه أعيدت صياغته في الفترة العباسية» (II,24). و يرى جعيط أن «هذا الزعم مطبوع بالغلو في نقد النصوص و لا يصمد أمام الفحص لأسباب عديدة لا تحصى…» (II,24).

و هكذا يظهر أن رد جعيط على الاستشراق فيما يخص نشأة الإسلام هو من قبيل ممارسة الرقابة العلمية على الأعمال غير الجدية للاستشراق الجديد و من قبيل الرد على الأفكار المسبقة الجارحة التي يحملها الاستشراق القديم. و في كلتا الحالتين فإن جعيط يحمل وجهة نظر المفكر المسلم إزاء هذه الأعمال و الواعي بأن الاستشراق هو في نهاية الأمر «من إفرازات الشعور البروميثي الأوروبي» (II,8). وقد اقتنع بأن أفضل رد على الفريقين هو كتابة تاريخ محمد حسب المعايير العلمية الحديثة، إذ «لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب و المسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميًا. و هكذا قد آن الأوان لنسهم بدورنا في الميدان من وجهة علمية صارمة و في موضوع يهمنا قبل غيرنا» (II,9). ورغم كل الاحترازات التي يمكن عن يثيرها مثل هذا العمل الجريء، فإن جعيط قد رفع التحدي باقتدار، فبعد هذه الثلاثية لن ننظر كعرب و مسلمين إلى تاريخنا بنفس الطريقة. فلنقرأ إذن هذا الأثر فجعيط لم يكتبه للمختصين بقدر ما كتبه لعموم المسلمين وهو يستجيب أكثر من السير القديمة إلى متطلبات العقل المعاصر ولأن «أخشى ما يخشاه الباحث هو اللامبالاة …» (II,15).
بقلم: بكار غريب

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115