وكأنّهم يريدون أن يرسّموه حدثا تاريخيّا جديرا بالتنويه والتذكير لاعتماده يوما تاريخيّا ضمن رزنامة الأيّام الوطنيّة المجيدة. وظنّي أنّ عيد الجمهوريّة الذي يحتفل به التونسيّون كلّ عام احتفاءهم بالدولة الوطنيّة قد اكتسب هذه السنة طعما آخر يمكن وسمه بعيد الثورة المدنيّة: حدث دعا التونسيّون إلى تنظيمه، والخروج إلى الشارع تعبيرا عن مطالبهم الناجمة من جوهر الواقع التونسيّ الرديء خلال العشريّة الماضيّة، وإنّ لقّبها أهل السياسة في الداخل والخارج ب»الربيع العربي» وتفاءلوا بالإنجازات العظيمة، والتخلّص من الاستبداد والاستحواذ على الحقوق، وصاغوا من الآمال والطموحات نموذجا قاسوا به كلّ التجارب العربيّة في البلدان العربيّة العظمى مثل مصر وسوريا، والمجاورة مثل ليبيا والجزائر. ولئن خرج التونسيّون بفرحتهم العارمة، وصفّقوا للحرّيّة، وصاغ أهل الحلّ والعقد بينهم دستورا عدّه المراقبون من أفضل الدساتير في العالم، وأنفقوا عليه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فإنّهم أفاقوا وعاينوا كلّ يوم أنّ البرق كان خلّبا، ووقفوا على أنّ الأمل والوطن والحقّ قد استحوذ عليها «الإسلام السياسي» بلا هوادة، وبلا رفق بما انتظر الناس، من مات منهم في سبيل حياة كريمة ومن هو على قيد الحياة. والخلاصة من حكم الإسلام السياسي بصيغه المختلفة، وتوافقه العجيب مع الشبيه، والمنافر، والمناقض، والمخاتل أن وصلت تونس إلى حالة من الإفلاس، والجوع، والتسوّل، والتفاوت الاجتماعي، بل طلع على التونسيين ذات يوم زعيمهم راشد الغنّوشي بالامتنان عليهم باستمرار ماء الشرب، وعدم انقطاع الكهرباء، وصرف الرواتب، وكأنّما كانت تونس برمّتها: بتاريخها ودولتها العصريّة وإدارتها المتينة، وكفاءاتها البشريّة، من فضل الغنّوشي. وتناسى الغنّوشي أنّه مطلوب للعدالة أصلا، ونسي هو وأتباعه أنّهم أحرقوا النفس حيّة، ونسوا باب سويقة، ونسوا أنّهم فرقة إرهابيّة تفرّق أتباعها في الأمصار الأوروبيّة، ونعموا بالمقام، وفرحوا بما كسبوا، بل تواطأ الكثير منهم مع المخابرات الأجنبيّة، فنالوا بذلك الجنسيات المختلفة وحازوا الجوازات الحمراء، وظنّوا أنّهم اكتسبوا وجاهة لدى الأغيار، ونسوا مرّة أخرى أنّ من لفظه أبناء الوطن لا حياة له بينهم، ولا شرعيّة له عليهم، وإن تباكى بما لقي من ظلم المستبدّ، وسلب الحقوق، والمعاناة من شظف الحياة... وهل كان عموم التونسيّين أيّام الاستبداد في بحبوحة من العيش؟ وهل كانوا أصحاب حقوق لا ينال منها، ولا يحرمون؟
وأقدم الإسلام السياسي بالحيلة الديمقراطيّة والتوافق العجيب والغريب على إدارة البلاد بقبضة من حديد أقاموها على ثلاثة مبادئ: أوّلها: تصدير أبناء النهضة وأهل الولاء لها وتعيينهم في كلّ الخطط والمناصب، لا يحاسبون وإن مزّقوا أوصال الدولة، وبذّروا الأموال العموميّة. والثاني: التظاهر بالديمقراطيّة والدفاع عن الحريّة وما إلى هذه المفاهيم التي أضحت مجرّد شعارات جوفاء أمام تطبيق مخالف ينمّ عن استبداد دينيّ مرعب؛ وكأنّما الغنّوشي قد أجرى بين الساسة كلّهم ممّن ذاقوا طعم الحكم ومنافعه قوله العظيم: «اتركوا الناس يقولون ما يشاؤون وافعلوا ما هو أصلح للحكم المستبدّ». أمّا المبدأ الثالث فهو الاستقواء على الشأن العام الوطنيّ بدبلوماسيّة موازيّة تصدّر النهضة للاتفاقات المشبوهة مع تركيا، وقطر، وأطراف بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا، والحرب في سوريا، والقول في تقرير مصير ليبيا. وكانت الحصيلة أن رأى التونسيّون العجب العجاب: رأوا جهاد النكاح، ورأوا التدخّل السافر في الشأن الليبي، والتهديد التركي للسيادة التونسيّة؛ كان كلّ ذلك بحجّة الديمقراطيّة والتصويت على القوانين المجحفة، ووصول البلاد إلى عتبة الإفلاس وشعور المواطنين بقهر لا مثيل له. ونال التونسيّون من العطش، وانقطاع الكهرباء، وغلاء المعيشة ما نالوا حتّى أصبحنا نرى أسرنا التي حفظتها العفّة طول حياتها تهرع إلى المزابل لتجمع البلاستيك عسى أن تُعِيش أبناءها وبناتها من الفواضل. وفي المقابل كان السادة الجدد يزدادون ثراء، ويملكون الأطيان والبيوت الفخمة والأموال الطائلة ولا يتورّعون عن الدفاع عن المجرمين،
والمتهرّبين من الضرائب. وإذا دخل سارق ذات يوم دار أحدهم وظفر فيه بما يساوي المليون من الدنانير التونسيّة نقدا، قال صاحب المليون من وجهاء النهضة: إنّه كان يجمع المال لمساعدة الأسر المعوزة بمناسبة عيد الأضحى. لله درّ الرجل الكريم... ولله درّ النهضة وسخائها... والحاصل من العشريّة السوداء أيضا أن قتل البراهي وشكري بلعيد تماما كما قتل شبّان من خيرة أمنيينا وجيشنا...وبقي الأمر سرّا لا يكشف، ولغزا لا يحلّ، ووجهاء الإسلام السياسي لا ينقطعون عن ذكر العدالة والحريّة والمساواة والرفاهيّة التي جلبوها بفتحهم العظيم لبلاد أعلنوا أنّها دار كفر وجلبوا لنا أهل الفتيا لتعليم التونسيين. أحكام دينهم بما في ذلك ختان البنات. والحاصل أيضا أنّ التونسيين قد اكتشفوا في غمرة خيبتهم جهازا سريّا يدير أمن البلاد ويهدّد كلّ حياة وأمن بها. وبينما هو بين شاك وباك وثكلى ناعية ومريض مبتلى يطلع عليهم أحد الوجوه النيّرة السيد الهاروني ليطلب مزيدا من التعويضات ويحمل الناس على دفع ما لم تصبه محلّة زرّوق أيّام الضنك والشدّة. والحاصل أخيرا أنّ التونسيّين ابتلوا بمجلس ظنّوا أنّه سيرعى المصالح الوطنيّة فتحوّل إلى أسوإ الفضاءات التي يتخاصم فيها الفرقاء، ويتشاتموا، ويتقاذفوا بأرذل الكلام وأفسده، لا يهمّهم شيء سوى المصالح الشخصيّة، وأعلن التونسيّون أكثير من مرّة أنّهم في حلّ من هذه الشرذمة وطالبوا بحلّ المجلس بالقانون، كلّف ذلك ما كلّف.
المنعرج: حدث 25 جويلية 2021
لم يكن رئيس الجمهوريّة المهديّ المنتظر، كما تروّجون. ولم يكن الرجل صاحب منفعة حرص عليها كلّ الحرص منافسة لكم، ولم يجر شيئا من الأحكام خارج الدستور الذي وضعتموه بأيديكم. وإنّما رأى بعين الحقّ والصدق أنّ ما طالب به التونسيّون عند ثورتهم على الاستبداد جعلتموه وراء أظهركم، ورأى أنّ البلاد في خطر بما ارتكبتم وقرّرتم. ورأى من الناس نقمة عليكم وعلى من توافق معكم لمصلحته، وعزّ عليه بطشكم، وتصرّفكم في أموال التونسيّين التي استسهلتموها، ومنعتموها أصحابها، وقلب بما أجرى من الأحكام ما ظننتموه راسخا. خرج الناس يوم عيد الجمهوريّة ليقولوا لكم: كفى. وقولوا أنتم ما شئتم من أمر الانقلاب على الشرعيّة، والسير نحو الاستبداد، والانفراد بالرأي... أمّا هو، ذاك الرئيس الذي انتخبه ما يزيد على ثلاثة ملايين لا يبلغها حزبكم ولا ذاك الذي استقبلتموه استقبال الرسول بالمدينة.
خرج الناس في وفرتهم من شدّة الضنك والعوز والقهر، رغم تحجير الخروج بسبب الكورونا لأنّهم رأوا في الحدث أمرا مصيريّا، وأرادوا به العودة إلى مسار الثورة، وصرخوا بأعلى أصواتهم أنّ الشرعيّة التي تدافعون عنها قد أسقطها حكمكم بالتجربة العشريّة المضنية.
تدافعون عن شرعية الانتخابات... وقيل لكم في أكثر من تقرير ومناسبة أنّها شرعيّة مزيّفة وباطلة بالمال الفاسد، انظروا في تقرير دائرة المحاسبات وما تضمّن تروا أمر لازما لم يحملكم على مراجعة النفس؛ وتحايلتم على التونسيين المحتاجين بفتات يقتات منه أهل الحاجة والأفواه الجائعة. ومن جاع بطل الاحتكام إلى رأيه. أمّا الرئيس فقرّر ما قرّراستجابة للشعب الناقم، والشعب في الديمقراطيّة هو الأصل. وقد تدرّبتم بصنوف الانتهاز والحيلة على استعمال الكلمات الرنّانة والمفاهيم الجذّابة التي سارت بين المجتمعات العريقة في تاريخ الديمقراطيّة. لكنّ رئيس الجمهوريّة كان ناجما من ضمير الناس، وفهم أنّ القانون هو من حياة الناس ومطالبه العينيّة. رأى فساد الكثير من الوزراء، والمديرين والوجهاء الذين صدّرتم، فلم يرض بذلك، واعتبر الأمانة أخلاقا، والسياسة عهدا، وصدقا، والحكم وزرا ثقيلا، فعمل بذلك كلّه وثقل عليه أن يرى الناس ينالهم الشرّ يوما بعد يوم. والحكم الخالي من الأخلاق وصون الأعراض والمصالح؛ والحكم الخالي من حماية الوطن وسيادته، والحكم الأجوف من كلّ إرادة تمثّل الشعب لا يستحق أيّ شرعيّة وإن كرّستها الدساتير والقوانين. وهل القوانين والدساتير إلاّ لتلك الغاية الوطنيّة والاجتماعيّة أصلا.
فهم الرئيس أنّكم فتّتم الدولة وهيبتها بالظلم والاستبداد وتعيين من والاكم وأصحابكم، وهل الوطن ملك لهذه الشرذمة؟ وهل فعل التونسيّون ما فعلوا من طرد المستبدّ لتكونوا متملّكي رقابهم؟
الدولة في منطق السياسة والتقاليد الديمقراطية هي المؤسّسة التي تصون سيادة الوطن وقيمة المواطنة بين الناس جميعا. وما القانون إلاّ تبع لذلك. ويرى الرئيس بتجميد مجلس النواب أو ربما حلّه أنّ المجلس قد فقد وجاهته، وأصبح حلبة للصراع على المصالح المفسدة للعناية بالشأن العام. وإذا تحدّث الرئيس اليوم عن السرّاق، وانقطاع ماء الشرب، والكهرباء، وغلاء الأسعار، والسطو على الأموال العمومية، والتعيين بغير وجه حقّ، لم تتعلّق همّته «بشعبويّة» كما يظنّ البعض، وإنّما أعاد الأصل الذي يدخل في مهامّ الدولة وإدارة الحكم.
إنّ الرئيس والناس معا قد أبرما عقدا جديدا بما جرى يوم 25 جويلية 2021، عقدا من أجل الدولة والمواطنة، واعتبار الشرعية من صلب إرادة الناس لا من غيرها. وما أشد صلف رئيس مجلس النواب ونائبته السيدة الشواشي حين وقفا فجرا يطلبان من الجيش التونسي والأمن الجمهوري أن يفتحا باب المجلس لأنّهما لم يدركا دلالة اللحظة ولا معناها. أراد الرئيس والناس معا فسخ العشريّة السوداء، لذلك قال قولا صريحا أن لا عودة إلى الماضي، يعني عهد التمكّن من رقاب الناس بشرعيّة دستوريّة وهميّة ومخاتلة بمال وتكتّل سيحقّق القضاء النزيه لا المخترق يروح الفرقة، في شأنهما.
الجيش التونسي جيش جمهوري
لا مطعن على جيشنا التونسي الصميم، ولا مطعن على أمننا الجمهوري، فقد ذاقا الأمرّين من الإرهاب والمهرّبين، والعائدين من بؤر التوتّر الذين تاجر الإسلام السياسي بهم، وأصبحوا من ثمّ من أشدّ الفئات خطرا على مجتمعهم الذي تربّوا فيه. ليس الجيش بالمستولي على السلطة، ولا هو بالراغب في إقامة حكم عسكريّ، وما أبعد أمنيينا عموما عن هذه الغاية. وإنّما الجيش ورجال أمننا بناة السيادة الوطنيّة وحماتها، تماما ككلّ من رأى أمر الشرعيّة وعمل الدولة موصولين بإرادة الشعب ومصالحه الوطنيّة بما يضمن حقوق العدالة والمساواة والحريّة. ليس عمل الرئيس خارجا عن هذا الأفق، ولا الرئيس بالراغب بالعسكر في حكم مطلق. لا تشوّهوا صورة الجيش التونسي ولا سمعة الأمنيين فهم كأطبّائنا ومثقّفينا ورجال التربية وفلاّحينا وكلّ عامل بالساعد والفكر درعنا الواقي من كلّ استئثار بما ظننتم غنيمة ممّا ترك الأجداد وحقّق أبناؤهم من هذا الشعب.
وغدا... أفق جديد... واعتبار آخر
أرى عيد الجمهورية في هذه السنة منعطفا لأنّه قوّض الجاري من الإيهام بالشرعيّة والتخطيط لحكم أبدي ليردّ للشرعيّة السياسيّة معناها وجدواها؛ ولأنّ الآفات قد تعرّت، وتبدّى القضاء الضامن للعدل وظهرت الأحكام الرادعة للفاسدين والمنتهكين، فإنّه لا مناص من غرس الديمقراطيّة في تربتها الصالحة، بمنع المال الفاسد، والرشوة، والتحايل على الناس بكلّ الوسائط والوسائل. عندها يكون ممثّل الشعب جديرا بهذه الصفة؛ وبذات الأمر يكون الأكفأ من الناس هو الجدير بالمناصب والخطط.
لستُ أرى في حلّ مجلس النواب الحالي إلاّ شأنا يقتضيه الاحتماء من الكارثة. ولا معنى عندي لأن يكون مجرم متّهم بشتّى التهم ممثّلا للشعب أو قادرا على الترشّح لأيّ منصب وطنيّ سيادي. لا بدّ من وضع شروط صارمة أمام المترشّحين للمجلس وغيره، وتلك ممّا قد تتضمّنه دعوة الرئيس إلى تنقيح القوانين الجاري بها العمل حاليا. وكذا الأمر في رصد القضاء وهيكلته لأنّ القضاء عماد العمران واستقامة المجتمعات. وأنتظر، فيما يخصّني، أنّ الرئيس مقبل على إعادة تأسيس، ولا يعني هذا أنّه سيقلب الأمر رأسا على عقب، بقدر ما أثق بأستاذ القانون والحقوق في البناء على تقاليد ممتازة أنجزتها الدولة التونسيّة بكفاءاتها العالية على مرّ تاريخها الحديث والمعاصر.
لستُ أقبل ترشّح أيّ كان لتمثيل الشعب، وسنّ القوانين، وهو هزيل التكوين العلمي، أو مواطن مشكوك في نزاهته بما تعلّق به من قضايا رشوة أو فساد أو تهرّب ضريبي، أو امتناع عن أداء واجبه الوطني مثل الخدمة العسكريّة. وأحسب أنّ الإقبال على تنقيح النصوص الانتخابية والتشريعيّة بما يناسب مثل هذه الجوانب ليعتبر في نظريّ أمرا هامّا للغاية. ولو كان لي أن أعتبر فضيلة أخرى يمكن اعتبارها في ملامح المترشّح لاقترحت ما أنجزه المترشّح من عمل مدني على وجه التطوّع. عندها أكون مطمئنّا مبدئيّا، دون الاستغناء عن المراقبة الدائمة لمواجهة مثل آفات الغيابات المتكرّرة دون أيّ سبب. نحن اليوم أمام لحظة فارقة من تاريخ تونس المعاصر.
ألا يليق بنا، والحال تلك، أن يكون خروج الناس وقرارات الرئيس في عيد الجهوريّة سنة 2021 حدثا مرجعيّا يدرج ضمن تاريخنا المعاصر وأعيادنا الوطنيّة؟
وإنّ غدا لناظره قريب.