لقد ضمن دستور 27 ماي 2014 في العديد من فصوله مبادئ الحرية والكرامة.
إلا أنه وبعد عشرية كاملة من انطلاق الحراك الثوري وتواصله يحق لنا أن نتساءل بكل موضوعية:
أين نحن من الكرامة و الحرية ؟
هل تحصلنا على قليل من الكرامة ؟
وهل أصبحنا ننعم فعلا بالحرية ؟
إن الحصاد في هذا المجال كان طيلة العشرية المنقضية هزيلا، لقد مررنا بسنوات عجاف تفاقمت فيها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية بسبب التجاذبات السياسية وظلت خلالها الكرامة مفقودة والحرية موعودة.
• الكرامة المفقودة:
ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هي المأساة التي تعرض لها مواطن تونسي يشتغل مهنة مصور صحفي اتصل بمصالح الموفق الإداري قصد إنصافه وأفاد بأنه ذات يوم من سنة 2016، تحول إلى مدينة بلغراد وبمجرد وصوله والإطلاع على جواز سفره التونسي حوله عون أمن بالمطار إلى مركز بحث حيث تم استفساره عن سبب مجيئه إلى صربيا ووجه له الباحث سيلا من الشتائم باللغة الانقليزية ظنا منه أن المواطن التونسي لا يفهمها.
شتائم مست من كرامته وكرامة وطن بأكمله وشعب بأكمله. إذ استفزه الباحث بالقول أن تونس بلد غير ديمقراطي، وأحدث ثورة أثرت سلبا على العالم وبأن الشعب التونسي غير متحضر متزمت ومتخلف. فلم يستسغ المواطن التونسي ذلك وردّ عليه بأن الشعب التونسي متسامح وله حضارة تمتد على أكثر من ثلاثة ألاف سنة و أنجز ثورة من أجل الحرية و الديمقراطية وبأن صربيا مارست القمع والتطهير العرقي ضدّ الأقليات. عندئذ تعرض المصور الصحفي إلى الاعتداء بالعنف الشديد في كامل بدنه وأودع بمقر الإيقاف مدّة أسبوع ليتعرض إلى التعذيب ويرفض تناول الطعام حسب ذكره مما تسبب له في إعاقة ذهنية وضرر بجهازه التناسلي وفي ختام فترة الإعتقال تم ترحيله قسرا إلى تونس.
يذكر العارض أنه كان اتصل بسفارة تونس بصربيا قصد مساعدته إلا أنها أعلمته بأنها لا تستطيع فعل أي شيء قصد حمايته وعند رجوعه إلى أرض الوطن تقدم بشكاية موثقة بصور فوتوغرافية وقابله السفير الصربي ببلادنا وبعد الإطلاع على ملفه والصور الموثقة للاعتداء قدم له اعتذاراته. إلا أن المصور الصحفي اشترط أن يكون الإعتذار علنا وأن يكون لفائدته ولفائدة الشعب التونسي والبلاد التونسية . بقيت شكايته دون نتيجة إلى حد الان.
هذه عينة مما يكابده عديد المواطنون التونسيون عند سفرهم إلى الخارج من إهانات وتهديدات.
هل بعد هذا يمكن الحديث عن كرامة للتونسي خارج الوطن ؟
لقد كان المواطن التونسي محل ترحاب أينما حلّ أمّا الآن فقد أصبح غير مرغوب فيه إلا إذا كان كفاءة طبية أو علمية يستفيد منها الغرب.
لقد ظلت الكرامة في بلادنا مجرد مطلب نردده في كل المناسبات ونمجده. إلا أننا نلهث وراءه ولا نجده، وحتى شعار الجمهورية التي تضمن وفق الفصل الرابع من الدستور 4 مبادئ (الحرية – الكرامة – العدالة والنظام) لم يقع تفعيله وتجسيد المبادئ الأربعة بل تواصل العمل بالشعار القديم الذي يجسد النظام والعدالة والحرية تعذر تجسيد الكرامة.
لقد ظل شعار الكرامة أجوفا وحتى الفصل 23 من الدستور الذي ألزم الدولة بحماية كرامة الفرد ظل دون تفعيل .
فكيف يشعر بالكرامة من لا عمل له ولا مورد له في وقت قفز فيه عدد المعطين ليتجاوز 17 بالمائة، وفي وقت قفزت فيه الأسعار واشتعلت وأصبح صاحب الدخل البسيط لا يستطيع توفير لقمة العيش له ولعائلته.
كيف يشعر بالكرامة أصحاب الشهائد العليا الذين ظلوا معطلين طيلة سنوات عديدة و يشاهدون من هم دونهم في الكفاءة والدرجة العلمية يحصلون على شغل بالتدخلات وكثير منهم خيّر الهجرة قسرا عبر البحار أو إنهاء حياته بالانتحار.
كيف يشعر بالكرامة أولئك المتشردون الذين لا مكان لهم يأويهم فانتشروا في الشوارع يفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء ليلا نهارا صيفا وشتاء.
كيف يشعر بالكرامة أطفال الشوارع الذين فقدوا السند العائلي وأصبحوا متشردين يعانون من الجوع والحرمان ولقمة سائغة للفساد والإجرام دون تدخل هياكل الدولة قصد إنتشالهم و الإحاطة بهم.
كيف يشعر بالكرامة أولئك الذين يمتطون يوميا وسائل النقل العمومي في رحلة مضنية في حافلات أو قطارات مكتظة في أوقات الذروة تنعدم فيها مقومات الصحة والأمن والسلامة.
كيف يشعر بالكرامة المرضى الذين ليس بإمكانهم التداوي بالمصحات الخاصة فيلجؤون إلى المستشفيات العمومية للحصول على موعد قد يفوق الستة أشهر وبعد طول انتظار ولما يحلّ الموعد يقع تأجيله حتى ولو كانت الأمراض خطيرة ولا يجدون أدوية أو حتى أسرّة عند قبولهم للتداوي أو لإجراء إسعافات أولية أو عمليات جراحية.
كيف يشعر بالكرامة من يتكبد معاناة التنقل إلى إدارة عمومية لإستخراج شهادة أو وثيقة أو للحصول على معلومة ويعامل بجفاء ويعود بعد طول انتظار إلى منزله دون الحصول على مبتغاه ثمّ يعيد الكرّة ويعود بخفي حنين كل مرة.
وكيف يشعر بالكرامة من لا يقدر على توفير الأدوات المدرسية والمستلزمات الحياتية لأبنائه الصغار الذين يشعرون بالغبن والحرمان تجاه أقرانهم بالمدرسة.
كيف يشعر بالكرامة من يعيش على فضلات المطاعم والأسواق و حتى المزابل و القمامة.
كيف يشعر بالكرامة ذوو الإحتياجات الخصوصية وقد أصبحوا فئة مهمشة يفتقدون الإحاطة اللازمة من الدولة والمجتمع.
• الحرية الموعودة:
وعدنا الحراك الثوري بفك القيود وإطلاق الحرية وفعلا صدرت المراسيم المكرسة للحرية في مجال تكوين الأحزاب والجمعيات وفي مجال الصحافة والإعلام السمعي البصري. كما خصص الدستور الجديد الباب الثاني بأكمله للحقوق و الحريات، فالفصل 31 ضمن حرية الرأي والتفكير والتعبير والإعلام وحجّر أي ممارسة أو رقابة مسبقة على تلك الحريات وفعلا تكونت الأحزاب والجمعيات و تضخم عددها دون رقابة ناجعة و تمّ إطلاق حرية التعبير إلى حدّ الانفلات ولكنها أصبحت مهددة إذ كثيرا ما يتعرض الصحافيون والمدونون والإعلاميون أثناء ممارستهم لمهنتهم إلى الاعتداءات والتهديدات والعقوبات التي وصلت إلى حدّ العقوبة السالبة للحرية. كثيرا ما نددت النقابة الوطنية للإعلام والهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري (الهايكا) بتلك الاعتداءات والانتهاكات واعتبرت أن بعض مشاريع القوانين الحكومية وبعض المبادرات التشريعية تشكل تهديدا صارخا للحريات ومحاولة لتطويع الإعلام وجعله تحت رحمة بارونات المال والسياسة. إن حرية التعبير والتفكير والإعلام عوض أن تساهم في خلق مناخ من الحوار البنَاء واحترام الرأي المخالف وفي إيجاد إطار لنشر القيم الفاضلة والمبادئ السامية ولَدت فوضى عارمة في بعض المؤسسات والمنابر الإعلامية فأصبح البرلمان حلبة لتبادل السب والشتم والتراشق بالتهم ووصل الأمر إلى حدّ الإعتداء بالعنف الجسدي.
أما بعض الملفات التلفزية أو الاذاعية فكثيرا ما تصبح ميدانا للتراشق بالتهم وتصفية الحسابات بين السياسيين والسب والشتم بأبشع النعوت. أما وسائل التواصل الاجتماعي فقد صارت مرتعا لنشر الأخبار الزائفة والألفاظ السوقية والأفكار الهدامة والمشاهد المخلة بالحياء وإطارا لبث الكراهية والفتنة والترويج للقيم البالية والممارسات المشينة وأصبح الجيل الجديد من أبنائنا لقمة سائغة لتلك الثقافة الهابطة.
أما حرية التنقل فرغم أن الدستور ضمنها بقيت مقيدة في ظل الإجراءات الاستثنائية المعمول بها بانتظام في إطار الأمر عدد 50 لسنة 1978 الصادر في 26 جانفي 1978 على إثر الإضراب العام. إنه أمر مخالف للدستور إذ يقمع الحريات ويقيّد التحرّكات والتجمعات ويطلق أيدي السلطة التنفيذية في غياب محكمة دستورية. كما أن الإجراءات الحدودية من منع للسفر والتنقل و الإقامة الجبرية مازالت متواصلة بمجرد قرار من وزارة الداخلية ودون الحاجة إلى إذن قضائي، وقد تجاوز عدد الإجراءات الحدودية ثلاثة ألاف حسب بعض المصادر الرسمية كما أن حرية التظاهر والتجمع مازالت محكومة بقانون 1969 وهو قانون غير دستوري ولا يمكن الدفع بعدم دستوريته في غياب المحكمة الدستورية .
إن تلك الحقوق المدنية على أهميتها تعتبر شكلية ولا يمكن أن يمارسها إلا من تتوفر له الإمكانيات والقدرات. أما الحقوق الاجتماعية كالحق في التعليم وفي العمل وفي الصحة فقد تضمنها الدستور الجديد وبقيت حبرا على ورق. أما العدالة الاجتماعية و التنمية المستدامة و التوازن بين الجهات و الإحاطة بالشباب و ذوي الاحتياجات الخصوصية فقد ظلت شعارات دون أفق.
لا يمكن لمن لا يتمتع بتلك الحقوق أن يتمتع بالحريات خاصة في وقت عجزت فيه الدولة عن تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات واختارت بعض القوى السياسية عوضا عن الحوار استعراض قوتها عبر الشارع من خلال التجييش وتجميع الحشود وهو ما يهدد السلم الاجتماعية ويقوّض أسس الديمقراطية .
خلاصة القول نؤكدها بإقتضاب، الكرامة ظلت مثل السراب والحرية بدأت توصد أمامها الأبواب و قد يأتي يوم لا ينفع فيه النقد أو حتى مجرد العتاب.
الكرامـة المفقودة والحريــة الموعودة
- بقلم المغرب
- 12:50 26/02/2021
- 1009 عدد المشاهدات
بقلم عبد الستار بنموسى
اندلعت شرارة الثورة في بلادنا منذ 17 ديسمبر 2010 وحتى قبل ذلك ضدّ القمع والاستبداد و التهميش والفساد من أجل الحرية والكرامة.