الذي أصدره صندوق النقد الدولي والذي فتح باب المفاوضات بين بلادنا والمؤسسة الدولية من أجل اتفاق جديد.
وقد أفضت المفاوضات في بداية السنة المنصرمة بين هذه المؤسسة وبلادنا إلى إيقاف القرض الممدد وتحويل بقية التمويل لدعم بلادنا في محاربة جائحة الكورونا .
وقد أثار هذا الاتفاق الكثير من الجدل والنقاشات حول عديد المسائل والقضايا.ولعل أولى المسائل المطروحة في النقاش العام تهم ضرورة هذا الاتفاق من عدمه.ولئن تعالت بعض الأصوات الرافضة لهذا الاتفاق ،فإن العلاقة مع صندوق النقد ومع المؤسسات الدولية بشكل عام تبقى أساسية وضرورية في رأيي خاصة في ظروف الأزمات والصعوبات التي يعرفها الاقتصاد الوطني في إيجاد التمويلات الكافية والضرورية من أجل دعم النمو ودفعه .
وسنحاول في هذا المقال العودة على بعض القضايا التي طرحها البيان الصادر عن صندوق النقد بعد الزيارة الافتراضية التي أداها الى بلادنا في الأيام الأخيرة .ولعل أولى الملاحظات تهم التوقعات الاقتصادية لبلادنا للسنة الجديدة والتي تشير إلى التدهور الكبير في الوضع الاقتصادي مقارنة بالتوقعات التي قدمتها الحكومة في قانون المالية لسنة 2021 منذ أسابيع .فنسبة النمو المتوقعة التي اعتمدتها الحكومة والتي كانت بمستوى %4.2 تمت مراجعتها من طرف صندوق النقد الدولي إلى مستوى %3.2- كما أن نسبة العجز التي وضعتها الحكومة في مستوى %6 راجعها صندوق النقد إلى مستوى %9.
هذه المراجعات تشير إلى التراجع الكبير في الوضع الاقتصادي نتيجة تواصل الجائحة الصحية وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية .وسيكون لهذه التداعيات ،والتي كان من الصعب التنبؤ بها منذ أشهر - نظرا لإيماننا العميق بأننا بصدد تجاوز الجائحة الصحية ومخلفاتها - انعكاسات كبيرة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في السنوات القادمة.وهذه التطورات والتداعيات تتطلب إجابات جديدة من أجل حماية الوضع الاقتصادي من الانهيار.
أما المسألة الأساسية الني نريد الخوض فيها في هذه العلاقة المعقدة والصعبة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية فتهم منهجية التفاوض والنقاش للاتفاق على برامج الدعم.فالعديد من المتابعين للشأن العام يوجهون الكثير من النقد الى الاتفاقات التي قامت بها مختلف الحكومات مع المؤسسات الدولية واعتبروا أن النتائج مخيبة للانتظارات .
وفي رأيي فإن هذه النتائج البعيدة عن الانتظارات نتيجة منطقية للمنهجية التي تم إتباعها.والسؤال الأساسي الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا يهمّ شروط نجاح المفاوضات والاتفاقات مع المؤسسات الدولية ويمكن أن نشير إلى ثلاثة شروط أساسية في المفاوضات مع هذه المؤسسات والكفيلة في رأيي بتحقيق النتائج المرجوة.
يكمن الشرط الأول في وجود رؤيا وتصور واضح المعالم لمستقبل الاقتصاد.وتشكل هذه الرؤيا والبرنامج منارة للتفاوض والنقاش مع المؤسسات الدولية.ويمكن في هذا الإطار التعاطي مع المقترحات التي تقدمها المؤسسات الدولية من زاوية انخراطها في تصوراتنا واختياراتنا الكبرى.فالحكم على هذه الاقتراحات يأتي من مدى دعمها لأولوياتنا الاقتصادية.
وغياب هذه الرؤيا والتصور الواضح للتحديات الاقتصادية يجعل مواقفنا في هذه المفاوضات في مهب الريح ولا يمكننا الوقوف بجدية أمام المقترحات التي تقدمها لنا هذه المؤسسات ولا يمكن أن نجد أسبابا مقنعة لرفضها أو لقبولها .
وفي نفس الإطار تحبذ هذه المؤسسات الدولية التعاطي مع البلدان التي تحمل رؤى وتصورات واضحة حتى وإن اختلفت معها .
أما الشرط الثاني لنجاح المفاوضات مع المؤسسات الدولية فيهم الجانب التقني.فهذه المفاوضات لا تقف على التصورات التنموية الكبرى بل تتجاوزها إلى المسائل التقنية التي تتطلب إعدادا معمقا وجديا من قبل الخبراء.ويأخذ الجانب التقني لهذه المفاوضات حيزا كبيرا من الوقت ومن الجهد ويتطلب تكوين فريق على الخبراء من أعلى مستوى له من الدراية التقنية في المسائل الاقتصادية ما يجعله قادرا على مجابهة ومقارعة خبراء المؤسسات الدولية والذين يمكن اعتبارهم من أحسن الخبراء على المستوى العالمي .كما ان نجاح الفريق التقني المفاوض في إعداد الحجج التقنية وقدرته على إقناع الفريق المقابل تكون له تأثيرات كبيرة على نجاح المفاوضات .
أما الشرط الثالث لنجاح المفاوضات فيعود الى الدعم السياسي الذي تتمتع به الحكومة المفاوضة.فوجود حزام سياسي واجتماعي قوي من طرف الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية من شأنه أن يدعم الحكومة والمواقف التي تدافع عنها خاصة في الظروف الاستثنائية والأزمات الكبرى .
تشكل هذه الشروط الثلاثة نقاطا أساسية للخروج بنتائج ايجابية في المفوضات التي تقوم بها الحكومة مع كل المؤسسات الدولية .وفي رأيي وبعد صدور بيان صندوق النقد الدولي وقبل المرور إلى الجانب العلمي لهذه المفاوضات لابد للحكومة من «تبديل السيتسام» في التعاطي مع هذه المسائل.وهذا التغيير الجذري في منهجية المفاوضات يجب أن يعمل على تحقيق الشروط الأساسية لنجاحها على المستويات الثلاث .
ففي المستوى الأول لابدّ للحكومة من إعداد تصور واضح للتحديات الكبرى التي تواجهها بلادنا واعداد برنامج مرحلي على الأقل لثلاث سنوات للخروج من الأزمات المتعددة التي نعيشها.وفي رأيي هذا البرنامج يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قدرة الحكومة ومؤسسات الدولة على الانجاز.فواقعية البرنامج وتقييمه لإمكانيات الدولة وقدراتها عنصر أساسي لنجاحه .
وعند الانتهاء من إعداد التصورات الكبرى والاختيارات الرئيسية لهذا البرنامج لابدّ من المرور إلى المستوى الثاني أي الجانب التقني .ويكون دور الخبراء في هذا المجال أساسيا ومحوريا حيث سيساهمون في بناء مصداقية هذا البرنامج من خلال ترقيمه وضبط كل التوقعات الدقيقة لنتائجه.
ويتطلب الإعداد الجيد لهذه المفاوضات المرور إلى المرحلة السياسية حيث تقدم الحكومات رؤاها وتصوراتها العامة إلى مختلف القوى السياسية لأخذ ملاحظاتها وانتقاداتها ومحاولة الإجابة عليها .وهذا النقاش لا يجب أن يكون شكليا أو صوريا بل يجب على الحكومات أن تعيد النظر في النقاط الخلافية وأن تحاول تغييرها أو على الأقل التعاطي معها بصفة جدية.
وفي رأيي اذا غاب الإعداد الجدي لهذه المفاوضات على هذه المستويات تبقى النتائج محدودة لأنها لن تأخذ بعين الاعتبار التحديات الكبرى لاقتصادنا .
إن المفاوضات مع المؤسسات الدولية في واقع الأزمات تعتبر مسألة هامة وأساسية للبلدان النامية.ونجاح هذه المفاوضات يتطلب «تبديل السيتسام» وإتباع منهجية جديدة تمكننا من تحقيق أهدافنا التنموية.