الأجوبة على العكس من ذلك لا تدرّب إلا على الكسل، ثم يصبح هذا الكسل مطلبا اجتماعيا عاما. الأسئلة مقلقة ومربكة ولكنها تقدّم بنا إلى الأمام. ولهذا هناك مجتمعات الأسئلة وهناك أيضا مجتمعات الأجوبة. لا يعني هذا أننا لا نحتاج إلى الأجوبة، على العكس لا نحتاجها لنستكين إليها بقدر عال من الطمأنينة، بل نحتاجها للدفع بالأسئلة من جديد، لمزيد من القلق. فالمجتمعات التي تتقدم وتنتج وتساهم بشكل قوي في بناء الحضارة الإنسانية.. هي مجتمعات أسئلة على وجه الخصوص.
ما الأسئلة التي دفعت بها عشر سنوات من الثورة؟ هل أفرزت عشر سنوات من الثورة الأسئلة المرتقبة؟ ما طبيعة هذه الأسئلة؟ وهل تمّ التعامل معها على أنها أسئلة حقيقية؟
الوصف الأول الذي يمكن أن نصف بها الثورة في تونس هي أنها ثورة من أجل الأجوبة. لم يكن السؤال بمعانيه العديدة والمتشعبة حاضرا بقوة. كانت شعارات الثورة في أغلبها شعارات في شكل أجوبة. أجوبة حول التشغيل وأجوبة حول الخبز وحول الكرامة، أي أن مضامين الثورة جاءت في شكل أجوبة ووقع التعامل معها على أنها آلة لصنع الأجوبة. ولهذا تحولت مسارات الثورة إلى إمكانيات سياسية لتحقيق إجابات تتفاوت درجات نجاحها ودرجات فشلها.
الوصف الثاني الذي يمكن أن نصف به الثورة في تونس هو أنها لم تكن ثورة أسئلة، أو أن الأسئلة فيها لم تكن حاضرة بالقدر الكافي، أو أننا لم نتعامل مع الأسئلة كطريقة لفهم ما بداخلنا أو لفضح تناقضاتنا أو القول بأننا نحتاج إلى إعادة قراءة ما حصُل منذ الاستقلال إلى حدّ الآن. لم ندرك أن مراجعة ما عبر طرح الأسئلة لخياراتنا في كل الاتجاهات يجعلنا قادرين أكثر على المضيّ إلى الأمام.
ما الأسئلة الممكنة إذن؟
هناك سؤال حول التجربة الديموقراطية. هل أدركنا معنى أن نكون ديموقراطيين في تونس الآن؟ إلى أي مدى نجحنا في أن تكون الديموقراطية ثقافة ولا فقط صناديق اقتراع؟ هل بإمكاننا التساؤل بجدية حول ما يحصل داخل الأحزاب السياسية وداخل النقابات؟ هل تسربت الديموقراطية سلوكا ووعيا وقناعة إلى جامعاتنا وهياكلنا العلمية؟ هل هي موجودة ولو بدرجات داخل تجارب المجتمع المدني؟ هل أن ثقافة الاختلاف حاضرة بيننا وهل نسعى -وهذا هو المهمّ- إلى حمايتها؟
هناك أسئلة حول الحريات الفردية أيضا. والحريات الفردية هي إحدى مقومات التجربة الديموقراطية. هل يُحترم الفرد بما هو مشروع حياة؟ وهل يُحترم الفرد في اختياراته المختلفة والعديدة؟ هل بدأنا في بناء نسق ثقافي يجعل الفرد متحررا ومسؤولا عن خياراته؟ ثقافة الجماعة التي هي أقرب إلى ثقافة القطيع وبالتالي أقرب إلى الأجوبة منها إلى الأسئلة لازالت تقف حاجزا أمام انطلاق الفرد وتخلصه من القيود.
هناك أسئلة حول الاقتصاد، وهي أسئلة تطرح الجيل الجديد من الفاعلين الاقتصاديين. هل يوجد هذا الجيل؟ وهل بدأ في التشكل؟ ووفق أي ثقافة اقتصادية وخيارات يتشكل؟ وكيف ينشأ هذا الجيل في سياق الانتقال الديموقراطي؟ ماهي أولوياته وماهي علاقته بالدولة؟ ولكن في نشأة جيل جديد من الفاعلين الاقتصاديين هناك أسئلة حول الخيارات الاقتصادية الجديدة وحول ما يمكن أن تقوم به الدولة كي تكون عادلة في اتاحة الفرص لهم وفي تبديد الحواجز البيروقراطية وغيرها أمامهم.
هناك أسئلة تخص علاقة المركزي بالجهوي وبالمحلي. كيف يجب أن تكون عليه هذه العلاقة في ظل التحديات الجديدة وفي ظل سياق الانتقال الديموقراطي؟ وهنا يُطرحُ سؤال حول هيبة الدولة الذي مازلنا نشتغل بمضمونه القديم. كيف ستتصرف الدولة في بعدها المركزي مع الجهات ومع المحليات؟ كيف نصنع علاقة جديدة فيها الكثير من الاستقلالية فيها الكثير من التفاعل؟ بمعنى كيف يمكن لنا تحرير الطاقات الكامنة في الجهات والمحليات دون وصاية خانقة للمركزي ودون ثقافة فقدان الدولة لهيبتها؟
الأسئلة المنتجة للتحديات لازالت قائمة، هناك الأسئلة التي نتهرب منها لأنها مربكة ومحرجة ونخاف من تأثيرها على السلم الاجتماعي وهناك الأسئلة التي لا نستطيع إحكام طرحها أو أننا نعتقد في عدم جدواها. ولهذا نحتاج إلى مختبرات علمية وإلى تفكير جدي في ما وفرته سياقات الانتقال الديموقراطي من أسئلة، لا لنعطي الأجوبة فقط ولكن لمزيد صنع ديناميكية نحتاجها في مسارات التغيير.
بعد عشرية من الثورة هناك طلب اجتماعي كبير على الأجوبة في اتجاهاتها المختلفة تقوده فئات اجتماعية متعددة والسياسي يرتب لها الأجوبة قدر الإمكان، وهو ما يدفعنا إلى الاستنتاج الذي يعتبر أن الأزمة التي نعيشها على جميع الصعد في جزء كبير منها مرتبطة بثقافة الأجوبة التي تشكل نظرتنا للوجود. وقد تجد الازمة في معانيها المختلفة طريقا إلى الانفراج عندما نغير زاوية النظر نحو بناء أكثر وضوحا وعمقا لثقافة الأسئلة.
تساؤلات حول عشر سنوات مضت
- بقلم محمد جويلي
- 10:11 05/01/2021
- 755 عدد المشاهدات
الأسئلة أهم بكثير من الأجوبة. السؤال يدفع إلى التفكير، إلى الجدل وإلى معرفة الذات بكل تناقضاتها.