كواليس النات: الكوابل البحرية: خصائصها ؟ ومن يسيطر عليها ؟

- الجزء الثانى -

2- الكوابل البحرية : عنصر تفوق متعدد الأبعاد شديد التعقيد

في تواصل مع الجزء الأول من المقال نحاول الإجابة عن السؤال / الاحجية : من يتحكّم حقيقة في هذه الكوابل ؟ جهة وحيدة كما يتبادر للأذهان أم انها تٌدار بشكل تنافسي حاد قد يبلغ مستوى العداء أحيانا بين مختلف الفاعلين من دول ومؤسسات اتصالية عملاقة ؟
فالانغمار في العالم السفلي السحيق «للكوابل البحرية» يستوجب التوقف عند العديد من المستويات / الاستشكالية :

- على المستوى الجغرافي
ان اعتبار «الكوابل البحرية» قاعدة اتصالية تحتية لا يمكن الاستغناء عنها ( دونها يستحيل تشغيل شبكة الإنترنت او مجرد الحديث عن مواقع للتواصل الاجتماعى او حوسبة حسابية او مراكز خزن للبيانات الخ ) هو اعتراف بان الجغرافيا الطبيعية La géographie physique لازالت تضطلع بدور حاسم في تشكّل «الفضاء الافتراضي» Cyberespaceواعادة تشكيله من جديد، وأن مصطلح «الجغرافيا الرقمية» يحتاج إلى مزيد من التدقيق والكثير من التنسيب . فإن كانت جغرافية المجال الافتراضى تتسم بخصائص ذاتية مختلفة عن نظيرتها المادية الملموسة من حيث كونها جغرافيا مفتوحة لا تعترف بالحدود نظريا فإن «الكوابل البحرية» تٌقوّض هذه النظرية من خلال امكانية رسم الحدود بين مختلف الفضاءات الافتراضية الخاصة بهذه الدولة أو تلك لتُصيّر مفهوم «الفضاء الافتراضي» المنفصل تماما عن الفضاء الجغرافي المادي الملموس يٌعدّ ضربا من ضروب الخداع البصرى.. فالصين وروسيا تمارسان سيادتيهما الرقمية المكثفة على شبكة الإنترنت من خلال التحكم في مسارات تدفقها عبر الكوابل البحرية المتاخمة لحدودها او مراقبة تلك التي من شأنها ان تٌشكّل تهديدا لامنهما القومي.

- على المستوى التقني
في الوقت الراهن، تستأثر الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا سوية بثلثي سوق صناعة ووضع الكوابل البحرية بواسطة مؤسسات اتصالية كبرى على غرار شركة «اورانج البحرية» ومؤسسة «الكتال البحرية» (التي تحولت إلى فرع من فروع شركة «نوكيا» العملاقة)، تليهما مباشرة الصين عبر مشغلها «هواوي البحرية» (أحد فروع شركة هواوى العملاقة) ثم تأتي اليابان في المرتبة الرابعة في مجال صنع ووضع الكوابل البحرية .

- على المستوى الجيوسياسي
ان ما أصطلح على تسميته في الجيوبوليتيك «بالمجال الحيوي» Espace vital ينسحب أيضا على الكوابل البحرية .. فالسيطرة على هذه الكوابل تمثل أحد أهم عناصر التفوق الجيوسياسى والجيواستراتيجى لهذه الدولة او تلك في عالم تسوده نوازع الهيمنة والتمدد والصراعات الجيوسياسة .. فالولايات المتحدة الأمريكية تطبق سيطرتها على العالم من خلال مراقبة حركة المعلومات والبيانات المتدفقة بواسطة الكوابل البحرية وذلك باستخدام تقنيات تجسس متطورة في مستوى أعماق البحار او على امتداد سواحلها .. في سنة 2013 كشف العميل السابق لوكالة الأمن القومي الامريكى «إدوارد سنودن» ان الولايات المتحدة تقوم برصد واسع وممنهج للمكالمات والمعلومات المرسلة عبر الكوابل البحرية .. الصين تشتغل بدورها على مزيد مد الكوابل البحرية ذات الاستخدامات العسكرية وذلك تحسبا لأى حرب ممكنة في شبه الجزيرة الكورية والمناطق البحرية المتاخمة لغريمها التاريخى «تايوان».. الروس يطلقون العديد من الأجسام البحرية المتطورة للقيام بعمليات مراقبة للكوابل البحرية التي قد تشكل تهديدا لأمنها القومي ، فالخصائص الجغرافية شبه القارية لروسيا عرقلت تحولها السريع الى لاعـب مـؤثرا في «جيوبوليتـيك الكوابـــــــل البحـــرية» la géopolitique des sous-marins مما حدى بها إلى اتباع إستراتيجية بحرية بديلة تتمثل في التموقع في المجالات البحرية الداخلية والخارجية المتاحة لممارسة شعائر القرصنة التحت مائية Submarine لكل كابل بحرى يهدد سلامة أمنها القومي ، يكفي أن نذكر بان الحرب على «جورجيا» سنة 2008 سبقها قطع للاتصالات المتدفقة عبر الكوابل البحرية ، وأن انتشار القوات الروسية في شبه «جزيرة القرم» سنة 2014 لم يكن ممكنا إلا بعد أن تم عزلها اتصاليا عن أوكرانيا ...

ومن الفاعلين الجدد في مجال «جيوبوليتيك الكوابل البحرية» نسجل دخول المؤسسات الرقمية العملاقة الأمريكية على خط المنافسة للاستئثار بحصّتها من شبكة الكوابل البحرية .. في البداية كانت مجموعة GAFA تقوم باستئجار الكوابل البحرية من لدن الدول المسيطرة عليها مقابل دفع مبالغ طائلة، إلا أنه في السنوات الاخيرة اتخذ عمالقة الواب إستراتيجية جديدة تتمثل في تصميم ووضع كوابل بحرية خاصة بهم تربط الولايات المتحدة بالقارة العجوز وباقى القارات ..إستراتيجية قائمة على تقاسم التكاليف فيما بينهم وذلك بهدف تحقيق مزيد من الضغط على التكاليف Economie d’échelle، ومن المتوقع ان تٌغيّر مجموعة GAFA التوازنات في» جيوبوليتيك الكوابل البحرية» في اتجاه تعميق تفوق الولايات المتحدة في هذا المجال.

- على مستوى القانون الدولي
ان جغرافيا الكوابل البحرية من التعقيد بمكان يجعل من الصعب على أية قوة من بسط سيطرتها المطلقة على شبكة الكوابل البحرية ، فالكابل يمتد بين دولة المنشا Etat de provenance ودول الانزال Etats d’atterrissageمرورا بمجالات بحرية وقارية تابعة لدول أخرى .. فإذا كانت اتفاقية Montego bay (1982) حول «قانون البحار» تٌجيز حرية استخدام أعالى البحارla haute mer فإن المجالات البحرية التابعة لسيادة الدول (الجرف القارى والمياه الاقليمية) تخضع إلى التشريع الوطنى لدول العبور مما يحول دون تفرّد دولة دون غيرها بالكوابل البحرية.

في مطلق الأحوال، من الأكيد ان هناك حربا غير مرئية تنشب يوميا بالقرب من شواطئنا .. جيوشها الجرارة أجسام بحرية روبوتية مسيرة عبر خوارزميات متطورة .. أبطالها دول ومؤسسات اتصالية عملاقة .. هدفها المزدوج تحقيق أرباح خيالية والإضرار بالقدرات الاقتصادية والبنية الاتصالية للدولة او الدول المعادية .
وبعد مضي أكثر من قرن من مقولة «ماكندر» الشهيرة : «من يسيطر على قلب العالم (أوراسيا حاليا) يٌسيطر على العالم بأسره» يمكننا الجزم اليوم بأن «من يبسط نفوذه على الكوابل البحرية سيصبح سيد العالم دون منازع» !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115