الشنيعة بما تحمله من خطورة ومن انعكاسات على بلادنا على جميع المستويات وعلى الأجيال القادمة خاصة.
إنّ تجديد الخطاب الديني كان حاضرا في تاريخ الإسلام. كلّ زمن حسب مقتضياته وأدواته وطبقا لظروفه وأحواله ...ولا بدّ أن يكون اليوم حاضرا بالفعل. ولن يكون حاضرا إلاّ بالمزج بين أربعة عناصر في التراث الإسلامي ...الأول المصادر والمرجعيات والاستراتيجيات والثاني إدراك المصادر في ظلّ الواقع والثالث ربط المصادر بالواقع. والرابع والأخير عدالة المجدّدين وتخصّصهم.
ولا أحد ينكر حجم الإجرام والتخريب الذي لحق بلادنا من الإرهاب ومن الفكر التكفيري والتدميري ومن الفكر الوهابي والذي قام به أفراد ومجموعات اتّخذوا من الدين ستارا وشعارا ٫وقد فاقت هذه السلوكيات كلّ التصوّرات وتجاوزت كلّ معاني الإنسانية ويمكن وصفها بالخيانة العظمى للدين وللوطن ولا زلنا نعاني تبعاتها وسنظلّ لسنوات قادمة.
ولا أحد ينكر أنّ مواجهة هذا التخريب وإصلاح بنيان العقول لن يكون إلاّ فكريا بإصلاح الخطاب الديني بعيدا عن كلّ خوف من التجديد الذي يحتاج إلى شجاعة وجرأة وحكمة وحسن تقدير للأمور في آن واحد.
والسؤال الحاسم كيف نصلح الخطاب الديني ونجدّده في مرحلة الميزان فيها دقيق والوضع في غاية الخطورة والدقة؟
الآليات عديدة والوسائل متعدّدة منها الإعلام الديني ومنها التعليم ومنها أيضا الجوامع والمساجد.
والمعلوم اليوم أنّ المسجد أضحى مجرّد وسيلة أو مكان لإقامة الشعائر الدينية -في غياب تزكيّة النفوس والروح المؤثّرة -فحسب في ظلّ العصر الرقمي الذي تبدّلت فيه معالم الحياة وبات تأثير التكنولوجيا واضحا ٫٫كما أضحى بعد الثورة في ظلّ الإنفلاتات نقطة استقطاب مباشر للشباب ومنه غالبا ما تبدأ عملية الدمغجة لتتحوّل إلى الفضاء الشبكي ثمّ المرور إلى الفضاء الجغرافي المعد للإرهاب والقتل مثل سوريا والعراق وليبيا.
هل تبقى مساجدنا على هذه الشاكلة؟
هل نقدر أن نطوّر وظيفتها؟
نعم نحن قادرون على ذلك بتطبيق القانون المنظّم للمساجد بعد مراجعة بنوده دون ظلم أو حيف وترسيخ عقلية أنّ المسجد مؤسسة عمومية لها ضوابطها الدينية والإدارية وبالمراقبة الواعية وبإحداث التغييرات الناجعة.
ويمكن فعل كلّ شيء. نعم إذا تمّ التعاطي مع الأمر بالجدّية اللازمة والصدق وإخلاص النية والجرأة. والجرأة تدفع نحو أمرين:
الأول: التعاطي مع مسألة الأئمّة الخطباء في النقاط التالية:
• التأكيد على كلّ أساتذة جامعة الزيتونة ودكاترتها بدافع الوطنية في المرحلة الراهنة باعتلاء المنابر والخطابة لأنّهم من المختصّين قبل غيرهم ليتجنّدوا حقّا لتجديد الخطاب الديني.
*التأكيد على وعّاظ وزارة الشؤون الدينية وتحفيزهم بدافع الوطنية والواجب المهني باعتلاء منابر الجوامع المركزية في معتمدياتهم ومناطق عملهم والإسهام في تجديد الخطاب الديني.
*تقوية نسق تخريج أئمة الخطابة من المؤسسات التعليمية التكوينية المتوفّرة حاليا – جامعة الزيتونة / المعهد الأعلى للشريعة / معهد الخطابة والإرشاد بالقيروان – ولم لا إنشاء معهد وطني لتخريج الأئمة وتنظيم القوانين المتعلّقة بإدماجهم في الوظيفة العمومية بشكل قانوني جلي.
• تحسين الوضعية المادية للأئمة المكلفين حاليا والرفع من شأنهم إيمانا بدورهم وغربلة القائمة المتوفّرة حاليا في وزارة الشؤون الدينية وفق الضوابط المتفق عليها والمستوى العلمي ونوعية الخطاب والأهلية الأخلاقية والابتعاد عن ضيق التحزّب والتعصّب وإخضاع نصف المؤهلين بصفة دائمة للتكوين والرسكلة ومتابعتهم وتنحية غير المؤهلين وتغييرهم لبعث روح جديدة ونفس متجدّد وتغيير الأئمة الذين عرفوا على مرّ السنوات المنقضية بخطابهم التكفيري واشتراكهم في تسفير شبابنا لسوريا ومواطن الحرب وتهجمهم على المنظمات الوطنية ومؤسّسات الدولة إن كان البعض منهم لا يزال يعتلي المنابر .
وقد يحقّ لنا أن نحلم بأن تكون للأئمة الخطباء -على غرار ما هو متوفّر في أوروبا – مكاتب قارة بالجوامع الرئيسية يستقبلون الناس ويتحاورون معهم ويقدّمون مطبوعات الوزارة وينظمون الندوات ويعلّمون الأجيال تعاليم الإسلام والعناية بالجالية التونسية حين عودتها في العطل إلى غير ذلك من المهام حتى لا يقتصر دورهم على مناسبة أسبوعية لا تتعدّى الساعة
الواحدة يغادر الجامع إثر انقضاء خطبته وبذلك تتحوّل الإمامة إلى موطن شغل قار ويحصل صاحبها على أجرة تتماشى وتراتيب الوظيفة العمومية بما أنّه من أصحاب الشهائد العليا وقد يخضع هؤلاء الأئمة إلى التنقّل في الجوامع في حركة منظمة حتى تكون الفائدة عامة على غرار نقل أهل التعليم ..
وكلّنا يعلم أنّ الخطابة فنّ يحتاج إلى مواهب خاصة وخصائص هامة ليس أولها الصوت القوي المؤثر، والقدرة على الإقناع واستمالة الحضور، والتعبير بالحواسّ مع الكلمات، ومخاطبة العقل والقلب في آن معاً، ومناسبة لهجة الإلقاء للمعاني، وليس آخرها وحدة الموضوع، وموضوعية الطرح، وترابط الأفكار، واستخدام الجمل القصيرة المعبرة، والألفاظ المألوفة وإلى ثقافة واسعةٍ في أمور الدين والمجتمع، وفهم دقيق لشرائح الناس الذين يترّددون على المسجد وطبقاتهم الفكرية، وأحوالهم الاجتماعية، وظروفهم المعيشية، فلا حياة لخطاب ديني لا يعيش مشاكل الجماهير وقضاياها، ولا أثر لخطبة لا تلمس أعماق الناس الوجدانية والفكرية والاجتماعية، فليحذر خطباؤنا من تحويل منابرنا إلى أبراج عاجية تحجبهم عن حياة التونسيين وتطلعاتهم وتبعدهم عن أوجاعهم الحقيقية وواقعهم المعاش.
والثاني التعاطي مع الخطبة نفسها بتوحيد الخطب في كامل البلاد التونسية – وهو مقترح جدير بالدرس والنقاش – فتجديد الدعوة إلى النظر في فكرة توحيد مواضيع الخطب الجمعية بعيدا عن أن يفهم الأمر وكأنّه عود لزمن الإملاءات بالاستئناس بالتجارب المقارنة لدول أخرى ونعني بتوحيد الخطب الجمعية عبر نشر المواضيع ومنهجياتها وأدلتها في وسائل الإعلام - على غرار توحيد الدروس في البرامج التعليمية -فما المانع من وضع خطوط عامة لخطب الجمعة دون التأثير على الخصوصيات الذاتية للخطباء والمساس من مواهبهم الشخصية مع الحرص على الانضباط ضمن منهج متوازن شامل يغطي المعاني والأفكار والقضايا كلّها التي يجب علينا كتونسيين أن نهتم بها؟ مع التركيز على استغلال المناسبات الراتبة والطارئة وتوظيفها، وتناول موضوعات أحداث الساعة التي تمسّ واقع التونسيين اليوم ووجودهم ومستقبلهم وفي توحيد خطب الجمعة بشكل مدروس وتوجّه هادف نضمن ثلاثة مغانم:
• إيقاف نزيف الخطب التي تتعارض و التوجه العام لتونس في المسألة الدينية.
• جمع التونسيين على موضوع واحد ومعلومة واحدة وتثقيفهم دينيا تثقيفا مجديا ومجمّعا.
• مساعدة الأئمة الخطباء على مزيد التكوين منهجيا و معرفيا.
ثم لا بدّ من تجديد الخطاب الديني في مجالات أخرى لإثراء المشهد وتوفير الضمانات الكفيلة بالتصدي للإرهاب وكلّ صور الغلو عبر إصلاح البرامج التعليمية وإعطاء مساحة أوسع داخل المؤسسات التربوية بكلّ مستوياتها وكذلك الشأن بالنسبة للإعلام الديني الذي يحتاج إلى مراجعات عدة ومساحات أكبر ووتيرة أسرع وأوسع فمنابره مؤثّرة وقادرة اليوم على التأثير حين تقدّم صناعة برامج دينية ذات بال.مع الانطلاق الفعلي في تحيين وإصلاح المؤسسات الدينية في بلادنا من جامعة الزيتونة ومؤسساتها ومناهجها ووزارة الشؤون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى ودار الإفتاء التونسية ضمن وحدة متكاملة حتّى لا حالها اليوم مدعاة لاستجلاب خطر نستفيق ذات يوم على وقعه الجارف .