وما من شك أنّ من ضمن جملة الإصلاحات والإجراءات التي أقدمت عليها الدّولة الفتيّة فجرالاستقلال كتوحيد القضاء وإلغاء الأوقاف و إغلاق جامعة الزيتونة إلخ، مثل إصدار مجلة الأحوال الشخصية أهم وأخطر إصلاح لما يحمل في طياته من قطيعة مع نمط العائلة الأبوية وبصفة عامة مع المجتمع الأبوي السائد في بلادنا وفي الرقعة الحضارية التي ننتمي إليها منذ قرون . إذ بتحديد سن أدنى للزواج وبإلغاء تعدد الزوجات وبجعل الطلاق من أنظار القضاء وليس رهين مجرد إرادة الزوج، فإنّ المجلة حدّت بوضوح من دونية وضعية المرأة في العائلة وفي المجتمع ومن الهيمنة الذكورية الممارسة عليها من طرف الأب أو الأخ أو الزوج منذ أجيال.
• قيمة المجلة وأهميتها في المجتمع
وهذا بدون شك تحوّل عميق يتجاوز قضية اكتساب المرأة التونسية حقوقا جديدة ما كانت تنعم بها من قبل، فهو يكرس منطقا جديدا للعلاقات بين الرجل والمرأة ضمن الإطار العائلي، وهو الهدف الأولي للمجلة، ولكن بصفة أوسع وأشمل يرسي هذا المنطق الجديد علاقات مبنية على قيمة المساواة كذلك خارج الإطار الأسري، أي في المجتمع بصفة عامة. ومن هذه الزاوية فإنّه لايمكن اختزال المجلة في قضية حقوق المرأة فحسب لأنّها كانت بمثابة حجر الأساس لتشييد مجتمع جديد نحن اليوم أبناؤه وبناته، من انتصر منا لهذا الإصلاح ومن عارضه، من اعتز به ومن قبل به عن مضض. إن هذا الربط بين وضعية المرأة من جهة ومدى تقدّم المجتمع من جهة أخرى هو الذي يجعلنا ندرك قيمة المجلة وأهميتها. فكما ذكر بذلك انقلز ENGELS: « إنّ تحرّر المرأة هو مقياس التحرّر الاجتماعي بصفة عامة»
وهذا ما تفطّن إليه الطاهر الحداد بحسّه المرهف وبأسلوبه الخاص عندما كتب في افتتاحية امرأتنا في الشريعة والمجتمع : « فإذا كنّا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط فإنّما ذلك صورة من احتقارنا لأنفسنا.»
ومن هذه الزاوية فإنّ إصدار المجلة وإن قدّم على أنّه إصلاح فإنّه مثّل ثورة بأتم معنى الكلمة، ثورة مجتمعية كان مدخلها تحويرا في القانون ولكنّها كانت تهدف إلى تغيير العلاقات الاجتماعية برمتها والارتقاء بها وذلك بالبث فيها مبادئ وقيم جديدة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المجلة لا تمثل ثورة بالنظر إلى دقة المجال الذي اعتنت بتغييره والمرتبط بما هو حميمي بامتياز، أي العلاقات صلب الأسرة، والمرتكز على عقليات مناهضة لتحرر المرأة راسخة في المجتمع الذكوري فحسب، وإنّما هي تعتبر ثورة كذلك وبالأساس لأنّها استهدفت قسما من القانون كان لا يزال يستند إلى الشريعة الإسلامية المستندة بدورها إلى آيات من النص القرآني. وهو ما يجعل مسألة الإصلاح في هذا المجال أدق وأصعب بكلّ المقاييس. ويحيلنا هذا الأمر إلى سؤال شيق : كيف كان ذلك ممكنا؟ كيف استطاعت النخب التونسية آنذاك
أن تقدم على مثل هذه المخاطرة و أن تنجح في فرض إصلاح بهذه الجرأة ؟
صحيح أنّ هنالك في البلاد التونسية تقليد إصلاحي يرجع إلى أواسط القرن التاسع عشر جعل التونسيين في محيطهم الحضاري سباقين في اتّخاذ إجراءات وتدابير تحديثية كإصدار عهد الأمان وتحرير أوّل دستور وإلغاء الرقّ وتأسيس مدرسة تنشر العلوم الحديثة. ولكن وعلى أهميتها لا ترقى كلّ هذه الإصلاحات إلى مستوى إصدار مجلة الأحوال الشخصية من حيث وقعها على المجتمع وحمله على التخلي عن تقاليد وأعراف قديمة منغرسة فيه بقوة. صحيح كذلك أن مثل هذا الإصلاح لا يمكن أن يأتي من عدم وهو يستند بدون شك إلى جملة من الخطوات الحداثية التي راكمتها النخب التونسية منذ ما يناهز القرن، إلا أن إصدار المجلة لم يكن ليتحقق لولا مجهود فكري مرموق من جهة وجرأة وحنكة سياسيتين لافتتين من جهة أخرى. وهنا لا مناص لنا من التعرض إلى مساهمة وجهين هامين في تاريخ الفكر والسياسة في تونس : الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة، الأوّل لأنّه مدّنا بمنهج الإصلاح في مجتمع مسلم، والثاني لأنّه نجاح في إرساء إصلاح مجتمعي جريء كان يسبق مستوى العقليات السائدة أشواطا كبيرة.
• الطاهر الحداد ومنهج الإصلاح
يعتبر كتاب الحداد امرأتنا في الشريعة والمجتمع أثرا فكريا هاما جدّا لا فقط لأنّه ينكب على الوضعية المزرية التي كانت عليها المرأة في مجتمعنا آنذاك ويبرز حقوقها في عدة مجالات وضرورة تحرّرها في علاقة بالحياة العائلية و التعليم و الميراث و الحجاب إلخ، ولكن بالخصوص لأنّه في الصفحات القليلة المخصّصة للتمهيد يهدينا منهج الإصلاح في مجتمع مسلم. وذلك لأنّ الأرضية الفكريّة التي يؤسس عليها الحدّاد الإصلاح ليست من خارج المنظومة الحضارية للمجتمع أو ضدّها بل أنّها من صلبها، إلاّ أنّها محلّ قراءة جديدة و تأويل فريد لهذه المنظومة. وفي هذا التمشي ذكاء كبير، من جهة لأنّ كما يذكرنا بذلك غرامشي GRAMSCI: «لا يمكن للفعل في الحاضر إلاّ أن يواصل الماضي بتطويره، لا يمكن له إلاّ أن ينغرس على التقليد « (كراس 10، فقرة 59) ومن جهة أخرى لأنّه ليس هناك أي حظ للنّجاح لإصلاح مجتمعي يقدم على أنّه من خارج الإرث الحضاري و الديني بالخصوص.
كيف كسب الحداد الرهان؟ وماهي الطريقة التي اهتدى إليها والتي مكّنته من تأسيس الإصلاح المجتمعي على الإرث الديني وبالتالي من تجذير قيم الحداثة في منظومتنا الحضارية؟ السرّ يكمن هنا في الوعي التاريخي الحاد الذي أظهره هذا المفكر والذي خوّل له رؤية السيرورة التاريخية للمجتمعات البشرية وبالخصوص»تأرخة» رسالة الإسلام أي وضع هذه الأخيرة في إطارها التاريخي بخصوصياته وإكراهاته، والتي لم يكن للرسالة المحمدية من مناص سوى أخذها بعين الاعتبار والتعامل معها. وهنا بالذات يكمن إبداع الحداد أي في اهتدائه إلى فكرة أنّ رسالة الإسلام أزلية إلاّ أنّها « نزلت» في إطار تاريخي خاص (الجاهلية) كانت عليها أن تتأقلم معه حتى تنجح وذلك لسبب بسيط : لأنّ الإسلام لم يرد أن يكون « كتاب المستقبل الذي تنبذه أجياله الحاضرة لصراحته في جميع غاياته التي يقرّرها ضدّ المألوف دفعة واحدة (...) بل أنّه أراد أن يكون نافذا في يومه وفاعلا أثره في النفوس، والدّولة التي يؤسّسها.»
هذه الفكرة الرئيسية، أي تأرخة الرسالة، هي التي تقود الحداد إلى نتيجتين بالغتي الأهمية بالنسبة لقضية الإصلاح : أولاها إمكانية بل ضرورة التمييز بين «ما أتى به الإسلام وجاء من أجله، وهو جوهره و معناه فيبقى خالدا بخلوده (...) والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله دون أن تكون غرضا من أغراضه. فما يضع لها من الأحكام إقرارا لها وتعديلا فيها باق ما بقيت هي فإذا ذهبت ذهبت أحكامها. وليس في نهايتها جميعا ما يضير الإسلام...». أما ثانيتها فهي الإقرار بنهج التدرج في الإصلاح الذي انتهجه الإسلام أثناء بثّ الدّعوة وضرورة مواصلته اليوم في اتجاه القيم الخالدة التي أتى بها الإسلام «كعقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس». ويعتبر الحداد أنّ هذا المجهود عليه أن يتواصل اليوم لأنّ «نحو عشرين سنة من حياة النبي في تأسيس الإسلام كفت بل أوجبت نسخ نصوص وأحكام بأحكام. اعتبارا لهذه السّنة الأزلية فكيف بنا إذا وقفنا بالإسلام الخالد أمام الأجيال والقرون المتعاقبة بعد بلا انقطاع ونحن لا نتبل ولا نتغير؟».
إنّ تأرخة رسالة الإسلام وما ينجر عنها من قناعة راسخة بضرورة مواصلة عملية الإصلاح التي انطلقت أثناء بث الدعوة المحمدية ومع تواصل نزول الآيات القرآنية وكذلك من تمييز واضح بين ما هو من جوهر الرسالة وقيمها الخالدة وما هو عرضي مقترن بالإطار التاريخي والاجتماعي للدعوة هو الذي يتيح للحدّاد الإمكانية النظرية للتّحرّر من القراءة الحرفية للنص القرآني وبالتالي من تجاوز أحكام صريحة في هذا المجال : « لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرّجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدإ المساواة الاجتماعية بينهما عند توفّر أسبابها بتطوّر الزّمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التامة وروح الحق الأعلى».
هكذا إذن هيأ الحداد بذكاء لافت الأرضية الفكرية للإصلاح مبرزاً المسلك الذي يجب انتهاجه لإنجاحه في مجتمع مسلم . و لكن المجهود الفكري على أهميته في هذا المجال ليس كافياً لوحده لدفع عملية الإصلاح التي تبقى رهينة كيفية إدارة لحظتها السياسية . و هنا علينا أن نتوقف على الحنكة التي قاد بها بورقيبة هذه المعركة على أرض الفعل السياسي .
بقلم: بكار غريب
(عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية و التصرف بجندوبة)
يتبع
(بورقيبة وتكتيك الاصلاح)