على هشاشة العالم الذي نعيش فيه وتراجع قدرتنا ومؤسساتنا السياسية والاقتصادية على الفعل والتغيير.
ولعلّ من أبرز وجوه هذا الفشل والعجز هو عدم قدرة النظام العالمي على الوقوف في وجه هذه الجائحة وتوحيد الصفوف وطاقات الدول للتصدي لها وايقافها، وفي رأيي فإن هذا العجز فتح صفحة نهاية النظام العالمي المتعدد الأطراف الموروث من الحرب العالمية الثانية ويتطلب بداية البحث عن مبادئ ومؤسسات تفتح مجالا جديدا للتعاون بين الدول من أجل الحفاظ لا فقط على السلم العالمية بل كذلك الأمن الجماعي والذي يجب أن نفتح مجاله لتحديات جديدة ومن ضمنها الصحة العالمية.
لقد وضعتنا هذه الجائحة أمام مفارقة لم نشهد مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية، فالأزمة الصحية وفيروس كورونا وضع العالم أمام تحد عالمي ويتجاوز حدود الدولة الوطنية، وعلى خلاف الأزمات الصحية السابقة فإن انتشار الفيروس لم يكن مقتصرا على جهة معينة أو قطر بل شهد انتشارا عاليا بسرعة كبيرة. إذن وضعتنا هذه الجائحة ومنذ بداياتها أمام ظاهرة عالمية تجاوزت في انتشارها الحدود الوطنية والاقليمية لتصبح تحديا عالميا لم نشهد مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أن المثير للخوف هو العجز الكبير للنظام الدولي ولمؤسساته الكبرى في الوقوف أمامه وفي توحيد الدول من أجل إجابة جماعية قادرة على حماية الإنسان والمجتمعات أمام الجائحة. فلقد وصل النظام العالمي حدّا من الترّهل جعله عاجزا على الوقوف والتصدي لأول أزمة عالمية.
• مظاهر الأزمة:
وقد برزت هذه الأزمة للنظام العالمي في عديد المظاهر والتجليات، لعلّ المظهر الأول لهذا الفشل والتراجع هو التأخير الكبير الذي عرفته المؤسسات الدولية الكبرى والمنظمات العالمية في تقدير حجم الجائحة والتعاطي معها.
ولعلّ موقف مجلس الأمن يعتبر أهم مثال على هذا التأخير في السرعة في التعامل مع هذه الأزمة، فقد بدأت الأزمة تعرف منحى خطيرا وعالميا منذ بداية شهر مارس، إلا أن المنظمة الدولية لم تبدأ في الإلمام بالموضوع والتعاطي معه إلا في نهاية شهر مارس. فقد قام السيد أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة يوم 23 مارس 2020 بتصريح أكدّ فيه حجم الخطر الذي يهدد العالم في مواجهة هذه الجائحة، وقد أشار إلى المعركة التي سيخوضها العالم مع هذا الفيروس هي معركة جيل بأكمله وأن هذه الجائحة تشكلّ تهديدا للسلع والأمن العالمي، وقد نادى في هذا التصريح بضرورة الإعلان على إيقاف إطلاق نار عالمي في كل الحروب والمواجهات المسلحة.
إلا أنه وبالرغم من هذا التصريح والقراءة المفزعة للجائحة وللوضع العالمي فإن مجلس الأمن لم يجتمع إلا بعد أكثر من أسبوعين. فقد اختلق الأعضاء عديد الأسباب الواهية ومن ضمنها فقدان تقنيات العمل والإجتماع عن بعد وضرورة أن يكون إجتماع بمثل هذه الأهمية حضوريا. وأمام هذه الأسباب والتعلات لم يتمكن مجلس الأمن من الاجتماع إلا يوم 9 أفريل 2020 أي أكثر من شهر ونصف بعد التؤكد من حجم الجائحة وعمق انعكاساتها على الصحة العالمية والأمن العالمي.
وهذا التأخير لا يقتصر على منظمة الأمم المتحدة بل يهم كل مؤسسات المنتظم الأممي ومن ضمنها منظمة الصحة العالمية ومجموعات السبع والعشرين. ويثبت هذا التأخير حالة الوهن والعجز التي يعيشها النظام العالمي وعدم قدرته على التعاطي بالسرعة الكافية مع هذه الجائحة.
أما المظهر الثاني لهذه الأزمة فيخص الخلافات السياسية الكبرى التي لم تساعد ولم تسرّع في عمل المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية. فلم تكن الدول الكبرى قادرة على تجاوز خلافاتها ساهم في شلل وعجز النظام الدولي. وقد أشار في عديد التقارير والأخبار القادمة من نيويورك حول أسباب تأخير اجتماع مجلس إلى الخلافات العميقة بين الأعضاء الدائمين، فقد رفضت الصين السماح للبلدان الأخري وبصفة خاصة للغريم الأمريكي بالتدخل في أزمة الكورونا خاصة عند انطلاقها في الصين. كما أن الصين رفضت بشدة الإشارة إلى الجذور الصينية لهذه الأزمة في مشروع الغذاء الأممي، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت وبنفس الشدة أن يشيد القرار الأممي بالدور الصيني في مواجهة الجائحة.
ساهمت هذه الخلافات السياسية والصراعات بين الدول الكبرى في تبعيد المؤسسات الدولية وفي تعميق جراح النظام الدولي.
أما المظهر الثالث لهذه الأزمة فيعود إلى ضعف القرارات التي أخذتها المؤسسات الدولية والتي لم ترتق لحجم الجائحة وانعكاساتها الصحية والاقتصادية والسياسية. ولم يقتصر هذا الضعف في القرارات على المنتظم الأممي بل شمل المؤسسات العالمية الأخرى كمجموعة العشرين. فقد اجتمع ممثلوا هذه المجموعة والتي ترأسها السعودية هذه السنة بطريقة افتراضية يوم 26 مارس 2020 لينتهي الاجتماع على قرارات باهتة ومن ضمنها تأجيل دفع الدين للبلدان الأقل نموّا إلى نهاية السنة الحالية.
ساهمت هذه القرارات الضعيفة في تعميق أزمة النظام الدولي وتراجع الثقة في مؤسساته وفي قدرتها على الوقوف أمام أهم أزمة عالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
إن الأزمة الحالية ليست بالجديدة فقد عرف النظام العالمي تواتر العديد من الأزمات والهزات والتي ساهمت في تراجع تأثيره وقدرته على توحيد العمل الجماعي للدول من أجل حماية السلع والأمن الجماعي، وقد تكون هذه الأزمة الأخيرة نقطة بداية لانهيار المؤسسات الدولية إذا عجزت شعوب العالم على إيقاف هذا الانحدار وصياغة مشروع جديد لإدارة الشأن الدولي.