كما درستها زمن الحرية والديمقراطية وقد أدرسها، إن شاءت الأقدار وطالت الأعمار، في زمن ما بعد الكورونا، إذ يبدو أن حال البشرية ما بعد هذه المحنة الصحية العالمية سوف لن يكون مثل حالها قبل هذه الجائحة. ولكن ماذا تغير بين الأمس واليوم؟ وما الذي سوف يتغير مستقبلا؟ وهل أن الدولة سوف تدفع ثمن الأزمة، أم أن الأزمة سوف تعطي نفسا جديدا للدولة التي، رغم كثرة وعمق التحديات التي كانت ومازالت تعيشها، تمكنت من الصمود والمحافظة على دورها ومكانتها كشكل متطور من أشكال تنظيم المجتمع السياسي؟
يبدو أن الدولة اليوم لن تكون هي نفسها الدولة زمن ما بعد الكورونا فجدلية التطور والتأقلم تفرض على الدولة أن تواكب التحولات الجذرية التي تقترن بتطور المجتمعات البشرية، وهذا قدر كل المؤسسات الاجتماعية. فالدولة مثلا زمن الدكتاتورية ليست هي نفسها الدولة في مناخ الحرية. فشتان بين دولة الظلم والقهر والاستبداد، ودولة الحق والعدل والقانون. وشتان بين دولة الراعي والرعية، والتابع والمتبوع، والفاعل والمفعول به وبين دولة المواطنة والمشاركة والمساءلة. ليس المشكل في الدولة في حد ذاتها كشخص معنوي وكبناء قانوني ومؤسساتي ليست له إرادة فعل مستقلة عن إرادة الأشخاص الطبيعيين المكونين له، سواء كانوا حكاما أو محكومين، بل المشكل في القائمين على شؤون الدولة وفي الخاضعين لسلطانها. فهم الذين يشكلون سلطة الدولة وامتدادها وطبيعتها بحسب تمثلهم لها ولدورها صلب المجتمع السياسي. فالدولة المستبدة ليست هي التي اختارت الاستبداد، بل أنها كانت وسيلة بيد الحكام لممارسته. والدولة الديمقراطية لم تكن كذلك إلا لأن مكوناتها الاجتماعية استبطنت قيمة الحرية، وحصلت لديها القناعة بأن الممارسة السلطوية لا تبرر الظلم والتسلط والاستبداد بقدر ما هي ممارسة لضرورة اجتماعية تمنع الفوضى وتحقق العدل والأمن والمساواة كأركان أساسية للتعايش السياسي والاجتماعي المتحضر والسلمي.
تبدو الدولة اليوم، كما القائمين عليها والخاضعين لسلطتها، في مفترق طرق تاريخي ليس من الهين التكهن بمساراته المستقبلية وبما سوف يؤول إليه. فلا أحد اليوم يمكن له أن يجزم بطبيعة التطورات والتحولات التي سوف يفرزها «زلزال الكورونا» على الأنظمة والخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط على المستوى القومي والوطني الضيق، ولكن كذلك على المستوى الكوني الشامل. فكما أن العولمة باغتت الكثير حينما تمكنت من مفاصل النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي في سنوات محدودة، فان الكورونا لم تباغت العلماء المختصين في المجال الطبي فقط، بل باغتت ايضا كبار السياسيين والخبراء الاستراتيجيين، كما باغتت صانعي القرار المالي والتجاري والاقتصادي العالمي. غير أن بعض الملاحظات الاستباقية، والتي تبقى مجرد فرضيات قابلة للدحض، يمكن أن نسوقها بخصوص مستقبل الدولة في خضم كل هذه التحولات :
الملاحظة الأولى هي أننا لازلنا في حاجة أكيدة إلى الدولة بل قد نكون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في حاجة اليها. فالدولة التي تقسو علينا أحيانا، وتحد من حرياتنا وتفرض علينا الانصياع لمشيئتها وقوانينها، هي نفسها الدولة التي تنتصب اليوم مدافعا عن حقنا في الصحة، وربما في الحياة. والدولة التي ننتقدها ونستغرب أحيانا تدخلاتها القسرية، هي نفسها الدولة التي نلجأ إليها اليوم، مختارين أو مضطرين، لتساعدنا على تجاوز الأزمة ومخلفاتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية. كما أننا سوف نكون محتاجين لها مستقبلا لحل الإشكالات العميقة وغير المسبوقة التي سوف تترتب عن هذه الأزمة الصحية ذات الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية التي يصعب التكهن بجميعها اليوم.
إن الدولة التي تحتكر سلطة الإلزام من خلال اللجوء إلى القوة العامة أحيانا والتي كانت، ولا تزال، تشكل مصدر ريبة وتساؤل بالنسبة للبعض، خاصة عندما يتم التعسف في استعمالها، تبدو اليوم أمام فرصة لتثبت أن تمتعها بهذا الامتياز في استعمال القوة له يبرره باعتباره من جوهر وظيفة الدولة وضمانة لديمومتها، خاصة إذا نجحت في أن توظف هذا الاستعمال لخدمة المجموعة والصالح العام. فالدولة تبدو اليوم أمام فرصة تاريخية لتجديد مشروعيتها التي بدأت تتآكل شيئا فشيئا في العقود الأخيرة. إن سلطة الردع التي تمتلكها الدولة، بصورة أصلية، شرط أن لا يساء استخدامها، تبدو اليوم ضرورية ومشروعة ومتأكدة لأنه يبدو طبيعيا، في ظروف الأزمة، أن يتم التقليص من امتداد تمتع الأشخاص بالحقوق والحريات الفردية والجماعية. غير أن ذلك لا يجب أن يؤدي إلى تحول في تمثل علاقة الدولة بالحقوق والحريات الفردية منها والجماعية، لأن حاجتنا للدولة لا ينفي توقنا الفطري والمشروع للحرية. لذلك، فان رد الاعتبار للدولة ولدورها لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون مبررا لقمع الحريات أو التضحية بها. فالدولة القوية تبقى دائما الدولة العادلة الحامية للحقوق والحريات إذ لا يجب أن ننسى أن دفاعنا عن الدولة اليوم مرده حرصها على حماية حقنا في الصحة والحياة.
وكما أننا في حاجة إلى الدولة، فان الدولة في حاجة إلينا. فبدون مواطنين ومواطنات واعون بحقوقهم وواجباتهم تقف الدولة بترسانتها القانونية وبسلطاتها الاستثنائية عاجزة أحيانا عن تحقيق أهدافها. إن الحجر الصحي الذي تفرضه الدولة اليوم على جانب كبير من مواطنيها، وحتى غير المواطنين، ما كان لينجح بالقدر المطلوب في المجتمعات التي تغيب فيها الثقة بين الدولة ومنظوريها. إن اللجوء للقوة والجبروت قد لا يكون كافيا أحيانا لفرض خيارات الدولة وقراراتها، بل لابد من حد من الانصياع التلقائي الذي لا يكون ممكنا ومتاحا في غياب عنصر الثقة بين الدولة ومنظوريها.
الملاحظة الثانية هي أن تمثل الدولة ما بعد الكورونا قد لا يكون نفس تمثلها اليوم، على الأقل بالنسبة للمجتمعات التي اكتوت، أكثر من غيرها، بنار الأزمة الصحية العالمية. إن طرح هذه الفرضية يبدو منطقيا بالنظر إلى جملة من المعطيات الواقعية التي اقترنت بهذه الأزمة. لماذا نجحت مثلا «الصين الشيوعية»، إلى حد ما، في احتواء الأزمة والتقليل من نتائجها الكارثية على السكان رغم العدد الكبير للمصابين، وفشلت في ذلك، إلى حد ما، دول ليبرالية كبرى مثل ايطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. هل أن انضباط السكان للحجر الصحي، منذ بداية الأزمة في الصين وتطبيقهم الذي يكاد يكون آليا وقدسيا للتوصيات الصحية، في مقابل نوع من التسيب واللامبالاة في دول ومجتمعات أخرى، مثل سببا كافيا للنتائج المتوصل إليها؟ وهل أن للدولة، وطريقة تمثل وظيفتها، تأثير على أسلوب إدارة الأزمة في مختلف الدول؟ وهل أن تراجع دولة المرافق العامة في العديد من بقاع المعمورة كان خيارا صائبا أم أن الأزمة الصحية العالمية جاءت لتنسف وجاهة هذا الخيار الذي بني، في العديد من التجارب، على معطيات اقتصادية ومالية غالبة؟
ليس من الهين الآن استخلاص نتائج واضحة ومقروءة بالقدر الكافي لأزمة كورونا ومختلف تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الفكرية والحضارية والايديولوجية. غير أن المتأكد أن النقاش سوف يطرح مجددا، اثر الأزمة، مثلما كان الأمر، وربما بأكثر حدة، اثر الأزمة المالية العالمية، عن طبيعة دور الدولة وامتداد وظائفها ومشروعية تدخلها من عدمه خاصة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية الحيوية.
فالدولة التي استقالت في العديد من المجتمعات من وظيفتها كقاطرة للتنمية، ولكن أيضا كمحرك للديناميكية الاقتصادية والاجتماعية، قد تكون مدعوة، خاصة في الدول النامية، إلى إعادة النظر في خياراتها التي كانت أحيانا تلقائية، وأحيانا أخرى مفروضة. هل نحن اليوم على مشارف مرحلة جديدة، مرحلة رد الاعتبار لدولة المرافق العامة أم أن المنطق الرأسمالي الليبرالي سوف يصمد مستندا إلى حججه التقليدية، وربما إلى حجج جديدة متماشية مع طبيعة المرحلة التاريخية التي نعيشها اليوم، والمتعلقة بالنجاعة والمردودية والكلفة الباهظة لتدخل الدولة؟ وهل أن هذه الحجج سوف تكون لها نفس درجة الإقناع التي كانت لها في العقود الماضية؟ وماهو الدور الذي سوف تلعبه المؤسسات المالية العالمية والمنظمة العالمية للتجارة في تحديد خيارات المرحلة القادمة ليس فقط على المستوى الدولي، ولكن كذلك على المستوى الداخلي؟
هل حان الوقت لتفعيل منوال دولة اجتماعية حقيقية متشبعة بقيم العدالة والمساواة الاجتماعية والحريصة على تحصين السكان ضد المخلفات الكارثية لمثل الأزمة التي تعيشها البشرية اليوم، من خلال الاستثمار أكثر في المرافق العامة الأساسية برؤية موضوعية توائم بين متطلبات النجاعة الاقتصادية ومقتضيات الأخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية والإنسانية لوظيفة الدولة. يبدو أننا سوف نكون في حاجة إلى تمثل جديد للدولة. تمثل يعيد إنتاج منظومة قيمية غايتها الأولى الإنسان، وليس المادة، وأساسها الجدارة والكفاءة وقوامها العلم والمعرفة والاجتهاد. ويكون للدولة دور محوري في توجيه الجهد والفكر البشري نحو هذه القيم التي تراجع بريقها تحت وطأة الجشع الرأسمالي اللامحدود والذي بدا عاجزا
عن إيجاد الحلول المناسبة لأزمة فاجأت الجميع، بما في ذلك أكبر الدول في العالم. إن منوال الدولة الاجتماعية الجديدة يجب أن لا يقتصر على فكرة إعادة توزيع الثروة وتحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية المجردة، بل من المفترض أن يقوم أيضا، وبصورة ملموسة، على تأمين الدولة للمرافق العامة الأساسية من صحة وتعليم وغذاء ونقل وبحث علمي...بجودة تضاهي تلك التي تتوفر لرواد القطاع الخاص. إن استثمار الدولة في المرافق العامة قد يمثل حجر الزاوية للتمثل الجديد لدور الدولة ما بعد أزمة الكورونا. حفظنا الله وإياكم من كل مكروه.