وما سبّبته هذه النظريّة من تشظّي وتقسيم المجتمع وتدمير الدولة في جميع مجالاتها ..
« التدافع الإجتماعي » صورة مصغّرة لما يسمّى بـ«الصراع الطبقي» وما يسمّى بـ«صدام الحضارات» وما يسمّى بـ«الفوضى الخلاّقة» وما يسمّى بـ«التدافع الحضاري» على المستوى الكوني.
وعلى المستوى التونسي رأيناه يمدّ يديه كالأخطبوط في مساع مدروسة وممنهجة ترمي إلى إحداث الفوارق الإقتصادية والإجتماعية لتستبدل بتصنيفات دينية وأخلاقويّة تصنّف الجميع في دائرتين : الإيمان والكفر أو المتديّن وغير المتديّن ..وترمي إلى تغيير النمط المجتمعي وتقسيم الأفراد داخل البيت الواحد ..
وقد استمدّ الإسلامويون من وهابيّة وإخوان وإتجاهيين ثمّ نهضاويين مفهوم « التدافع الإجتماعي» من القرآن حتّى يكسبوه صفة الشرعيّة ويلبسوه لباس القداسة فمفهوم “التدافع” قرآني أصيل يعني لغة من الدفع: الإزالة بالقوّة، وفي القرآن: الدفع إذا عُدِّيَ بـ (عن) اقتضي معنى الحماية، كما في قوله تعالى « إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا « سورة الحج/38، وقوله «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ « سورة البقرة/251
إنّ الاستخدام القرآني – كما في آيتي سورة البقرة 251 وسورة الحج 40 يضع معنى «دفع» سواء كان فعلًا أو اسمًا في سياق متميّز من الردع الهادف «الحماية من الشرّ بدفعه».
ولكن حال التطبيق كرّست نظرية التدافع خطابا هوويا وجماعويا محرّضا على الكراهية والتآمر والتربص للإنقضاض على الدولة المدنية وتحويل صبغتها إلى دولة دينية.
ومن هنا صارت مقاربة «التدافع الإجتماعي» تسوّغ لكلّ أشكال التكتيك السياسي والمناورات والتحالفات مع الأعداء قبل الأصدقاء فوقعنا في تفشّي فكرة العنف المشروع، وفتح الفضاءات العمومية المشتركة والمفتوحة من شوارع وساحات وأسواق وغيرها للتشاحن والتصارع الاجتماعي بعيدا عن تدخّل الدولة وأجهزتها الأمنيّة والرقابية التي غابت وضعفت ثمّ تماسكت بعض التماسك . ورأينا إحتلال المساجد بالكامل، وانتشار الجمعيات الخيرية وانتصاب الخيام الدعوية والمدارس الدينية اللاقانونيّة ورأينا التعبئة السلفية والمناظرات الإيديولوجيّة وعاينّا مساعي المسك بمفاصل الدولة وحشو الإدارة بالموظّفين الجامدين ولاحظنا ارتفاع منسوب الحقد والكراهيّة والضغط والتوتّر الاجتماعي بسبب الشحن السياسي
ولم تنقطع عن أعيننا صور مختلفة من الاستقطابات خاصة إبّان الانتخابات المتعدّدة التي عاشتها البلاد فتفاقمت الإتّهامات وازدادت صور التشاحن الإجتماعي من خطابات التحريض والتخوين والتقسيم الجهوي. وغاب النقاش على البرامج، وانحصر الخطاب في الجوانب الشخصيّة الذاتيّة فعمّ قلب الحقائق وعكس الخطب والتشويه. وهو ما أثار نعرات جهويّة خطيرة
وتراشق بتهم التدخّل الأجنبي والارتهان لدعمه المادي وغير ذلك ممّا سبب الوهن العام لكلّ قطاعات الحياة وهذا كلّه وغير ذلك الكثير ما كان من تبعات هذه النظريّة الدخيلة نظرية التدافع الاجتماعي.
وقد تعالت الأصوات متصديّة منها الإعلاميّة والسياسية والمجتمع المدني و القوى التقدّمية التونسيّة لنظريّة التدافع التي خلّفت اعتداءات عنفيّة وتصفيات واغتيالات دمويّة ومرّت إلى التفجيرات والانتصاب في الجبال والمدن ولا نزال نعاني تبعات هذا كلّه .
فهل تكون جائحة الكورونا على خطورتها وتداعياتها الكبرى فيروسا جاء لاسقاط هذه النظريّة كاشفا ضعفنا في قطاعات الصحّة والماليّة وغيرهما معرّيا وهن الدولة وهشاشتها في التصوّرات الاجتماعيّة والقانونية وغير ذلك ؟
لقد جاء هذا الفيروس ليكرّس أكبر وأنجع نظريّة فيها الحلّ الأكبر وهي نظريّة «التباعد الاجتماعي» باعتبارها الطريقة الأسرع لاحتواء وباء كورونا (كوفيد-19).
ويتطلّب «التباعد الاجتماعي» بقاء الناس في منازلهم وإيقاف جميع الأنشطة والتجمّعات، ممّا يعني إجبارهم على العمل من المنازل والدراسة عن بعد وقد يشمل «التباعد الاجتماعي» منع الاتصال الجسدي بين أفراد العائلة الواحدة داخل المنزل،. وقد أضحى السياسيون اليوم -ومنهم من كان يدعو بالأمس إلى التدافع الإجتماعي – يحتمون بهذه النظريّة الجديدة ويلحّون مع الأطباء على حتميّة «التباعد الإجتماعي» و ضرورة الإلتزام بترك مسافة بين شخص وآخر كوسيلة للوقاية من فيروس كورونا، وقد تستمر الحاجة إلى التباعد الاجتماعي أشهرا عديدة حتى يتوفّر اللقاح الشافي، وفقا للباحثين.
فها نحن اليوم نرى نظريّة «التباعد الإجتماعي» تدمّر نظريّة «التدافع الإجتماعي» المدمّرة وتقضي على بقاياها في انتظار الاستفاقة والمراجعات لكلّ منظوماتنا التي اعتلّت بالتدافع لعلّها تشفى من أسقامها بالتباعد ..