تدخل آخر وزير عدل لبن علي السيد البشير التكاري في قناة الجزيرة قبل يومين من فرار بن علي قال «نظامنا قوي» ونسي أن القوة لله جميعا , بعد الثورة كنا في موعد مع التاريخ لكننا أضعنا ذلك الموعد , كان علينا بناء الدولة من جديد على أسس صحيحة وكان بإمكاننا القيام بالعديد من الأشياء نبني دستورا جديدا يحقق آمال التونسيين , نصلح التعليم , نصلح المنظومة القضائية, نصلح الإدارة، نصلح ترسانة القوانين التي تجاوزها الزمن , نصلح كل شيء فاسد . لكن شيئا من ذلك لم يحصل وحتى « أحسن دستور في العالم» تبين أنه لم يكن كذلك وأصبحنا نفكر في تنقيحه . وفي خضم كل هذه الحركية قررت وزارة العدل تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية (وكذلك المجلة الجنائية ) وكلفت لجنة تعنى بذلك وقامت هذه اللجنة بعديد اللقاءات والندوات وسافرت إلى الخارج ثم أطلت علينا بمشروع مجلة قال رئيسها إنه يمثل ثورة تشريعية هذا المشروع لم يعرض للنقاش من طرف المختصين في الميدان تكتمت اللجنة عليه ثم أبدته لوسائل الإعلام وادعت أنه على أحسن ما يكون وسأستغل هذه الفرصة لأعلق على هذا المشروع. لقد أعدت اللجنة مشروع مجلة إجراءات جزائية بدون رائحة ولا طعم فكان كما سأبينه خيبة ظن . ان مجلة الإجراءات الجزائية ترمي الى تحقيق توازن بين : حماية المجتمع والحفاظ على السلم الاجتماعي وجبر الضرر بالنسبة للضحية والإحاطة به حتى يتمكن من تجاوز آثار الاعتداء الذي تعرض له , تسليط العقاب المناسب على المتهم إذا كان لا بد من ذلك وإصلاحه اذا كان أهلا لذلك وذلك بتفعيل الوسائل البديلة لكن مشروع المجلة لم يحترم ذلك التوازن وكان يحمل في طياته نقاط ضعف عديدة سآتي على البعض منها باختصار شديد من ذلك :
• آجال سقوط حق التتبع لم تتغير في المشروع الجديد وبقيت نفس الآجال المنصوص عليها في المجلة الحالية ( عشر سنوات بالنسبة للجنايات وثلاث سنوات للجنح وسنة واحدة للمخالفات ) غير أنه وفي معظم دول العالم نجد مدة السقوط في الجنايات عشرين عاما وفي بعض الجرائم الخطيرة ثلاثين عاما وفي الجرائم الأكثر خطورة لا يسقط حق التتبع بمرور الزمن مثل جرائم القتل والاغتصاب في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بعض الأحيان يقع اكتشاف مرتكبي هذه الجرائم بعد ثلاثين أو أربعين عاما أو أكثر من ذلك بفضل الوسائل العلمية الحديثة في البحث والتحقيق وتشعر السلطات القضائية والضابطة العدلية في تلك البلاد بفخر كبير بسبب الكشف عن هوية الجاني بعد مدة طويلة من ارتكاب الجريمة مما يدعو الى القول أن نظامنا القضائي يساعد على الإفلات من العقاب .
• ليس هنالك أي ذكر لحقوق المتضرر من الفعل الإجرامي فصورته مخفية لأنه لا حقوق له في المشروع تم التأكيد فقط على حقوق ذي الشبهة التي لا تنتهي في حين أن المتضرر لا إحاطة نفسية ولا حق له في الفحص الطبي المجاني فالمتضرر الذي يتعرض الى الاعتداء بالعنف أو غيره يجب أن يدفع ثمن العلاج ولا يتسلم الشهادة الطبية التي تثبت الإضرار التي حصلت له الا بعد أن يتولى خلاص المصاريف وربما يكون في بعض الأحيان غير قادر على ذلك في حين أن ذا الشبهة يعرض مجانا وهذا أمر غير مقبول فالمشرع الفرنسي مثلا خصص فصولا عديدة تتحدث عن حقوق المتضرر لكن مشرعنا لا يرى فائدة في ذلك .
• من شروط القيام على المسؤولية الخاصة في المجلة الحالية تأمين مبلغ مالي يقع تحديده من طرف حاكم التحقيق الذي يأخذ بعين الاعتبار عدة اعتبارات مثل وجاهة القيام وذلك تفاديا للتعسف في استعمال هذا الحق وعادة يكون هذا المبلغ يساوي ألف دينار فما فوق مما يمثل موردا ماليا هاما بالنسبة لخزينة الدولة لكن في المشروع الجديد تم تحديد المبلغ الواجب تأمينه بمائة ومائتان وثلاثمائة دينار وهي مبالغ زهيدة وزهيدة جدا تشجع الناس على التقاضي على الطعن في القرار القضائي بهذه الطريقة .
• حق الاحتفاظ من اختصاص الضابطة العدلية في عديد بلدان العالم , يمكن للباحث الاحتفاظ بذي الشبهة لمدة أربع وعشرين ساعة دون استشارة النيابة العمومية وهذا فيه فوائد كثيرة سرعة ونجاعة في البحث ويمكن أن يكون سببا في استقرار الأمن لكن في المشروع الجديد لا يمكن الاحتفاظ بذي الشبهة في المخالفات أكثر من ساعتين وهذا الأمر لا يساعد على الحفاظ على الأمن العام ومقاومة الجريمة . وعدم إعطاء الضابطة العدلية حق الاحتفاظ له معنى واحد وهو أن المشرع التونسي لا يثق في المؤسسة الأمنية وهذا موقف خاطئ لأنه علينا أن نثق بالمؤسسة الأمنية التي أنقذت البلاد من الإرهاب والتي لا يمكن مقاومة الجريمة بدونها نراقبها نعم وبكل الوسائل المتاحة لكن يجب أن نثق بها لأن العدالة التي لا تثق في مؤسساتها هي عدالة عرجاء والمؤسسة الأمنية هي ركيزة أساسية من ركائز العدالة لذا يجب أن نفتح صفحة جديدة معها .
• تقليص من صلاحيات حاكم التحقيق ووكيل الجمهورية لفائدة لجنة الحقوق والحريات من ذلك الأذون بالتفتيش وإصدار بطاقات الإيداع وهذا فيه حرمان سلطة التتبع من أدوات عمل هامة وفيه تقسيم لتلك السلطة وتنقيص من قدراتها عن الكشف على الجرائم وهذا سيكون له لا محالة تبعات خطيرة على سير العدالة .
• إنابة محام أصبحت وجوبية لدى الضابطة العدلية في الجنايات وفي الجنح التي يتجاوز العقاب فيها سنتين سجنا وهذا أمر لم يسبقنا اليه أحد ففي أعتا الديمقراطيات في العالم إنابة محام ليست وجوبية في الجنايات وفي الجنح , من حق ذي الشبهة إنابة محام ويجب إعلامه بذلك الحق وإن كان لا يرغب في ذلك أو تنازل عن ذلك الحق فانه ليس على الدولة أن تعين له محاما رغما عنه (ولا أدري هذا الإجراء هو في الحقيقة في خدمة من ؟) وهذا من شأنه أن يطيل الإجراءات ويعطل كذلك مرفق العدالة وأن يثقل كاهل الدولة بمصاريف هامة هي في غنى عنها .
• تم تكريس مقولة أن لا يضار الطاعن بطعنه وأقول هنا هي مقولة لأنها ليست مبدأ فلا أعلم أن لهذا القول مساند في أي دولة من دول العالم وحتى محاكمنا لا تطبقه بصفة آلية وهو اكتشاف تونسي مائة بالمائة أعجب اللجنة فتبنته رغم آثاره السلبية :
لا يترك لمحكمة الاستئناف حرية التكييف فهي بين خيارين إما إقرار حكم البداية أو التخفيف من العقاب فلا يمكنها التشديد وان كانت ترى وجاهة في ذلك في حين أن محكمة الاستئناف يجب أن تنظر في القضية وكأنه لم يصدر حكم ابتدائي في الموضوع
كما أن هذا «المبدأ» سيغرق محكمة الاستئناف بالقضايا مادام المحكوم عليه لا يخشى شيئا اما أن يبقى الحكم كما هو أو يقع التخفيف فيه .
ستنجر عن هذا المبدأ صعوبات في التطبيق : هل يطبق عندما يستأنف المحكوم عليه وحده فقط أم حتى عندما تستأنف النيابة العمومية معه يطبق كذلك ؟ فيصبح لا قيمة لاستئناف النيابة اذا استأنف المتهم الحكم .
• لقد سمعنا طويلا عن أن مشروع مجلة الإجراءات الجزائية الجديد سيلغى دائرة الاتهام وقد استبشرنا بذلك وما راعنا الا وأنه تم تعويضها بدائرة الحقوق والحريات والتي سيتم تركيزها على مستوى جميع المحاكم الابتدائية في الجمهورية ولها اختصاص يضم اختصاصات دائرة الاتهام الحالية ويتجاوزها في صلاحيات جديدة كانت من قبل من أنظار وكيل الجمهورية وحاكم التحقيق ونظرا لكثرة الصلاحيات الموكولة لها لا أظن أن دائرة واحدة في كل محكمة ابتدائية ستفي بالحاجة فيجب توفير أكثر من دائرة في أغلب المحاكم مما سيثقل كاهل المحاكم ويثقل سير القضاء الذي هو أصلا ثقيل في طول إجراءاته وتعقيداته ولعل دائرة الاتهام في وضعها الحالي أفضل من الدائرة الجديدة التي أتى بها المشروع .
• ينص الفصل 129 فقرة أخيرة انه « يسوغ له (للمحامي ) تدوين ملاحظاته في محضر السماع وفي النظائر والنسخ « ويفهم من هذا الفصل أن المحامي يمكنه تدوين ملاحظاته على طرة المحضر بالقلم الجاف وهذا أمر غريب جدا ولا مثيل له في أي بلد آخر فمحضر البحث الذي كان يعتبر حجة رسمية ولا يمكن الطعن فيه الا بالزور مثل الحجج الرسمية التي يحررها عدول الإشهاد أصبح يدون عليه بالقلم الجاف ملاحظات المحامي وكأنه مدرس يصلح فرضا لتلميذه ولقد حصل هذا واطلعت عليه شخصيا وغابت عن المحضر تلك الهالة الرسمية التي كانت تظهر عليه وأصبح مثل المسودة التي يعدها تلميذ يجري امتحانا . وهذا أمر غير مقبول نعم يمكن للمحامي أن يدلي بملاحظاته ولكن يجب أن يكون ذلك في تقرير يدون فيه ما يشاء ويضاف لمحضر البحث أما أن يدخل هكذا على محضر رسمي يكتب عليه ملاحظاته فهذا أمر غير مقبول بالمرة ولم نشاهد مثله في أي بلد في العالم .
لقد قضيت عمرا في القضاء وإني لما قلت ما قلت في هذا المقال إنما عن دراية وخبرة ومعرفة ويقين وأضيف الى ذلك أن مشروع مجلة الإجراءات الجزائية لو مر على حالته فانه كارثة حقيقية على العدالة يكرس نظرية التسيب والإفلات من العقاب ولا أبالغ ان قلت يشجع على الجريمة ويمس من هيبة الدولة وإني أدعو السيد رئيس الجمهورية وهو الرجل في القانون أن يطلع على هذا المشروع وألا يدعه يمر كما أدعو البرلمان التونسي الى عدم التصويت عليه وإني أعلم أن هنالك العديد من الكفاءات التونسية في القانون من قضاة متقاعدين وأساتذة جامعيين يمكنهم في وقت وجيز أن ينجزوا مشروع مجلة جديد تتحقق فيه الآمال ويبلغ منه المراد .
لقد قلت ما قلت ولا أريد من ذلك سوى الإصلاح ما استطعت وما التوفيق الا من عند الله ولقد بلغت اللهم فاشهد .
بقلم : إدريـس حريــق
وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية سوسة 2