المتواصل نحو تحقيق أمانيهم التي تطلعوا إليها عند قيام الثورة منذ ثماني سنوات. يتساءلون عن هؤلاء الذين يتحكمون بمصائرهم ولا يقترحون حلولا جدية للخروج من الأزمة. في حالات مماثلة من سوء الحال هناك من ينتفض وهناك من يهادن وهناك من يقاوم بالحيلة فيهمس من وراء ظهر الحاكم كما يقول " جيمس سكوت". ثمة العقوبة الانتخابية حين يدير الناخب ظهره لمن فشلوا في إدارة شؤونه وثمة العقوبة التلفزية حين لا يكون السياسي موضوعا للفرجة وللمتابعة.
السلوك التلفزي للتونسيين مؤشر على مدى رضاهم عن المشهد السياسي وتفاعلاته المختلفة. ويمكن أن يقدم لنا السلوك التلفزي للتونسيين في الآونة الأخيرة فكرة أولية عن نسب المشاركة الانتخابية المتوقعة أشهرا قليلة قبل موعد الدخول إلى الخلوة. فإن بقي السلوك التلفزي وهو سلوك مشاهدة على حاله فإننا سنسجل أدنى مستويات للمشاركة الانتخابية في خريف 2019.
ننطلق من الأرقام التي قدمها مركز "سيقما كونساي" حول علاقة التونسي بالمشاهدة التلفزية في شهر جانفي. ونقدم الملاحظات التالية:
1 - يقضي التونسيون أكثر من ساعة بقليل أمام شاشة التلفزة وهو حيز زمني ضعيف مقارنة بالحيز الذي يقضيه الفرنسيون مثلا والذي يتجاوز ثلاث ساعات يوميا.
2 - تفتقد الشاشة الصغيرة شيئا فشيئا روادها من الشباب وهذا راجع إلى تعدد الشاشات مثل المشاهدة على الهواتف الذكية والحواسيب.
3 - سلطة النساء على جهاز التلفزة متواصلة، يلاحظ ذلك عندما يتعلق الأمر بالقنوات وبالبرامج التي تحتكر أعلى نسب المشاهدة.
4 - يستهلك التونسيون شاشاتهم في عطل نهاية الأسبوع وهو مؤشر على غياب بدائل أخرى للمتعة
5 هناك قنوات تلفزية للشريط الساحلي وهناك أخرى للمناطق الداخلية
6 - هبوط واضح للقناة العمومية مقارنة بالأخرى الخاصة.
7 - تحتل برامج تلفزيون الواقع صدارة المشاهدة تليها المسلسلات التركية المدبلجة وبرامج المنوعات وبينهما موقع لأخبار الثامنة، وقد فهم المستشهرون هذه اللعبة و حضروا بثقلهم الإشهاري في هذا النمط من المنتوج التلفزي.
8 - أفول واضح للبرامج الحوارية السياسية في السلوك التلفزي للتونسيين دون أن ننسى البرامج الرياضية.
من الواضح أن التونسيين بسلوكهم التلفزي هذا قد عبروا عن موقف غير مبال لما يدور حولهم من أحداث سياسية ساخنة من أهمها أزمة التعليم وتداعيات قانون المالية وتواصل هبوط قيمة الدينار وغلاء المعيشة. إنهم فضلوا على كل هذا مواصلة متابعة مسلسلاتهم التركية المتونسة وواصلوا أيضا تلصصهم على أسرار الناس ومعاناتهم.
أمام قتامة الوضع العام بالبلاد يجد التونسيون في المسلسلات التركية سردية محبوكة بتفاصيل حياتية يتماهى معها لأنه وبكل بساطة لا يستطيع أن يتماهى مع سرديات أخرى جربها ووقف على ضعف مردوديتها وتناقضاتها. عندما لا يشاهد التونسي البرامج السياسية فإنه بذلك قد قطع مع السياسيين ومع آدائهم ووصل منسوب الثقة فيهم إلى أدنى مستوياته. يريد التونسي أن يحلم بقصة حب ويفضل أن يكتوي بالحب على أن يكتوي بالسياسة والسياسيين ولهذا نجد المسلسل التركي المدبلج «الحب اللّى كواني» متصدرا لنسب المشاهدة التلفزية. يقدم هذا النموذج من المسلسلات صورا لوقائع يومية، تختلط فيها السعادة الفردية بالمثل والقيم الاجتماعية التي ترتكز على التضامن العائلي، وهو نموذج موجه بالأساس للفئات
الوسطى والشعبية آخذا في الاعتبار متطلباته الوجدانية والقيمية والاجتماعية. يكتشف التونسيون من خلال مشاهدتهم للمسلسلات التركية نموذجا مجتمعيا تختلط فيه القيم الدينية بالقيم الاجتماعية بقيم السوق وبالحريات الفردية. وكل هذا من خلال تفاصيل صراعات الأفراد ومشاكلهم المعقدة. ما يبتغيه التونسيون من المشاهدة التلفزية للمسلسلات التركية هو وجود نموذج مجتمعي واضح المعالم الشيء الذي ربما يفتقده في ظل غموض المناخ العام في تونس.
برامج تلفزيون الواقع هي الأخرى ذات حضور لافت. السردية التي يقدمها الحاضرون في هذا النموذج التلفزي هي سردية الخاص الذي أصبح عاما ومكشوفا. ورغم التدخل التلفزي لجعل الحبكة في أبهى حلّة فإن ما يمثل في أذهان المتفرجين هو الجرأة والصدق في التعبير عن الذات ممزوجة بطاقة عاطفية مثيرة. والصدق والجرأة هما نقاط ضعف المشهد السياسي في تونس.
في غياب مشروع مجتمعي واضح المعالم سيبقى التونسيون مشدودين لمشاريعهم الخاصة التي تتحقق أو لا تتحقق، سيبقى التونسيون مشدودين إلى حكايات تأتيهم عبر الشاشة الصغيرة لا موقع للسياسيين فيها، وهذا ما يمكن أن تكشف عنه الانتخابات القادمة من اهتمام ومشاركة إذا ما تواصل السلوك التلفزي كما قدمته معطيات المشاهدة في شهر جانفي من هذا العام.