مطلع الألفية الجديدة (فى استحضار غارق فى الماضوية البائسة لمفهوم الدولة) ثم استبدالها فيما بعد بمختصر Acronyme «داعش» كعلامة مسجلة عابرة للقارات مثيرة للفوبيا والرعب أينما حلّت وما رافق ذلك من انتشار وبائي غير مسبوق Prolifération endémique للمختصر فى أغلب متصفحات البحث والمواقع الاجتماعية والمنصات الرقمية الى حد تصدره طليعة نتائج البحث مما مهد الطريق لإنتاج وإعادة إنتاج مشهدية دموية منقطعة النظير أغرقت سوريا والعراق بالخصوص فى سيول من الدماء قد يعجز نهر «البردى» الدمشقى وحتى «دجلة والفرات» على محو آثارها.. كنا كعادتنا - نخبا وعامة - نعلن عن تبرئنا الكامل من هذا المولود المتوحش باستحضار مرهم المؤامرة الخارجية تارة أو اعتباره جسما غريبا عن موروثنا العربي الاسلامى قذفت به أحد المركبات الطائرة المجهولة OVNI على وجه الخطأ...والله أعلم !؟ ...
لسائل ان يسأل هل كان من الممكن للقوى الأجنبية أن تغذى المشروع الداعشى دون توفر بيئة محلية سوسيو ثقافية حاضنة ومهيأة لتعميد هذا المولود أم أننا فقط نتلذذ بتقمص دور الضحية على الدوام ؟ ألم يعرف تاريخنا صولات وجولات داعشية بدءا باغتيال أغلب الخلفاء الراشدين ثم اقتتال الإخوة لنيل عرش الخلافة والعمامة والإمامة مرورا بظهور فرقة «الحشاشين» الرهيبة أواخر القرن الحادي عشر ميلادي وانتهاء بنسختها المستحدثة «داعش» أو ما أميل الى تسميتها «بالحشاشين الجدد» للتقاطعات المتعددة والمدهشة التى يشتركون فيها (موضوع بحث أكاديمي بصدد الانجاز) ؟
أيضا لسائل ان يسأل ما سرّ تمسكنا الى حدّ الهوس بالماضي البعيد ؟ لماذا نمعن فى التمرد على سيرورة حركة التاريخ فى معركة دونكيشوتية خاسرة ؟ هل العقل العربي عاجز تماما على التمثّل المعرفي الاستشرافى لدينامية الماضي والحاضر والمستقبل ؟
1 - البدايات قد تكون زلاّت لسان وأفعال
ما نتفوّه به بشكل متواتر ومنتظم من رسائل لفظية يعكس أنساقا ذهنية في التفكير قائمة الذات تعبّر عن نفسها من خلال أنماط متعددة من السلوك، تبحث ممّا تبحث عن «تموقعات» داخل أو خارج فهارس التاريخ ومجالات الجغرافيا...
بعيدا عن امتهان تخصّص «تفسير الرؤى» الذي تفوّقت فيه نخبنا العربية بدرجة «مشرّف جدا»، يستوقفنا في كل لحظة وزاوية كم هائل من العبارات الرّديفة المتواترة تٌنطق بلكنات وبلهجات مختلفة، تداولها الألسن من «سوق الحميدية الدمشقي» إلى «أسواق مرّاكش» المميّزة، منها: «تعالى اجلس..ريّح.. شوفيه لسّة بكّير.. أقعد شوية.. مازال بكرى ..شفمّا ؟ شبيك مزروب؟» تدعو جميعها بشكل لافت إلى الانخراط فى كوجيتو عربي شديد التفرّد عنوانه الكبير «أنا جالس إذن أنا موجود» من شأنه – إن تمت دراسته بشكل معمّق – أن ييسّر عملية البحث عن الصندوق الأسود الحامل لأسرار إخفاقاتنا المتتالية وتسلّل «الدّواعش» الى مخادع أبنائنا بجواز مرور عربي-عربي...
ففي قلب أهمّ مختبرات «الربيع العربي» تونس، عندما تٌسأل: «وينك توا ؟» فانك ستٌجيب مخاطبك بنسبة تفوق 99 ٪ «أنا قاعد نستنّا فيك».. وان دعوته إلى جلسة ما فانّك تخاطبه على النحو التالي: «ايجا نعملو قعدة» .. وان استمتع بهذه الجلسة فانه يجيبك «ملاّ قعدة !..وان طلبت منه خدمة فانه يجيبك بطريقة الشيخ العلامة غوغل «إنشاء الله» .. وان استشرته في
موضوع دنيوي يٌقحمك في عالم المباح والمحظور.. وعندما تطالبه بالإيفاء بوعوده فانه يٌقفل في وجهك هاتفه الجوّال..سلوكيات تنتقل بسرعة الألياف البصرية من بلد عربي إلى آخر بتمظهرات فونيمية وايحائية محلية شديدة التنوع…
في حين أنه عندما يٌهاتفك أحد الأصدقاء في إحدى العواصم الغربية للقائك ، فإمّا أن يدعوك لاحتساء قهوة لانجاز عمل أو لإبرام صفقة، وإمّا إلى الاحتفال بحدث ما… أمّا في مملكة الشرق – مملكة «كونفوشيوس» بامتياز – فلا مكان «للجلوس والقعدة»، فللعمل قيمة مقدسة ترقى إلى مرتبة العبادة والدين…
عبارات تعدّدت ، اتّسعت وجابت عرضا وطولا ثنائية الوعي واللاوعي المتحكمة بنا لتؤسس لمنظومة متكاملة من السلوك اللفظي والجسدي شديدة التعقيد والتفرّد.. يسبح داخلها «اليومي» خارج حركة الزمن بحمض نووي مختلف، لازماني التكوين !…
منظومة من «السلوك اللفظي» ساهمت في ظهور أجيال من «الزعامات العربية» موميائية المنشأ والفعل فرّخت جحافل من المغول الجدد في طور استكمال دولة الموت داخلها وخارجها مفقود.. أسقطت من جميع حساباتها المشروع «الحداثى» و»ما بعد الحداثة» لاعتمادها على «السّاعة الرّملية» في زمن «العقارب الرقمية والذرية»..حنّطت العقول والذّاكرة قبل أديم الأرض..جعلتنا نتجدّد بتنفّس روائح وبخور الصراع الطائفي/العقائدي الكريهة.. أبدعت في استنساخ «واقعة الجمل وصفين وكربلاء» بإصدارات القرن الحادي والعشرين .. حوّلت الاقتصاد إلى وليمة فاخرة تداولت عليها سلالات جديدة من القوارض البشرية، تنتصب داخل قاعات أكل فسيحة، في رحابها تقرع الطبول وترفع كؤوس على نخب انتصار الجالس الخامل على المتحفز الواقف.. انتصار الاستكانة على المبادرة والإبداع!
2 - النهايات قد تكون عودة إلى الكهوف الموحشة…
في زمان ومكان غير محددين.. بعد أن أنهكتهم رحلة التّنظير والتّناحر الطائفي..استلقى فتية من صفوة القوم في أحد الكهوف الموحشة..فحدثت المعجزة الكبرى ولم يقّرّر الله إلاّ أن يلبثوا لقرون وقرون ..وعندما استفاقوا أدركوا أن قطار الزمن قد فاتهم..عاندوا التيار لعقود طويلة...
منهم من عاد مسرعا إلى الكهف طالبا من الله المنيّة.. ومنهم من ظّل طريق العودة.. وقلّة قليلة منهم أعلنت العصيان على الكهف...
بقلم: محجوب لطفى بلهادى
جامعي وباحث فى التفكير الاستراتيجي