هذا مقال للكاتبة والحقوقية البلجيكية «مانويلا كاديلّي» حول توحّش النظام الرأسمالي اليوم وحول انتقال الرأسمالية في العالم من الليبرالية التقليدية التي كانت منسجمة مع روح الديمقراطية ومع الحقوق الاجتماعية للمواطنين إلى نزعة اقتصادوية شاملة économisme radical يسيطر فيها منطق المصلحة الاقتصادية على كل شيء بما في ذلك الدولة. لقد أزاحت هذه الاقتصادوية المتطرّفة الدولة من موقعها باعتبارها سلطة راعية ومُعدّلة لتُصبح هي نفسها أداة تابعة لمنظومة الاقتصاد الليبرالي المُعَوْلَم والمُتَوَحّشِ. ولهذه الأسباب وغيرها اعتبرت «كاديلّي» أن النيوليبرالية - التسمية التي تنطبق على هذه الاقتصادوية المتطرّفة - هي بمثابة عودة للفاشية في ثوب جديد مقنّع وانه على المجتمعات أن تتصدّى لهذا التوحّش وهذه العدميّة لحماية الحقوق والمكاسب الاجتماعية والحرّيات.
أهمية هذا المقال تتأتى من كونه يكشف عن حقيقة ما يحدث في أوروبا اليوم من تجاوز المجتمع المدني للأحزاب وللدولة باعتبارها أصبحت مجرد واجهات لسيطرة النزعة الاقتصادوية الشمولية، ومطالبتها بسياسة أخرى تكون مستقلة عن الضرورة الاقتصادية ووفية للقيم الأخلاقية الإنسانية الكونية ولتاريخ المجتمعات. ويساعدنا ذلك أيضا على فهم الدعم الذي تلقاه الايديولوجيا الإسلامية في مجتمعاتنا من قبل هذه المنظومة النيوليبرالية المتوحشة والمعادية للإنسانية.
نشر المقال بتاريخ 03 - 03 - 2016 في جريدة «لوسوار» Le Soir البلجيكية. ونظرا لأهميته نقدمه هنا مرّة أخرى في ترجمة عربيّة للقارئ التونسي.
----------
لقد ولّى زمن التحفظ في الأقوال والأجدر بنا أن نسمي الأشياء بأسمائها حتى نجعل التحضير لردّ ديمقراطي (على النيوليبرالية) ممكنا، خاصة في ما يتعلّق بالقطاع العمومي.: لقد كانت الليبرالية Libéralisme مذهبا مستمدّا من فلسفة الأنوار. وهي حقيقة سياسية واقتصادية في الوقت نفسه تهدف إلى أن تُلزم الدولة باتخاذ المسافة الضرورية من أجل احترام الحريات وفسح الطريق لتجسيد الحقوق الديمقراطية. أي أن الليبرالية كانت محرّكا لبروز ولتقدم الديمقراطيات الغربية.
أما النيوليبرالية Néolibéralismeفإنها تمثل تلك النزعة الاقتصادوية الشاملة التي تهيمن على كل القطاعات في مجتمعاتنا وعلى كل لحظة من هذا الزمن المعاصر. إنها نزعة متطرفةUn extrémisme .
وللتذكير، فإنّ الفاشية تُعرّف على أنها خضوع كلّ مكوّنات الدولة إلى إيديولوجية شمولية وعدمية.
أنا أُقِرُّ إن النيوليبرالية هي ضرب من ضروب الفاشية، لأن الاقتصاد على وجه الدقة قد أخضع حكومات البلدان الديمقراطية لسلطانه، لا بل إنه هيمن على كلّ قسم من تفكيرنا. لقد أصبحت الدولة اليوم خادمة للاقتصاد والمالية اللذين يعاملانها باعتبارها تابعا ويتحكمان فيها إلى درجة تهديد المصلحة العامة. فالتقشّف الذي تقرره الأوساط المالية مثلا أصبح قيمة عليا حلّت محلّ السياسة. إن العمل بالحدّ من النفقات يلغي الاهتمام بأي هدف عمومي آخر. ولقد وصلنا إلى حدّ أصبح فيه من الممكن إدراج مبدأ “الصرامة المالية” ( L’orthodoxie budgétaire ) ضمن بنود دساتير الدول. أمّا مفهوم القطاع العام فقد أضحى مثيرا للسخرية.
لقد أدّت العدمية الناتجة عن ذلك إلى الإعراض عن المبادئ الكونية والقيم الإنسانية الأكثر بداهة: قيم التضامن، والتآخي والاندماج واحترام الاختلاف. فحتى النظرية الاقتصادية الكلاسيكية لم تعد تلائم هذه الوضعية. كان العمل في الماضي يُمثّل عنصرًا من عناصر الطلب وكان العمال بهذا المعنى يُحْظَوْنَ بالاحترام، ولكن المؤسّسة المالية العالمية حولت العمل اليوم إلى مجرد متغير تعديليVariable d’ajustement .
تشويه الحقيقة:
إن كل نزعة توتاليتارية تمثل في المقام الأول انحرافا باللغة عن مسارها dévoiement du langage. ومثلما يتجلى من خلال رواية جورج أورويل(1984) (Georges Orwell، فإن النيوليبرالية لها لغتها الجديدةNovlangue وأدوات التواصل التي تمكنها من تشويه الحقيقة. بهذا المعنى يتمّ تقديم كلّ تخفيض في الميزانية على أنه تحديث للقطاعات المعنية بذلك الإجراء. وقد أصبح ضعفاء القدرة الشرائية عاجزين عن سداد مصاريف بعض العلاجات الطبية، ويمتنعون عن الذهاب إلى طبيب الأسنان، ولا غرو فتحديث نظام الضمان الاجتماعي جارٍ على قدم وساق.
ثمّ إنّ التجريد يسيطر على الخطاب العمومي لتجنّب كشف الآثار التي تمسّ الجانب الإنساني. وبهذا الوجه، فإنه إذا تعلّق الأمر بالمهاجرين، فإنه من الضروري ألاّ يتسبب استقبالهم في طلب مزيد من الدعم الذي لا تتحمله إدارتنا المالية. وبالمثل فان بعض الأشخاص ينعتون بأنهم من ذوي الإعاقة لأنهم ينتمون إلى منظومة التضامن الاجتماعي.
تقديس التقييمLe culte de l’évaluation :
تفرض هيمنة النزعة الداروينية الاجتماعيةDarwinisme social على الجميع إملاءات صارمة لدفعهم إلى تحقيق التفوق في الآداءPerformance . فأن يضعف المرء معناه أنه قد فشل(Faiblir c’est faillir ). لقد تمّ قلب أسسنا الثقافية: حيث تتم إزاحته وازدراء كل المبادئ الإنسانية لأن النيوليبرالية تحتكر بمفردها صفتي العقلانية والواقعية. كانت «مارغريت تاتشر» قد أشارت إلى ذلك سنة 1985عندما قالت: «ليس ثمّة بديل آخرthere is no alternative» . فكل تصور آخر ليس سوى يوتوبياUtopie وجنون وتأخّر. وطالما أن التاريخ تحكمه ضرورة (صارمة)، فقد تمت شيطنة النقاشات والصراعات الفكرية.
هذه الثقافة المنحطّة تُخفي تهديدا وجوديا يميّزها: فغياب التفوق في الأداء يؤدّي إلى الاندثار حيث يكون كل شخص عرضةً للاتهام بعدم النجاعة ومجبرًا على أن يبرر كلّ أفعاله. لقد انعدمت الثقة. فلا سيادة إلا للتقييم ومعه تلك البيروقراطية التي تفرض ضبط مجموعة كبيرة من الأهداف والمؤشرات يجب السعي إلى تحقيقها والامتثال لها. وهو ما أدّى إلى خنق الإبداعCréativité والروح النقدية Esprit critique بواسطة التصرّفGestion . وبقي على كل شخص أن يحاسب نفسه على الإهدار وعلى العطالة التي يتسبب فيها.
التفريط في العدالة:
لقد أنتجت الإيديولوجية النيوليبرالية معياريةNormativité جديدة تنافس بها قوانين السلطة التشريعية. وبذلك أصبحت القوّة الديمقراطية للقانون مهدّدةً. فما يمثّله القانون والإجراءات التنفيذية من تجسيد للحريات والحقوق، وما يفرضانه من منع للتجاوزات، أصبح يشكّل الآن عائقا.
وبالمثل فان السّلطة القضائية التي بإمكانها أن تُحْرِجَ المُسيطرين يجب أن يتمّ تطويعها. مثال ذلك أن العدالة البلجيكية تعاني اليوم من نقص في التمويل. فقد كانت الأخيرة سنة 2015 في ترتيب أوروبي يشمل كل الدول الواقعة بين الأطلسي والأورال، حيث نجحت الحكومة في ظرف سنتين في تجريدها من استقلالها الذي منحه إياها الدستور خدمة لمصلحة المواطنين من اجل أن تلعب دور السلطة المضادة الذي ينتظره المواطن منها. والمخطط هو بوضوح ما يلي: أن لا تكون هناك عدالة في بلجيكا.
فئة تستأثر بنصيب الأسد:
لا تفرض الطبقة المهيمنة على نفسها الجرعة نفسها التي تفرضها على المواطنين العاديين، لأن التقشف الجيّد يبدأ بالآخرين. لقد وصف الاقتصادي «توماس بيكتي» Thomas Piketty ذلك بشكل دقيق في دراسته لأشكال العلاقة بين اللامسـاواة والرأسمـالية في القـرن الواحــد والعشريــن (Le Capital au XXI e siècle, Seuil, 2013).
رغم أزمة 2008 والشعوذات الايتيقية التي تبعتها، لم يحصل أي شيء من أجل تهذيب الأوساط المالية وإخضاعها لضرورات المصلحة العامة. من الذي دفع ثمن ذلك؟ إنهم الناس العاديون، انتم وأنا.
وبينما منحت الدولة البلجيكية هبات ضريبية قدرها 7 بلايين دولار لشركات متعددة الجنسيات على مدى عشر سنوات، وجد المتقاضي نفسه أمام ارتفاع تكاليف التقاضي (زيادة رسوم المحاكم ، والضرائب إلى 21 ٪ من رسوم المحاماة). من الآن فصاعدا، يجب على ضحايا الظلم أن يكونوا أغنياء حتى يحصلوا على إنصافهم. يحدث ذلك في دولة يفوق فيها عدد الممثلين العموميينmandataires publics كل المعايير الدولية. في هذا القطاع المتميز ليس هناك تقييم ولا دراسات للتكاليف في العلاقة بالمرابيح. مثال ذلك انه المؤسسة الإقليميةInstitution provinciale تمكنت من الصمود لأكثر من 30 سنة من النظام الفيدرالي دون أن يستطيع احد تحديد الفائدة من ذلك. ومن المناسب جدّا أن العقلنةRationalisation والعقيدة الإدارية l’idéologie gestionnaire قد توقفتا على أعتاب العالم السياسي.
المثل الأعلى الأمني:
من المرجح أن الإرهاب، هذه العدمية الأخرى التي تكشف عن ضعفنا وجبننا أمام مطلب تأكيد قيمنا، سيؤدي إلى تفاقم المشكل من خلال السماح قريباً بتبرير جميع انتهاكات الحريات والمواقف المعارضة، وبالاستغناء عن القضاة المؤهلين غير الأكفاء، والحدّ من الحماية الاجتماعية لمن هم الأكثر فقرا، تلك الحماية التي يتم التضحية بها من أجل هذا «المثل الأعلى» الأمني.
لا خلاص إلا بالنضال:
من المؤكد أن هذا السياق يمثل تهديدا لأسس ديمقراطياتنا، ولكن هل يجب أن يقودنا إلى اليأس والإحباط؟
قبل 500 سنة ، وفي ذروة الهزائم التي أسقطت معظم المقاطعات الإيطالية بفرض احتلال أجنبي عليها لأكثر من ثلاثة قرون ، حثّ “نيكولا ميكيافيل”Machiavel الرجال الشرفاء على الوقوف لمصيرهم وعلى اختيار العمل والجرأة على الحذر لمواجهة صروف الدهر.فكلما كان الوضع مأساويا، حفّز الفعلَ و رَفْضَ «الاستسلامِ» (الأمير ، الفصلان الخامس والعشرون والسادس والعشرون).
يفرض هذا الدرس نفسه على عصرنا حيث يبدو كل شيء معرضا للخطر. إن تصميم المواطنين المتشبثين بالقيم الديمقراطية الأصْليّة، يمثل منبعا عظيما لم يكشف بعد، على الأقل في بلجيكا، قدرتَه على التأثير وعلى تغيير ما يُقَدّم على أنه حتميّ. فبضل شبكات التواصل الاجتماعي وحرية الكلمة، يمكن لأي شخص الآن أن ينخرط في النضال، خاصة في صلب القطاع العمومي، وفي الجامعات مع الطلبة وفي مؤسسات القضاء والمحاماة، من أجل جعل المصلحة العامة والعدالة في صميم النقاش العمومي وفي قلب إدارة الدولة والجماعات المحلية.
فالنيوليبرالية نزعة فاشية. ولكن يجب مقاومتها وأن نعيد تركيز نزعة إنسانويّة شاملةHumanisme total .
«مانويلاّ كاديلّي»، جريدة «لو سوار» البلجيكية، 03 - 03 - 2016