و الرأي والتعبير، تتنزل مهام فرض احترام ضوابط منع التجاوزات ووقف التعدّي الّذي يطال الأشخاص جراء نشر الأخبار الزائفة و الثلب و الشتم .
تلك هي إحدى ركائز دولة القانون والمؤسسّات الّتي نصبو إلى الارتقاء إلى مقوّماتها ، وفيها لا يُستثنى أحد ، لا من الحماية ولا من التعدّي . لذلك يجب ألا تأخذ حرية التعبير ، مبرّرا لإطلاق الشائعات و نشر الأخبار الزائفة ، و الثلب والشتم و هتك أعراض الأفراد ، في أعلى هرم المسؤولية أو في أدناها ، أو في أوساط عموم الناس . كما يجب ألّا تُستغّل سهولة إستعمال وسائل التواصل الحديثة ، للإجرام في حق الناس و التعدّي عليهم سواء بهتك حياتهم الخاصّة و نشر غسيلها عبر مختلف الوسائل بدعوى الشفافية في نقل الواقع ، أو بمبرّرات رضا المعني بالأمر المجاني أو بمقابل .
نشير إلى كل هذا بعد إثارة الزوبعة في أوساط الرأي العام حول ما وقع الترويج له بخصوص ما نُسب للسيد لطفي براهم وزير الداخلية السابق ، الّذي نفاه رئيس الحكومة و نفاه السيد براهم تماما ، و لكن يبقى ما وقع تداوله في النهاية لا يسئ لاعتبار المعني فقط ، بل يتخطاه ليمس من سمعة البلاد و هيبة مؤسّساتها و ربّما من معنويات قواها الأمنية والعسكرية، الّتي تناولتها بعض الأقلام وتطاولت عليها ، لتبث نوازع التشكيك و الإستخفاف بمؤسسات النظام ، بالإعتماد على معطيات غير ثابتة شملت عدّة شخصيات ، مستغلّة هامش سهولة التواصل ويسر التسرب و هشاشة الرأي العام ، الّذي ينساق بسهولة وراء الشائعات والأخبار المروجّة دون تثبّت من مصدرها .
و الملاحظ أن هذه الهشاشة لا تنحصر في الرأي العام غير المسيـّس أو في الفئات المستعملة عرضيا لشبكات التواصل الاجتماعي ، بل شملت ناشطين دائمين في مجال التواصل الاجتماعي عبر المواقع الخاصّة أو العاملين في الحقل الإعلامي و بعض المسؤولين في الدولة و النواب ، إذ بدت متسرّعة غير متروية و مفتقرة لأدوات التحليل و التقصّي ، و ظهرت بمظهر الجاري وراء السبق أو المشكوك في نواياه، و لا شك أن ثبوت الزيف أو الثلب ، يجعل الناشر والمروج والمشاركين في ذلك عرضة للتتبعات العدلية طبق النصوص القانونية المتوفّرة و القابلة للتطبيق .
و غني عن البيان أن النقل و إعادة النشر و لو بذكر المصدر ، لا يعفي الناقل أو الناشر من المسؤولية إذا ثبت الزيف ، أو كان ما تمّت نسبته إلى أي شخص من قبيل الثلب أو أي أفعال أخرى يجرّمها القانون .
و السيد لطفي براهم ليس هو الأول -و قد لا يكون الأخير- ، الّذي تعرّض لحملة و طالته اتهامات زائفة ، فقد سبقه عدد من السياسيين و رجال الأعمال و مسؤولين في الدولة والإدارات المركزية ، كانوا محل ثلب و إتهام علني عبر شبكات التواصل الاجتماعي وعبر مختلف وسائل الإعلام،و حتى تحت قبّة باردو على لسان بعض نواب الشعب الّذين يختبئون وراء الحصانة للتصريح بما عنّ لهم دون أي ضابط ، و هو أمر يجب مراجعته و تنظيم أحكام خاصّة به ضمن النظام الدّاخلي لمجلس نواب الشعب ، لأن كنه الحصانة هو حماية المحّصن من الاعتداء عليه وليس للتشريع له للاعتداء على الغير .
و الجدير بالتذكير بأن التشريع الجاري به العمل يتيح إمكانية تقيّيد حرية التعبير بشرط أن تكون الغاية تحقيق مصلحة مشروعة تتمثل في احترام حقوق و كرامة الآخرين أو حفظ النظام العام أو حماية الدفاع و الأمن الوطني ، و ذلك بموجب نص تشريعي ، وأن تكون ضرورية ومتناسبة مع ما يلزم اتخاذه من إجراءات في مجتمع ديمقراطي ودون أن يمثل ذلك خطرا على جوهر الحق في حرية التعبير والإعلام .(الفصل الأول من المرسوم عدد 115 لسنة 2011)
إن سبق وضع هذه الإمكانية يكشف تخوّف المشرع من «التعسف» في استعمال هذا الحق ومن مخاطر الانفلات و التجاوزات ، و هو أمر يمكن تجنبه لو حرص الجميع على احترام الضوابط، وأبسطها أن يبذل الرّاغب في المساهمة في إنارة الرأي العام و ممارسة حقّه في التعبير عن حسن نيّة ، مجهود التثبت من المصدر أو التثبت في المصدر ذاته قبل اعتماد ما يريد بثه أو نشره ، وإن صعب عليه ذلك فعليه التريّث أو الامتناع عن ترويج الخبر في انتظار تبيّن ما صحّ.
و واجب التثبت من المصدر محمول على المخبر أو الناقل أو المحلّل، و هذا الأمر تقتضيه النزاهة الّتي هي قيمة أخلاقية و واجب على الإعلامي و الصحفي و على العديد من ممارسي المهن الأخرى .
و لا يقتصر التثبت من المصدر على المصدر الداخلي بل يجب التثبت من المصدر الخارجي، خاصة إذا تعلّق الأمر بشأن يهم أمن الدولة واستقرارها . فالمصادر الأجنبية ليست معصومة من الخطأ و ليست مقصاة من مهام التوظيف السياسي و المخابراتي ، الّتي يعرف الجميع تبعات ما خلفته و تخلّفه في العديد من الدّول بسبب الأكاذيب و الأراجيف الّتي تبثها و تستعملها وسيلة من وسائل التدمير المعنوي و بث الفوضى لتيسير الاختراق و تحقيق مخططاتها .
نعم لحرية التعبير و الرأي و لإعلام حر نزيه و شفّاف ، و لكن ،لا، لترك الحبل على الغارب و لا للسماح بالانفلات و الإفلات من العقاب ، و لا بد من فرض احترام الضوابط الموجودة وتنقيحها إذا لزم الأمر لتفعيلها لفرض إحترام حقوق الذوات الطبيعية و المعنوية ، كي لا تتحوّل الممارسة الخاطئة لحرية التعبير والإعلام، إلى مجال لنشر الفوضى والتسيّب أو المس من اعتبار الأشخاص والتعدّي على الحقوق.