الكائنات النصية في قصص “وطارت العصافير ” لساسي حمام

 أ- على سبيل فتح الشهية

 


ثمة قصاصون يظلون جوار الكتابة لا يكفون عن التوقف ،ويأبى أن يعرض عنها ، لأنها موقف وتضامن تاريخي، إدمان صحي ومنفذ للأحلام ، حالة إنسانية ، وشكل من أشكال الصلاة فرانز كافكا ، ومن بين هؤلاء المحاربين الذين لا يستريحون ،و لا تتوقف خطواتهم فوق أراضي القصة في تونس، نذكر على سبيل التمثيل : صالح الدمس ، أحمد ممو ، وساسي حمام الذي مازال في عزلته الذهبية بمنزل تميم ، يتنفس القصة القصيرة ، والقصيرة جدا ، ويأبى أن يشيح بنظره بعيدا عن ال-حكي ، والترجمة .
فبعد مجموعتيه القصصيتين “ لاهثون معي “ الصادرة عن الدار العربية للكتاب ، والحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1982، و”قطع الغيار” عن نفس الدار في ثلاث طبعات ، يواصل ساسي حمام مساره الإبداعي بإصدار مجموعته الثالثة عن مؤسسة بوجميل للطباعة والنشر ، اختار لها “ وطارت العصافير “ عنوانا ، تقع في صفحة 73 ، تضم بين دفتيها 35 قصة تتفاوت بين الطور والقصر ، وتتباين عناوينها بين اللفظة المفردة والجملة تساوقا مع مضمون النص ودلالته ، ويزين بعض صفحاتها من الداخل مجموعة من الرسوم للفنان التشكيلي السوري “ جليدان الجاسم “
والمقبل على قصص المدونة ، يلاحظ تنوع أحداثها التي تستمدها من اليومي المعيش والهامشي من قبيل العطالة ، العزوف عن القراءة، السرقة ، المكر والخديعة ... من خلال شخصيات تجسد مواقفها ورؤاها ، بما يناسب وضعها الاجتماعي ،ومستواها الثقافي ، وبيئتها ، والعصر الذي تنتمي إليه ، مزاوجة بين السرد والحوار في بنائها .
وعليه ، كيف تقدم مجموعة ساسي وشخصياتها ؟=
ب- مكون الشخصيات
تتنوع الشخصيات في قصص “ وطار الحمام “، جاءت بصيغة المؤنث أو المذكر “ الرجل ، المرأة ، الأطفال “ ، عارية من التسمية عدا قصة “العادة “ التي ذكرت بالاسم “ علي” ، وتطل إما عبر ضمير المتكلم أو الغائب “شعر أن الماء أطفأ حرائق اشتعلت داخله منذ مدة ... انبلجت ابتسامة على وجهه ... أخيرا ... أرجع اليوم إلى منزلي باكرا ... أنام نوما عميقا ... “ ص 9، ومجردة من الوصف والتوصيف لملامحها الشخصية الخارجية ، حيث إن المتلقي هو من يقوم بتحديد بتحديدها ، وهذا من شأنه فسح المجال للتفاعل معها ، ومن ثم تصوير نفسيتها ، وصياغة نظرتها تجاه الحياة بجوانبها كافة ، بحيث تأتي ذات ثراء دلالي ، غنية في جوانبها النفسية ، كما تجدر الإشارة إلى أن أغلب القوى الفاعلة تنتمي إلى الطبقة الدنيا والمتوسطة من المجتمع التونسي ،ذات الأصول المدينية والبدوية .
وعليه ينوع القاص محمد ساسي كائناته النصية والتي جاءت كما يلي :
- شخصيات إشكالية وتمثل نموذجا قلقا سواء على المستوى الفكري أو النفسي ، وتعاني من صراع داخلي بسبب رغبتها في تشكيل قيم بديلة في عالم قائم على الزيف ، وندرج ضمن هذه الشخصيات الشخصية المحورية في قصة “ الكنز” المولوع بالكتب “ هذه هي المكتبة .. لم أعتز في حياتي بشيء مثل اعتزازي بهذه المكتبة ، ولم أفتخر في حياتي بشيء مثل افتخاري بهذه المكتبة وما احتوته من كتب ومخطوطات ومجلات وجرائد ومجلدات وخرائط وصور... ” ص 22، لكن ريثما تتوتر علاقته بهذا الركام من محتويات مكتبته ، بسبب روائح أوراقها في “ كل مكان فزكمت الأنوف وتعالى الصيح والضجيج وكثر الصراخ في المنزل وامتلأ عطسا وسعالا ... “ ص 23، ليكن المخرج أخيرا توريط الجيران إيجابيا في القراءة بوضعها على الرصيف في صناديق، لتكون النتيجة احتجاج الجيران “ ذات صباح سمعت طرقا عنيفا ، خرجت مسرعا أستطلع الأمر .. . وجدت مجموعة من الجيران أمام المنزل .
- أرأيت ماذا فعلت بنا ؟” ص 23
وفي النهاية ، يكون “ أغلقت الباب ودخلت ... استنشقت رائحة دخان ... ذهبت إلى النافذة فرأيت سحابة من الدخان الكثيف تلف الحي .“ ص 24، مما يعني إحباطه في تحقيق قيم أصيلة في مجتمع قائم على الزيف والمكر.
- شخصية القابض في قصة “ دمعة “ ، تشخص انحدار الطبقة الوسطى ، وانخفاض مدخولهها الشهري بسبب الانكماش الاقتصادي والتراجع الاجتماعي :
“ - نفذ حليب أخير وأريد أن أشتري علبة ...
تنهد تنهيدة عميقة ، وأدخل يده في جيب ، وأخرج بعض القطع النقدية ، وقدمها لها .
- قولي لأمك أن تستعير بقية ثمن علبة الحليب من جارتنا “ ص 69
أما في قصة “ الضجيج “ ، فنتعرف على شخصية غامضة وانطوائية “ يدخل الرجل الحي ويتوجه نحو منزله بخطوات بطيئة ... لا يكلم أحدا ولا ينظر إلى أحد ولا يرد تحية ولا يهدي ابتسامة... “ ص 11، شخصية ظلت تحتفظ بخصوصيتها ، ويصعب على الجيران فهم صياحه وتكسيره لأثاث شقته “ يمر وقت قصير ويرتفع صياح الرجل ، ، وتنتشر ضجة الأواني المعدنية وهي ترمى على الجدران والصحون وهي تتحطم على الأرض “ ص 11 ، إن القاص لا يكشف عن شرخه مباشرة ، ولكن يمكن فهمه من خلال هذه التمزقات التي يعاني منها “ وتمر الأيام والشهور والسنوات ، ويكبر الأطفال ، وتهجر بعض النساء الحلقات ، ويغادر البعض الحي ، ويبقى الرجل هو نفسه لا يتغير .. وحيد يدخل إلى المنزل .. وحيد يخرج من المنزل .. لم يغير عاداته .. صياح وضجيج وأصوات متباينة .. وحدها الأسئلة تنمو وتكبر وتتكاثر ...” ص 12 ، ظلت ترافقه كل العمر ، أكبر من السارد والقارئ ، بيد أن الوصول لإجابة نهائية ، ليس مستحيلا ولا صعبا ، حين ندرك أن هذا الواقع الذي نعيشه هو واقع التشظي والتمزقات بدون شك ، وبامتياز .
ج - في التبنين الجمالي
تميز المعيار اللسني قصص وطارت العصافير” بلهغته الواضحة البعيدة عن الغموض ، والمعتمدة على الجمل السيطة القصيرة في الغالي و“ نزلت من السيارة وتوجهت نحو المقهى حيث أجد الأصدقاء الذين لم أجلس معهم من مدة طويلة “ ص 28 ، “ سقطت دمعة من عينيه ثم انهمرت الدموع فغمرت مكتبه والأوراق النقدية ، وتواصل الانهمار فأغرقت السيول المكاتب ، وانطلقت إلى خارج البنك حاملة معها في طريقها ما يعترضها “ ص69، في نفس الوقت تعج القصص بمعجم متنوع ، معجم سياسي “ المرشح “، معجم تربوي تعليمي “ السبورة ، المعلم ، التلميذ “ ، معجم عاطفي “ أحبك ، الشوق حنين “ ، معجم سينمائي “ فيلم قصير ، الفيلم الرئيسي ، ممثلات ، ومعجم إريوتيكي “ زفير ، لهاث ، عارية ، فحيح ، تأوهات “، وهذا من شأنه تكسير الرتابة لدى القارئ ، وبين هذه التقنية أو تلك يلاحظ ذلك التوظيف المكثف للعبة الصمت والكلام أو البياض والسواد ، و” من الصعب إغفال هذا الجانب أو التقليل من قيمته ، ذلك أن البياض ليس فعلا بريئا أو عملا محايدا ، أو مفروضا على النص من الخارج ، بقدر ماهو عمل واع ومظهر من مظاهر الإبداعية ولسبب لوجود النص وحياته “ علىر حد تعبير ضا بن حميد .
وبناء عليه ، تحضر نقاط الاسترسال التي رصدنا شكلين اثنين ، وهما النقاط الثلاث والأربع التي تحضر منذ القصة الأولى “ حاول الرجال الاقتراب منه للتعرف عليه ومعرفة مشاكله ... صاحوا في وجهه ... هددوه ... فاجأهم بالصمت واللامبالاة ...” ص11
فهي لم تأتي اعتباطا ، وإنما بقصدية إعطاء توكيل للمتلقي للتفاعل مع المحكي القصصي ، والبحث على المعنى التي تعمد تبييضه وإفراغه ، ومن ثم ، تسريحه للمقموع من الكلام .
على سبيل الختم
وقبل إسدال ستارة هذا التمرين على المدونة القصصية “ وطارت العصافير “ ، لن يفوتنا اعتبارها تجربة قصصية جمالية وعالية ، في هذا الزمن الناشف والبهيم ، وفي كل الأحوال القصصية يبقى ساسي حمام حارسا رائدا للحكي ، ووامضا على الدوام ، وحارقا أصابعه بنار القصة القصيرة في عزلته الذهبية ، ومن ثم ، الانتقال بالقارئ إلى نور الحكي .

بقلم: عبد الله المتقي 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115