والكراهية تقود إلى العنف، هذه هي المعادلة" -ابن رشد
تبدو رواية "كبرياء وتحامل" (Pride and Prejudice) للكاتبة الإنجليزية جين اوستن (نشرت سنة 1813) قصة حب كلاسيكية: اليزابث ، فتاة عادية، تعيش مع أربع اخوات ، وام ساذجة ، لا هم لها الا البحث عن ازواج لبناتها الخمس ،واب ساخر ومنطوي ، تقابل اليزابث ، دارسي ، الرجل الثري ،صدفة ، ليتبادلا ، في الأول ، مشاعر كراهية مقيتة واشمئزاز عميق ، فهي اعتبرته مغرورا ومتكبرا، لأنه منطوي وقليل الكلام ، وهو رأى فيها فتاة بسيطة ، سطحية وغير جذابة ...
فقط عبر لقاءات الصدفة وتواصلهما ، يكتشفان حقيقة بعضهما ، ان الرجل المتحفظ يخفي قلبا كبيرا ومروءة نادرة وعاطفة حب جيّاشة وان اليزابث ، تضمر الاحترام والعمق والرشد وراء مظهرها العادي ، وعند ذلك ، يخجل كلاهما من حكمه المسبق وتسرعه الاحمق ، ليتعلم ان "التحامل سببه الجهل " وان "الحكم المتسرع هو غباء مطلق " وان اعمال العقل والتجربة هما السبيل الوحيد للوصول الى كنه الناس والعالم ، لذلك لابد من استعمالهما في كل مظاهر الحياة ، فتجارب الحياة ضرورية لكسب التواضع وتبديد التحيزات بغاية الوصول الى معرفة حقيقة أنفسنا أولا وكذلك العالم حولنا.
"تحلّى بالشجاعة لتعرف"
واعمق من قصة الحب الجميلة ، والتصوير الدقيق للأحاسيس الداخلية والصراعات النفسية للشخصيات و كذلك الحوارات الواقعية والسلسة، تشكل رواية جين اوستن الجانب الادبي من عصر التنوير باكتشافاته المذهلة وافكاره الجريئة ، تلك الحركة الفكرية غير المسبوقة التي كانت منعرجا في تاريخ الفلسفة والثقافة ، اذ جعلت كل مظاهر الحياة (سياسة ودين وثقافة وعلوم) تخضع للعقل ، متجاوزة المعتقدات الدينية الجامدة ومحددة معرفة الحقيقة بأمرين : الملاحظة بالحواس والتجربة بالدليل ، مما ساهم في التحرر من الاساطير وتسلط رجال الدين ونير الحكم المطلق ، لتؤكد ان المعرفة لا تأتي عبر الموروث والأفكار المسبقة ، بل عبر الإرادة الحرة التي يجب ان يمتلكها كل انسان /مواطن وشغفه وسعيه الدؤوب لها، وكان شعار الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط هو الذي اختزل فكر التنوير وفلسفته، عبر عبارته الشهيرة ( التي استعارها من الشاعر الروماني هوراس) : "تحلّى بالشجاعة لتدرك المعرفة" !) Sapere aude (، لان مظاهر الكسل الفكري والتقليد والخنوع والطاعة التي سيطرت على الحياة الإنسانية لقرون هي التي منعت العقل من الانطلاق و التحرر والخروج من حالة الوصاية الدينية والسياسية.
التنوير السياسي:
لم يكن التنوير لينجح في الغرب لولا انتشار أفكار فلسفية اسست لعلاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم ، بين الشعب والسلطة ، فقد ساهمت فلسفة التنوير في استنباط الديمقراطية الليبرالية من خلال أهم ثلاثة فلاسفة ركزوا مبادئها ، فقد دافع روسو عن مبادئ المساواة والحرية والعدالة واسس لفكرة العقد الاجتماعي الذي يجب ان يرتكز على الإرادة العامة للشعب و يكون بمثابة الرابط الشرعي لوجود السلطة ، التي يجب ان تستمد شرعيتها منه ،لا من القداسة او الوراثة ، ودافع فولتير عن حرية التعبير والحقوق الفردية ، معتبرا ان العقل "هو السلاح الوحيد لمواجهة التعصب" وان " "الطريقة الوحيدة لمنع الناس من التصرف بعبثية وشر هو تنويرهم. " بينما ركز مونتسكيو على ضرورة الفصل بين السلطات، لان الفصل بين هذه السلطات الثلاث يضمن توازن الحكم و" يمنع انزلاق السلطة نحو الاستبداد وتضمن استقلال القضاء."
حدود التنوير:
"كيف يمكن لعصر العقلانية والحرية ، العصر الذي اعلن دون مواربة " ان كل الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق" ان ينجب أنظمة عنصرية واستعمارية تبرر استعباد شعوب أخرى وانتزاع خياراتها وحرمانها من حقوقها؟" كان هذا اهم نقد وُجه الى التنوير والى مسار الحداثة بعد ذلك ، ولا يقتصر الامر على أوروبا ، بل كذلك الولايات المتحدة الامريكية ، فدستورها الذي جاء بعيد الثورة على الاستعمار البريطاني (1787)كرّس اهم مبادئ التنوير في العدالة والحرية والبحث عن الرفاه ، لكنه استثنى في ماديته الأولى والرابعة العبيد والسكان الأصليين، الذين لم يتم اعتبارهم مواطنين لهم حقوق ،أصلا، وكانت نضالات الشعوب هي التي صححت هذا الاختلال ، بناء على مبادئ التنوير ذاتها، مما يعني ان هذه المبادئ ليست مرجعا ثابتا، بل سيرورة.
حين أُجهض التنوير العربي -الإسلامي:
لحظتان مهمتان كانتا ستؤسس الى تنوير عربي لكن اجهضهما الجمود الديني والسياسي ، الأولى كانت في القرن الثاني عشر مع فيلسوف قرطبة ، ابن رشد، الذي غرف من الفلسفة اليونانية وسعى الى تطويعها حتى تلائم مجتمعه وثقافته، حيث حاول التوفيق بين الشريعة والفلسفة ، متبرما من تأويلات الفقهاء الجامدة للنص ، لان الدين ، في رائه، يحث على التفلسف والحكمة واستعمال العقل ، لذلك فالنصوص الدينية يجب تقييمها من منظور عقلي ... ولان الله هو الذي وهبنا عقولا تفكر ، فلا يمكن ان يعطينا شرائعا مخالفة لها.
لكن محاكمة ابن رشد وحرق كتبه وردود فعل رجال الفقه والسياسة الغاضبة، كلها اثبتت ان الظروف الثقافية والدينية والسياسية لم تكن جاهزة لاستيعاب معرفة عقلانية.
والثانية ، وقعت في عصر الحداثة الغربية "عصارة أفكار التنوير وسيرورتها " كما قال أحد الفلاسفة، حين حاول عديد المفكرين ، من أمثال رافعة الطهطاوي وعبدالرحمان الكواكبي وخيرالدين التونسي وقاسم امين وغيرهم الثورة على التقليد والجمود والاقتراب من الأفكار الغربية، لكن كل هذه المحاولات اما اجهضت او بقيت محدودة التأثير وفي أحيانا كثيرة ،كانت قابلة للتراجع في واقع هشاشة محيطها، لتثبت ان التنوير والتحديث والنهضة ، كلها لا تتطلب اسقاطا من عالم عرف تطورا علميا وصناعيا وفكريا غير مسبوق وقطع مع كل اشكال الجمود الديني والسياسي، ولا يمكنها ان تثمر في تربة الصراعات العرقية والاحتلال الأجنبي والأنظمة الاستبدادية والأفكار الدينية المحافظة ، فالعقل العربي لازالت تحكمه أسس ثلاثة ، على حد تعبير المفكر المغربي ، عابد الجابري ، وهي العقيدة والقبيلة والغنيمة ،
لذلك فان السلطة، مهما كانت الأيديولوجيا التي تبررها (قومية ـ إسلامية -مستنيرة ـ شيوعية...)، ومهما تبنت من اشكال خطابية حداثية ،تظل مسكونة بعقلية الغنيمة ، يستمد صاحبها شرعيته من الغلبة والسطوة والنفوذ لا من القانون ،في تناقض تام مع مبادئ الدولة الحديثة ذات المؤسسات المستقلة والدستور التشاركي ، وحتى عند حدوث ثورات وسقوط أنظمة ،فان الوضع، كما نشاهد ونعيش اليوم، لا يتغيّر كثيرا ، اذ لا يكفي ان يسقط نظام سياسي ويستبدل باخر لندخل عصر التنوير والحداثة بل "لابد من اسقاط العصبية التي اعاقت تشكل الدولة الحديثة" على حد تعبير المفكر السوري ،برهان غليون ، وذلك يتطلب ثورة فكرية وثقافية قد تمتد لأجيال قادمة.