فلسطين تواجه آلة استعمارية معولمة: عن حرب لم يُهزم فيها الفلسطينيون

بقلم: محمد الصالح بن عمار

منذ نكبة عام 1948، تكبّد العرب والفلسطينيون خسائر جسيمة في معظم الحروب المباشرة،

نتيجة التفوق العسكري والإعلامي المدعوم غربياً. ومع ذلك، تُمثّل حرب أكتوبر 2023 استثناءً لافتاً، لا لانتصار ميداني حاسم، بل لأن الفلسطينيين بدأوا يكسبون معركة الرأي العام العالمي، رغم كل أدوات التشويه والدعاية التي تسعى إلى خنق صوتهم. إنها لحظة مفصلية تُثبت أن مقاومة الاحتلال اليوم تستدعي أدوات ذكية، تتجاوز منطق الرصاصة إلى فضاء الوعي والضمير.
ما يغيب عن كثيرين هو أن الصراع الفلسطيني ليس مجرد نزاع جغرافي ضيق مع الكيان الصهيوني، بل هو صدام مع منظومة استعمارية عالمية مترابطة، تمكّن إسرائيل وتغذّي بقاءها وعدوانها. القوة الإسرائيلية، التي تُسوَّق بوصفها نموذجًا للعبقرية العسكرية والتفوق التكنولوجي، ليست إلا واجهةً لكيان مدعوم بالمال والسلاح والخبرة من الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. ومن يعلم أن إسرائيل حصلت على سلاح نووي منذ أوائل الستينيات، يدرك عمق هذا التواطؤ وشدة تغلغله.
إسرائيل، في جوهرها، ليست دولةً ذات سيادة مكتفية بذاتها، بل مشروع استيطاني وظيفي ارتبط منذ نشأته بدعم غربي غير مشروط. ذلك الدعم يتجاوز الإمدادات المالية والعسكرية، ليشمل تعاوناً استخبارياً ولوجستياً، وتدريباً عسكرياً متقدماً، واستشارات استراتيجية دقيقة في إدارة العمليات الميدانية، وفي هندسة الرواية التي تُظهِرها ككيان بارع ومتفوق، بينما تُخفي جرائمه خلف خطاب القوة الذكية. ومنذ اندلاع الحرب الأخيرة، شهد العالم تدفّقاً مستمراً للأسلحة والطائرات والدعم الاستخباراتي من العواصم الغربية إلى تل أبيب، مما أمدّ آلة القتل الإسرائيلية بزخم إضافي للاستمرار في مجازرها بغزة.
ولا تمثّل إسرائيل مجرد "حليف" للغرب، بل هي في لُبّ مشروعه للسيطرة على الشرق الأوسط. إنها رأس جسر استعماري متقدم في قلب المنطقة، تُوكل إليه مهمات الضبط والردع ومنع نشوء أي مشروع تحرري عربي حقيقي. إنها ليست كيانًا سياسيًا قائمًا بذاته، بل وظيفة استراتيجية تُمنح امتيازات لا تُمنح لغيرها، وتُعفى من المحاسبة والعقاب.
وراء كل هذا الدعم المادي، تكمُن عقيدة أشدّ خطرًا: الصهيونية المسيحية. وهو تيار ديني سياسي يميني متطرف، متجذر في المجتمعات الغربية، لا سيما في الولايات المتحدة، يحمل كراهية تاريخية للعرب والمسلمين، ويؤمن بأن قيام إسرائيل وتفوقها جزء من نبوءات دينية لا تكتمل إلا بإخضاع "الأرض المقدسة" لسلطة "شعب الله المختار". لهذا التيار تأثير مباشر على السياسات الغربية، بحيث يُحوّل أي انتقاد لإسرائيل إلى جريمة "خروج عن الصف"، يُعاقب عليها بالتشهير والعزل والطرد من الفضاء العام.
هكذا تتشابك العقائد الدينية بالمصالح العسكرية والاقتصادية، لتجعل من إسرائيل كياناً فوق المحاسبة، بل كياناً يُكافأ على جرائمه. وفي كل مرة يُتهم فيها الفلسطيني بـ"الإرهاب"، تُغضّ الأبصار عن حقيقة أن الضحية تُواجِه ترسانةً من القنابل الذكية، والطائرات المسيّرة، وأنظمة التجسس، والتقنيات السيبرانية المتطورة، التي تُصنَع في مصانع واشنطن وباريس وبرلين.
لقد خسر الفلسطينيون والعرب معظم المواجهات العسكرية منذ 1948، لكن حرب غزة التي اندلعت في أكتوبر 2023 جاءت مختلفة. ليس لأنها بدّلت موازين القوى ميدانياً، بل لأنها زعزعت سردية الاحتلال في وسائل الإعلام العالمية، رغم انحياز معظمها لصالحه. استطاعت صور المجازر، وصوت الأمهات الثكالى، وصمود المدنيين العُزّل، أن تهز ضمائر الملايين، وأن تُعيد طرح الأسئلة المحرّمة حول طبيعة إسرائيل، وأن تُخرج جماهير غفيرة من جاكرتا إلى نيويورك، في مشهد لم يشهده العالم منذ عقود.
إنها لحظة فارقة في مسار النكبة، حيث باتت الكاميرا، ومنصات التواصل، وحرارة الوجدان الإنساني، أدوات مقاومة لا تقل تأثيراً عن الرصاص. أدوات قادرة على فضح الزيف، وتفكيك الأكاذيب، وخلخلة الصمت الممنهج الذي يطوّق الجرائم الصهيونية.
وعندما يكون العدو بهذا القدر من التفوق، يصبح من العبث مواجهته بأدواته. فالمعادلة غير متكافئة، والميزان مائل منذ البدء. وهنا تظهر الحاجة إلى عقل مقاوم، يُبدع في أدوات النضال، دون التخلي عن شرعية المقاومة المسلحة التي يكفلها القانون الدولي.
في مواجهة عدو يمتلك أقمارًا صناعية وقنابل ذكية ومراكز أبحاث متقدمة، تصبح معركة الوعي ساحة حقيقية للمواجهة. الكلمة الصادقة، الصورة الدقيقة، التوثيق المهني للجرائم، كشف النفاق الغربي، حشد الرأي العام العالمي، وتجنيد المنصات الرقمية الكبرى… كلّها أشكال مقاومة فاعلة، لا تحتاج إلى بندقية، لكنها قادرة على نسف سرديات ترسّخت لعقود.
كما أن بناء مشروع وطني مقاوم، راسخ سياسيًا وأخلاقيًا، أولى من الاستغراق في الانقسامات الداخلية التي تُضعف الجبهة الفلسطينية. فالمعركة لم تعد فقط في الميدان، بل في ساحة المعنى، في من يملك رواية تقنع العالم.
نحن اليوم بحاجة إلى مقاومة ذكية، متعددة الأبعاد، لا تُختزل في البندقية. مقاومة تُفكّك خطاب الاحتلال، وتُعرّي المتواطئين معه، وتبني جسور تضامن مع شعوب الجنوب وكل من يرفض منطق الهيمنة والعنصرية. قد يمتلك العدو أعتى الأسلحة، لكننا نمتلك الحق، والحق حين يسكن عقلًا واعيًا، ولسانًا ناطقًا، وضميرًا حيًا، قادرٌ على كسر آلة الاستعمار مهما بلغت من القوّة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115