أنّ تمكن العراق من دحر تنظيم «داعش» الارهابي كان له اثر كبير على المشهد الامني والسياسي الداخلي ، وأيضا على صعيد علاقاته الاقليمية والدولية. وأضاف ان ثقل العراق على المستوى الإقليمي زاد بعد أن نأى بنفسه عن سياسة المحاور واعتمد سياسة يغلب عليها الطابع الوطني .
وأشار ثائر عبطان حسين الى انّ اجراء الانتخابات المقبلة في شهر ماي القادم سيكون تحدّ جديد امام العراقيين .
لو تقدمون لنا قراءتكم للمشهد العراقي الراهن بعد طرد «داعش» الارهابي ، هل يمكن القول ان العراق يسير نحو استعادة توازنه على الصعيد الداخلي ؟
كان الحدث الأبرز الذي رافق هزيمة «داعش» الارهابي على أيدي القوات العراقية وترك أثره الفاعل في الشأن الداخلي هو الاستفتاء حول انفصال إقليم كردستان الذي أصرّ عليه زعيم الإقليم مسعود بارزاني بتأييد إسرائيلي يتيم ومعارضة عراقية، تركية، إيرانية، وحتى دولية، وكان لهذا الحدث، السبب الرئيس في تحسن العلاقات العراقية - التركية التي شهدت تقلبات بين مدٍ وجزر وصلت حد الإنذار الوشيك بحصول مواجهات عسكرية بين البلدين .
هذا الحدث الكبير (الاستفتاء) وبإدارة بارعة من رئيس الوزراء حيدر العبادي ، تمكنت الحكومة الفدرالية من خلاله ، انتزاع مكاسب عظيمة وثروات ضخمة كانت قد تنازلت عنها قسرا حكومات سابقة بسبب صفقات يشوبها الفساد في توزيع الثروة والسيادة بين تلك الحكومات والأحزاب الكردية حينها.
فقد كانت محافظة كركوك، وهي أقدم وأغنى منطقة نفطية في العالم ، فعليا تحت سيطرة الحزبين الكرديين الرئيسيين الاتحاد الوطني بزعامة جلال طالباني والديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني رغم كونها خارج نطاق الإقليم الكردي ، وتخضع لإدارة وسلطة الحكومة الفيدرالية في بغداد رسميا وبموجب الدستور .
وبهذا، وبعد مشاورات شاقة وطويلة تمكن العبادي من استعادة مليارات الدولارات المتأتية من بيع نفط كركوك الذي كانت آباره ومصافيه تحت هيمنة الحزبين الكرديين ، علاوة على ثروات ضخمة أخرى تتمثل في واردات المنافذ الحدودية مع كل من تركيا وسوريا وإيران ، اضافة الى عائدات المطارات المنتشرة في اقليم كردستان وموارد وطنية اخرى عديدة يصعب حصرها الان، مما عزز السلطة الفيدرالية العراقية عسكريا وماليا ، وساعد في ذلك الموقف الداعم والحاسم لكل من ايران وتركيا لبسط حكومة بغداد هيمنتها على مدينة كركوك وسيادة اقليم كردستان، وصلت حد تهديد تركيا باجتياح الإقليم عسكريا (كما تفعل الان في مدينتي عفرين ومنبج)، ومع تعافي أسعار البترول عالميا، وتراجع الإنفاق العسكري أثر انتهاء
العمليات العسكرية الكبرى مع «داعش» الارهابي، تمكنت الحكومة من اتخاذ خطوات هامة ولأول مرة من كسب ود العديد من الدول التي كانت تصنّف كدول مُعادية بحساب الحكومات السابقة، وفتح سفارات لها في بغداد كالمملكة العربية السعودية وقطر ومصر مما ساهم في ارساء الأمن وتراجع حالات العنف والتفجير في بغداد، وبشكلٍ ملحوظ.وكل ذلك يعود فضله الى السياسة الهادئة وغير المنحازة والنائية عن الدخول في المحاور الإقليمية والدولية المتضاربة .
كيف سيكون تأثير الانتخابات المقبلة على مستقبل المشهد العراقي؟
الشغل الشاغل في العراق الْيَوْمَ، هو التحضير المحموم للانتخابات القادمة التي ستجري في مطلع ماي القادم، وما يميّز هذه لانتخابات عن سابقاتها، أمور هامة وعديدة أبرزها دخول ممثلي وقادة الحشد الشعبي (القوة الرديفة الأكبر على الأرض للجيش العراقي والمدعومة عسكريا وماليا من إيران) والمخاوف هنا تكمن في استغلال الحشد الشعبي لنفوذه الكبير على الأرض في التأثير على سير الإنتخابات. الأمر الآخر هو تشتت الأحزاب الكردية وفك عروة تحالفها الذي وصل حد التخوين ، واتجاه أطراف وشخصيات كردية للتحالف مع مكونات شيعية ، مما ينذر بخسارة الاكراد للكثير من النفوذ والسلطة عقب الانتخابات.
الأمر الثالث والهام أيضا، هو الانقسام الكبير في المكون السياسي السني وتشرذمه ، وذلك يعود بالأساس لسبب تعرض أغلب مدنه الواقعة غرب العراق كالأنبار والموصل وصلاح الدين الى دمار شامل بسبب احتلال داعش لهذه المدن ، وبالتالي نزوح الملايين من مواطنيه الى مخيمات بائسة وظروف قاسية جدا ، ولحد الان ، دون ان يقدم الممثلون الذين انتخبهم الشارع السني أي شيء سوى الوعود الكاذبة وسرقة الملايين من الدولارات المخصصة لتأمين عودتهم لمنازلهم وإعمار مدنهم.
الشأن المهم والأخير الذي يميز الانتخابات القادمة في رأينا الشخصي ، وبحسب المتابعة اليومية لشبكات التواصل الإجتماعي، هو العزوف الكبير المُرتقب والمحتمل للمواطنين عن المشاركة في الإنتخابات، ويعود ذلك الى أسباب أساسية عديدة وأهمها ؛ الفساد الحزبي والحكومي الذي لم يتراجع قيد أُنملة ، بل العكس أخذ في الإستشراء الوقح والمعبر عن الإستهانة بالمواطن وحرمة البلاد، وتقع الأحزاب الدينية الحاكمة في السلطة في مقدمة الجهات التي ترعى الفساد دون خجلٍ او استحياء.
السبب الآخر والهام الذي يدفع المواطن الى عدم المشاركة في الانتخابات هو التردي الكبير للخدمات رغم هدر مليارات الدولارات التي يمكن لها ان تبني مدنا حديثة ومتطورة ، فلا زالت بغداد وهي العاصمة ويقطنها اكثر من عشرة ملايين نسمة ، لا زالت تعاني من انقطاع يومي للكهرباء ولساعات طويلة ، علاوة على تهالك شبكات الصرف الصحي، وسوء حال المستشفيات العامة والمدارس وانتشار المزابل وسط الشوارع وقرب المباني الحكومية الهامة وعدم وجود فرص عمل للملايين من العراقيين بمن فيهم اصحاب الشهادات ، وعدم وجود صناعات وطنية والترهل في الأنفاق الحكومي .
هل يمكن القول ان العراق يسير نحو استعادة توازنه، ام ان الفساد الذي لازال يستشري في مؤسساته يحول دون ذلك؟
نعم ، وبكل تأكيد العراق يسير نحو التوازن، حيث تمكن العراق خلال السنتين الماضيتين من تحرير كامل مدنه المحتلّة سابقا من «داعش» الارهابي، وتمكن أيضا من السيطرة على اغلب حدودهِ مع دول الجوار وأعاد فتح المعابر الحدودية في عرعر مع السعودية، وطريبيل مع الاْردن والرطبة مع سوريا، وتنامت علاقاته مع اهم دول الجوار، لا سيما السعودية وتركيا وزاد ثقله على المستوى الإقليمي بعد نأى بنفسه عن سياسة المحاور واعتمد سياسة يغلب عليها الطابع الوطني وعرض امكاناته حتى في التوسط بين دول إقليمية متنازعة ، وهذا ما لم يكن يمتلكه قبل عامين من الان .
كيف تؤثر دول الجوار على المشهد السياسي والأمني في العراق؟
تأثر المشهد السياسي في العراق على مدى عقود من الزمن بتدخلات دول الجوار ، وكان ذلك تبعا للسياسة التي ترسمها هَذِهِ الحكومة او تلك، ولا يمكن لنا أن ننفي هذه التدخلات وتأثيرها في يوم من الأيام ، لكن حجم هَذِهِ التدخلات وخطورتها هو رهين سياسة الحكومة القائمة ، وقد لاحظنا التبدل الكبير في شكل التدخلات الإقليمية بعد ترؤس العبادي للحكومة القائمة الْيَوْمَ وهو يحاول ان يمسك العصا من الوسط ما بين ايران والسعودية من جهة وما بين ايران والولايات المتحدة من جهة اخري ، ليستفيد من التنافس المحموم بين هَذِهِ الأطراف ، ليسخرها الى تنافس في المشاريع والاستثمار ومد يد العون .
لكن ، دول الجوار لم ، ولن تتوقف عن دعم مؤيديها في الداخل العراقي، فمن الثابت أن تقوم ايران بدعم الأحزاب الشيعية التي تنتهج خط الثورة الاسلامية المتمثل بولاية الفقيه، والقوى الموالية لإيران تكاد تكون هي الأكبر في العراق بسبب تسليحها العسكري المتطور، وانضباطها، وهي التي واجهت «داعش» الارهابي ومنعت سقوط بغداد وحررت اغلب المدن العراقية في الانبار وصلاح الدين وكركوك، علما ان العديد من قادة الفصائل الشيعية المسلحة، يحملون الجنسية الإيرانية ولا يترددون في الإفصاح عن ذلك امام وسائل الاعلام .
من الطرف الآخر فإن السعودية والإمارات لم تتوقف يوما عن دعم الأحزاب السنية بالمال والسلاح عبر الاْردن ،وكذلك تقديم الدعم اللوجستي لهذه القوى من خلال تسهيل إقامة المؤتمرات التشاورية والسياسية على أراضيها وفِي مدنها وتقوم بتحمّل كافة المصاريف والأموال التي تتطلبها تلك المؤتمرات .
وتحاول السعودية بسياسة ولي عهدها محمد بن سلمان الجديدة من التقارب اكثر فأكثر مع العراق لتعزيز دورها هذا وعدم ترك الساحة خالية الى ايران فقط بنصيحة من الرئيس الامريكي ترامب كما نعلم .
ماذا عن الدور التركي في العراق والمنطقة ؟
تركيا دولة قوية وعظيمة من الناحية العسكرية والاقتصادية وكذلك الجيوسياسية قياسا لدول المنطقة الاخرى عدا ايران ، والإدارة الامريكية الحالية بزعامة ترامب لم تعي قط ماذا يشكل قيام دولة كردية في خاصرتها الهشة من مخاطر على أمن وكيان الدولة التركية الصاعدة في اقتصادها الى مجموعة الدول العشرين ، وتركيا لها الاستعداد والإصرار لمقاتلة العالم اجمع من اجل الإطاحة بمشروع الدولة الكردية لوجود أكثر من عشرين مليون كردي يقطنون أهم المناطق التي تقع فيها سدود تركيا العملاقة ومصادر طاقتها .
وباختصار شديد فإن موقف تركيا من الدول المجاورة والبعيدة يعتمد كليا على موقف هذه الدول من الأكراد وهذا هو سبب طلاق الزواج الكاثوليكي مع أمريكا التي فشلت من الحصول على موطئ قدم لها في العراق، ومن ثم محاولة ذلك على الاراضي السورية ودعمها للوحدات الكردية ومدها بالسلاح الثقيل ، والذي اثار حفيظة تركيا ودفعها لاجتياح عفرين والتوجه الى منبج بدعم روسي وإيراني مستتر ، وعجز أمريكي واضح .
وبالتالي، فإن القضية الكردية، هي نفسها التي دفعت تركيا لتمتين علاقتها وبشكل غير مألوف لقرون مضت ، مع ايران وروسيا ، والتي وصلت حد إقامة ورشة حرب حوت رؤساء اركان حرب كل من تركيا وروسيا وإيران ، وهذا ما لم تستوعبه الادارة الامريكية التي تتخبط في مطبات جعلها تتخلى عن اسلحتها ومعداتها وسمعتها بمجرد دخول اول كتيبة تركية مدرعة ، لتترك حلفائها من وحدات الحماية التركية في مهب الريح السورية وعصف النيران التركية .