من مستوى المديونية العمومية إلى حدّ قد يهدد القدرة على السداد نكون قد وصّفنا واقعا لا يختلف فيه اثنان ولكن الانتقال من هذا الوصف إلى التلميح بتحويل وجهة هذه الديون ولو بصفة جزئية نكون هنا قد ألقينا التهم جزافا وساهمنا في مغالطة الرأي العام إذ أن كل القروض التي جاءت لدعم الميزانية قد دخلت لخزينة الدولة، لا بعد الثورة فقط ولكن حتى قبلها أيضا ..
أين ذهبت إذن عشرات مليارات الدنانير التي اقترضناها في هذه السنين الأخيرة ؟
الجواب سهل : لقد ذهب جلّها لتسديد نفقات الدولة المتفاقمة خلال هذه العشرية حيث تضاعفت كل النفقات حوالي ثلاث مرات أو تزيد من حجم الميزانية إلى كتلة الأجور ..كل هذا في ظل نمو هش (%1.5 خلال كامل هذه العشرية ودون احتساب التراجع الضخم لسنة 2020) أما خدمة الدين فقد تضاعفت أكثر من أربع مرّات .
بعبارات أخرى بلادنا تنفق أكثر بكثير ممّا تنتج وهي تعوض هذا الفارق بالتداين..
من المسؤول ؟ الحكومات المتعاقبة ولاشك وكذلك المطلبيات الاجتماعية الضاغطة وتراجع الإنتاج لأهم ثروات البلد من فسفاط وغاز ونفط..
إن عدم الإقرار بهذه الحقائق البسيطة وإرادة الإيهام بأن ثروات البلد قد نهبت أو أن التهرب الضريبي – وهو موجود – هو وحده المتسبب في هذا الوضع نكون بهذا قد منعنا أنفسنا من التشخيص السليم وبالتالي من إيجاد الحلول الملائمة ..
اليوم هنالك حديث مجددا عن «الديون الكريهة» لتونس من جهة وعن مسؤولية البنك المركزي الذي يرفض إقراض الدولة مباشرة .
الديون الكريهة الوحيدة الممكنة هي تلك التي اقترضناها زمن بن علي، أما بعد ذلك فلا يمكننا البتة إقحامها في هذه الخانة مهما كان سوء تصرف الحكومات فيها ..
نعلم جميعا أن ديون تونس الداخلية والخارجية كانت في حدود 25 مليار دينار سنة 2010 وكانت تمثل آنذاك %41 من الناتج المحلي الإجمالي .نحن إذن بعيدون كل البعد عن المستويات الحالية للتداين اذ سيقدر في موفى هذه السنة بحوالي 111 مليار دينار وبنسبة من الناتج بـ%92.
أما الانتقادات التي توجه إلى البنك المركزي خاصة من الحزام السياسي فتهدف ،في النهاية،إلى محاولة إقناع البنك المركزي بضخ سيولة في ميزانية الدولة دون أن تكون موازية لخلق ثروة فعلية أي تشغيل آلة طباعة النقد مع ما ينجر عن ذلك من تضخم مريع ومن تراجع حاد إضافي لقدرة شرائية متهرئة لدى اغلب فئات المجتمع ..
جدية بلاد تقاس بجدية نخبتها حكما ومعارضة في التشخيص أولا وفي الحلول ثانيا،أما تكرار وصفات ممجوجة علاوة على عدم صحتها فيعقّد الأزمة لأنه يوحي بان الحلول سهلة وانه يكفي أن «نريد» ليتحقق كل ما نريد والحال انه ينبغي علينا جميعا أن ننكب على العمل وان نشغل كل محركات الإنتاج بأقصى سرعة ممكنة وان نتجنب الشعارات الشعبوية التي لا ولن تثمر لا شغل ولا ثورة ولا عدالة ..
الكسل الفكري هو الخطر الأكبر الذي يتهددنا اليوم .
لمواجهة الأزمة المالية للدولة: تجنّب الكسل الفكري
- بقلم زياد كريشان
- 09:26 03/06/2021
- 1375 عدد المشاهدات
عندما نقول أن السياسات العمومية لمختلف الحكومات المتعاقبة بعد الثورة هي التي فاقمت أزمة المالية العمومية ورفّعت