راشد الغنوشي بأغلبية هشة ، ثم اختارت الحبيب الجملي مرشحها لرئاسة الحكومة. هكذا اتبعت قيادات النهضة مسارين لهدف واحد، وهو مسك آليات الهيمنة للسنوات الخمس المقبلة، ما لم تحصل مفاجأة عند التصويت على نيل الحكومة لثقة أعضاء البرلمان .
و في هذا الإطار صرّح رئيس الحكومة المكلف أنه سينطلق في التشاور مع كل الأطراف الّتي تقبل الإنضمام لتشكيلة الحكومة بغية اختيار الكفاءات . و لكن سيكون الاختيار مرتبطا بقبول البرنامج الّذي وضعه مجلس شورى حركة النهضة الّذي سيكون المرجع الأساسي في اقرار كل السياسيات الّتي سيقع تطبيقها ، بحيث لن يكون مرجع السلطة باردو ، أو القصبة، وإنّما مجلس شورى منبليزير .
إن الرجوع إلى مرجعية مجلس الشورى، تبدو خطوة حاسمة ، قطعت مع المنهجية الّتي توخاها حزب نداء تونس سابقا ، لتمسك الحركة بمقود السياسة مسبقا و بصورة معلنة ثم تُفاوض وتُقايض و تتشاور على أساس ما قرّرته ، ليصبح من يشاركها مذعنا لها و ليس شريكا لها .
ذهبت حركة النهضة في هذا الاتجاه بعد أن توهمت و أوْهمت بأنها الحزب الأقوى في تونس استنادا إلى المركز الأول الّذي حازته في الانتخابات التشريعية بأغلبية متدنية ومتقهقرة، و بعد أن عزمت على أن تكون الحكومة المقبلة هي «الانعطافة التاريخية» كما جاء ذلك على لسان أحد قيادييها نورالدين البحيري.
هكذا قلبت حركة النهضة قاعدة التفاوض والتشاور بفرض إرادة الأقوى في تصوّرها، رافعة راية التحدّي بالمغامرة باستعمال خطاب المستقوي دون اعتبار لإرادة بقية الأطراف الّتي تدعوها إلى المشاركة في مسارها الجديد.
و لكن يبدو أن خطاب التحدّي ، الّذي أخاف حزب قلب تونس الّذي فشل في تمرير فكرة تلازم المسارين البرلماني والحكومي ، بدعوى ضمان التوازن السياسي واستبعاد كل أشكال الهيمنة والتغول ، لا يؤدي بالضرورة إلى ترهيب الأطراف المؤثرة على نسج الأغلبية البرلمانية ، و نقصد بها أحزاب التيار الديمقراطي و حركة الشعب وتحيا تونس والحزب الدستوري الحر.
لغة التحدّي هذه ، تتنافر مع دعوة التجميع أو التشاركية في ممارسة السلطة ، و تدفع نحو تضييق المسار ، ولذلك يمكن القول بأن حركة النهضة تخاطر بمستقبلها العاجل و الآجل ، بل أن استقواء مجلس شورى حركة النهضة ، الّذي يريد أن يستوعب الخلافات الداخلية للحركة ، على حساب نفوذ زعيمها راشد الغنوشي، قد تؤدي إلى الانفلات .
فلا تخفى على المتابعين، الصراعات داخل حركة النهضة و هي صراعات تؤشّر على دخول غمار معركة الخلافة ، الّتي دفعت «بتوريط» زعيم النهضة، الّذي سبق أن قلنا أن تقلّده لموقع في الصدارة سيكون بمثابة التخلّي عن دور «المرشد» ووضع نفسه موضع النقد و المحاسبة المباشرة ، الّتي لا يمكن ان تكون مريحة له في كل الحالات و هو ما سيسهل استبعاده من طرف معارضيه.
هذه الصراعات أدّت إلى تعدّد الخُطب إلى درجة التضارب و التناقض فيما بينها و«الكذب» و قد برّر الغنوشي ذلك بمقولة أن «الأغبياء فقط لا يغيرون آراءهم»، كما أدت إلى صدور تصريحات نارية لقياديين ضد آخرين و إستبعاد بعضهم من بعض المراكز والقيام بترتيبات للترضية أو التهدئة ، في انتظار مجريات الحسم في المؤتمر القادم .
و لا يستبعد أن تحتدّ الخلافات عند التشاور حول تشكيل الحكومة سواء قي صفوف النهضة أو في صفوف حزب «قلب تونس». وأحدث «انصياع « هذا الأخير،لإملاءات حركة النهضة ، تململا في صفوف الحزب، واستهجانا لدى الرأي العام ، و تبرّما من قبل الناخبين الّذي صوتوا له على أساس خطابه المعلن بعدم التحالف مع النهضة ، وكذلك عند سماعهم للردود على الانتقادات وعلى الخطاب المزدوج، الّذي بلغ إلى حد تصريح حاتم المليكي بأنه سيكفّر عن نقض قسمه بعدم التحالف مع النهضة ، بستين صحنا من المقرونة (هكذا !!)، في إشارة إلى إطعام ستين مسكينا.
فخطاب الإستقواء دون توفّر رصيد حقيقي للقوّة، و فصل المسارين البرلماني والحكومي بغاية التدرج نحو التفرد بالسلطة، و ضعف التفكير السياسي، و المقاربات السياسية المختلفة قولا ، لمجابهة تحديات مستقبل تونس، تنبىء بأن مرحلة التشاور حول تشكيل الحكومة الجديدة لن تكون سهلة.
حسب المعطيات المتوفّرة ،فإن رئيس الحكومة المكلف،لا يملك إمكانية إدارة المرحلة الصعبة القادمة ، بسبب عدم امتلاكه للتجربة وللمؤهلات الكافية، بدليل إلتزامه الصريح بالولاء لقرارات مجلس الشورى، وعدم صحة قوله بأنه مستقل عن كل الأحزاب بدليل أنه تمّ اختياره بقرار منفرد من مجلس الشورى عبر الاقتراع السري .
لذلك ليس من السهل أن تصطف كل التشكيلات الحزبية وراء مجلس الشورى، وهو ما يبرر القول بصعوبة مخرجات المرحلة المقبلة ما لم تتغير كل المواقف المعلنة ، أسوة بمقولة «الأغبياء فقط لا يغيرون آراءهم».