و لا دولة عادلة بدون مؤسسة قضاء مستعجل شاملة و ناجعة ، لأنه بدون ذلك لا ضمان للحريات الأساسية ،العامة والفردية و لا حماية للحقوق . والإقتصار على مؤسسة القضاء المستعجل التقليدية وعلى النسق البطيء في اتخاذ الوسائل الوقتية و المتأكدة ،لا تستجيب لمتطلبات عدالة ناجزة و ناجعة و سريعة في عصر السرعة الّذي يتطلع فيه المواطن لحماية فعلية لحقوقه وحريته .
سيفاجأ الحقوقيون بالحديث عن قضاء مستعجل في المادة الجزائية ، رغم أنهم على بيّنة من أنه لا وجود في نظام إجراءاتنا الجزائية لمؤسّسة قضائية مهيكلة تنظر و تبتّ بصفة عاجلة قي كل ما يتعلّق بالحريات و إنما توجد نصوص قانونية متفرّقة موزّعة على عدّة مؤسسات ، تضطلع بمهام تتصل بحرية الأفراد مثل النيابة العمومية ومؤسسة قاضي التحقيق و دوائر الاتهام والدوائر الجزائية مرورا بحلقة تنسيق وتنفيذ متمثلة في الضابطة العدلية ومساعدي القضاء وفي مقدّمتهم كتبة المحاكم.
وغني عن التذكير ، أنه كلّما اتسعت حلقة ألمتدخلين قابلها تشعب في الإجراءات وتعدُّدٌ للمسارب الملتوية الّتي تتعطّل فيها المصالح ويضيع في متاهاتها الهدف ، لذلك جزمتُ منذ البداية بأن الإجراء العاجل لا جدوى منه إذا لم يحقق الهدف المقصود من وضعه في أسرع وقت ممكن ، خاصة إذا تعلّق الامر بحرية الأفراد.
وهنا لا أعني اجتهاد القاضي في تطبيق القانون ،و إنما أعني الإجراءات القانونية الّتي يجب تشريعها بدقّة لحماية حرية و حقوق الافراد من أي تجاوز أو تهاون و ترتيب آثار مباشرة على عدم تطبيق أي إجراء. فاستئناف إصدار بطاقة إيداع مثلا ،يجب أن يقع البت فيه في أجل قصير لدى التحقيق و دائرة الاتهام وعدم القيام بذلك في ذلك الأجل ،يجب أن يفضي إلى الإفراج الآلي عن المظنون فيه من سجن الإيقاف . فلا يكفي أن نضع نصّا عامّا يقضي ببطلان الإجراءات عند مخالفة الإجراء ونترك المظنون فيه مجبرا على اتباع حلقة غير محدّدة المعالم لضمان حقوقه. وفي هذا النطاق يمكن أن نفعّل دور قاضي تنفيذ العقوبات ونمنحه مهمّة الرقابة أو أي مؤسّسة قضائية أخرى تراقب الآجال و تصُدر أذونا بالإفراج آليا عند حلول الآجال.
كما أن الطعن في الحكم الجناحي أو الجنائي من الّذي سبق إيقافه، يجب النظر فيه في أجل محدّد وإلا أفرج عنه آليا بعد إنقضاء ذلك الأجل و يتواصل تتبعه في كل الاحوال و هو في حالة سراح. و نقول هذا ،لأنه لا يعقل أن تعين جلسة إستئناف الحكم الصادر على موقوف بعد انقضاء مدّة العقوبة أو تجاوز ربعها أو ثلثها أو نصفها . كما لا يعقل أن يقع رفض مطلب الإفراج عن الموقوف و يبقى الملف لدى التحقيق أو لدى دائرة الإتهام دون الإحالة على المجلس المختص في أجل قصير يكون وجوبيا أيضا و آثر الإخلال به هو الإفراج .
ويمكن أن تبيّن في هذا المجال خطر النصوص الفضفاضة والمتسرّعة ما نشهده في مجال العدالة الإنتقالية ، الّتي بقيت ملفات المشمولين بها مفتوحة رغم انتهاء مهام هيئة الحقيقة والكرامة و رميت الكرة لدى الدّوائر المختصّة بعد إنقضاء مدّة العدالة الإنتقالية، و تُرك المحالون رهن حرية مشروطة و في حالة ترقب مهينة و محبطة، ومستهدفين لتدابير المنع من السفر لأجل غير مُسمى، وهو أمر أقل ما يقال فيه انه غير عادي وغير عادل، وذلك بسبب عدم وجود نص صريح يرتب أثرا آليا وعاجلا، وهو يجعل المشمولين بهذا المسار في انتظار إجتهاد قضاة يتّخذ ون موقفا حاسما وجريئا برفض اجراءات التتبع و ذلك بصفة عاجلة
فحرية الفرد مهما كان هذا الفرد، مقدسة في منظور القانون و القضاء و معايير المحاكمة العادلة ،و حقوق الإنسان ،لذلك يجب أن تكون محكومة بإجراءات دقيقة و سريعة و نافذة.
كذلك الأمر بخصوص حماية الحقوق في بقية فروع القضاء ، إذ لا يعقل مثلا أن يطول التقاضي الإداري في مادة التعويض أكثر من عشر سنوات و أن يتم الفصل في بقية النزاعات بسنوات، دون اتخاذ قرار وقتي عاجل مثل إقرار تعويضات وقتية، ثم التقيّد بآجال لفصل القضية و ترتيب نتائج على تجاوز الآجال أو خرق الإجراءات .
يتطلب هذا قبل كل شيء تشبّع المشرعين بقيم الحق والعدالة و الحرية و الإنصاف، ومؤسّسة قضائية قوية وإعتمادات و قدرات مالية كبيرة وزادا بشريا مؤهلا كما يجب و إرادة سياسية صادقة لإحداث ثورة في المنظومة القضائية المهترئة، وإدارة قضائية ناجعة و قضاة و محامين ومساعدي قضاء متشبعين بقيم العدل والعدالة ومتخصصين في كل المجالات القانونية و حائزين على تكوين معمّق .
لذلك لا أتحمّس كثيرا لدعوات تنقيح القوانين دون توفير الإعتمادات الكافية، و دون الإعداد المسبق للبنية التحتية و دون توفير إمكانيات حقيقيّة لتنفيذ القوانين و إحترام ما تم ّ تشريعه بكل حرفية و نجاعة، ودون توفير الزاد البشري والتكنولوجي وتأهيله مسبقا لإستيعاب التشريعات وتمكينه من آليات تنفيذها. والدليل على ذلك أن القوانين المنطبقة اليوم لا تُحترم ولا تُطبّق وحريات مئات و ربّما آلاف الأفراد منتهكة باسم القانون والعديد من الحقوق في مهب الريح. والأنكى والأمر، أنه قلّما يصدر تشريع جديد أفضل من السابق، إلى درجة يستحسن البعض ترديد مقولة « شد مشومك لا يجيك ما أشوم».
إن وضع القضاء لا يريح ،و أن مطمح تركيز دولة القانون والمؤسّسات ما يزال بعيد التحقق، ورغم وضع مؤسسّة المجلس الأعلى للقضاء بغاية ضمان إستقلال القضاء، فإننا توقفنا في حدود الإدارة السيئة لشؤون القضاة ، ولم ير التونسيون دليلا على تحقيق الإستقلالية المنشودة للقضاة ، بل وقفوا على أن أداء القضاء لم يتغيّر بل زاد تقهقرا رغم المجهود الّتي تبذله الأطراف النزيهة الغيورة على قيم العدالة.
ونخلص في النهاية إلى القول في هذا الحيّز الضيّق ،رغم تثمين تحمّس الغيورين على تغيير التشريع لإدراك مقومات المحاكمة العادلة، أن تونس غير مجبرة على أن تعدّل على الدوّام التشاريع وتلفق التشريعات، دون وضع رؤية واضحة للمنظومة الجزائية والمنظومة القضائية ككل تحدث ثورة حقيقية في منظومة العدالة وتجعل الحريات العامة والخاصة وحقوقهم في هرم القداسة الفعلية والناجزة و ليس في المستوى النظري فقط ،و ترك الأثر العاجل قيد نصوص عامّة يضيق تطبيقها في مضيقات الإجتهاد وتشعب الإجراءات .