من مناسبة وضع تشريعات على المقاس سواء لخدمة شخصية سياسية كما حصل لبورقيبة بمنحه الرئاسة مدى الحياة ، أو خدمة مقربين من السلطة أو من العائلة الحاكمة أو لخدمة طرف سياسي أو فئة معينة لغايات سياسية ، من ذلك تشريعات العفو بمختلف مصنفاتها و تحديد سن الترشح للرئاسية أو تحديد مدّة الرئاسة أو اقصاء أطراف سياسية ...
و لكن هذا لا يبرّر سعي الماسكين بالأغلبية البرلمانية و المتحالفين معهم إلى تعديل قوانين اللعبة قبل ثلاثة أشهر من الموعد الإنتخابي ، لاعتقاد التونسيين بأنهم في مرحلة حكم ولت فيها العنجهية السياسية و « الضرب تحت الحزام» وحل فيه الطموح إلى ارساء ديمقراطية مبنية على التنافس النزيه والشفاف.
لقد سبق أن تعرضنا لموضوع تنقيح بعض أحكام قانون الاستفتاء والانتخابات في افتتاحية في 31 ماي الماضي تحت عنوان « مشاريع متأخرة على المقاس» عند اتخاذ قرار إرجاء النظر في مشروع التنقيح لأجل غير مسمّى ، وأكدنا أن الإشكال ليس في اقتراح تنقيح للقانون الأساسي المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء ، و إنّما ما يثير الجدل هو سبب اختيار هذا التوقيت للنظر في هذه المشاريع والتداول فيها قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات . و تساءلنا عن مدى نزاهة طالبي التعديل بعد مرور أربع سنوات و نصف من الدورة النيابية، و بعد أن عرف المشهد النيابي تقلبات و تغييرات في الكتل والائتلافات و أصبحت الأغلبية تخضع لمعادلة غير تلك الّتي أرادها الناخبون في آخر انتخابات أي سنة 2014. و انتهينا إلى أنه رغم التسليم بأنه من الضروري تعديل القانون الانتخابي بالكيفية الّتي تضمن الاستقرار و عدم التلاعب بإرادة الناخبين و التنافس الديمقراطي النزيه ، فإن قواعد تعديل النصوص المنظمة للانتخابات يجب أن تعرض في متسع في الوقت و أن تكون نابعة من تقييم شامل للنظام السياسي و للآليات الّتي تمت تجربتها. وبالتالي يُقرأُ كل تعديل الآن على أنه بحث عن ملاءمة القواعد المقترحة لإرادة الأطراف الأقوى في السلطة و سعي لتطويع الآليات الانتخابية لمن يتحكم في الأغلبية البرلمانية.
لكن كما جرت العادة فإن التحرك والتعبير عن معارضة مشاريع القوانين يتمّ دائما في آخر وقت، وحتى و إن تم التصريح بالمعارضة فإن ذلك يكون بصوت خافت ،و لا يرتفع الصوت إلاّ بعد فوات الأوان، أو عندما ينفض الرافضون أيديهم من نتائج نقاشات لجنة التوافقات .
وما يثير الاستغراب أن التشريع المتعلّق بالاستفتاء والانتخابات تم في 2014 و أدخلت عليه تنقيحات في 2017 و لكن لا أحد أثار مسألة الآجال المتصلة بإدخال التعديلات في المدة النيابية الجارية ، و بقى الأمر مسكوتا عنه من جميع الأحزاب و الكتل بما فيها الأطراف الرافضة للتنقيح اليوم، ولا يعتقد أن يحصل ذلك من المطالبين بالتنقيح بصفة بريئة ،أو نتيجة إغفال عادي .
إن التمسك بتمرير التعديل في هذه الفترة ،تحركه حسابات انتخابية فارقة، ونوايا للتضييق على المنافسين أو سعي لإقصاء بعضهم من المشهد النيابي ، خاصّة بعد الوقوف على نتائج سبر نوايا التصويت الّتي بدت غير مريحة لهم.
لذلك يبدو أن الأغلبية الحالية بمجلس نواب الشعب - انطلاقا من ادراكها لهذه الحقيقة - تريد أن تستغل ظرف تحكمها في الأغلبية لتمرير أي تنقيح تراه يخدم مصلحتها الآنية وربمّا مصلحتها المستقبلية ، استنادا لسبر حظوظها في الاستحقاقات القادمة، و تحسّبا من كسب لمنافسيها .
في هذه الحالة و أمام غياب تنصيص بالتشريع الحالي على الآجال الّتي يجب اعتمادها بخصوص تنقيح النصوص المتعلّقة بالانتخابات والاستفتاء ،وأمام محدودية صلاحيات الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات للاحتكام لرأيها باعتبارها ضامنة لنزاهة الانتخابات، فإنه لا مناص من إقحام الرأي العام و المجتمع المدني في «معركة التنقيح» الذي يتدافع الماسكون بالأغلبية لتمريره ، بنوع من السذاجة السياسية ، لأنهم يبنون موقفهم على قاعدة التسليم بأنهم سيكونون المنتصرين في الاستحقاقات القادمة ،و الحال أن المشهد السياسي لا يزال ضبابيا إلى اليوم ، وبروز ملامح تغير في الخارطة السياسية ، نعتبرها هشّة و قد تكون مبنية على ردود فعل عابرة و بالتالي تكون قابلة للنسف في أي وقت.
و لكن يجدر القول بأن مجرد إقتراح مشروع التنقيح في هذا الظرف يثير المخاوف من المستقبل، لأن هذا التمشي يكشف نوازع تغيير قواعد اللّعبة الديمقراطية ، و الحد الّذي يمكن أن يصل إليه الراغبون في التمسك بالسلطة ، لضمان سيطرتهم و بقاء نفوذهم و دوامها .
و يُفترض أن يتصدى الحزام المدني الحامي للتعامل الديمقراطي و قيم النزاهة والشفافية في الممارسة الديمقراطية، إلى محاولة تغيير قواعد التنافس في «الوقت بدل الضائع» للمدة النيابية. و لكن حالة التشرذم في منظمات المجتمع المدني والهيئات المهنية ذات التقاليد الفاعلة في الشأن العام ، جعلت هذه الأخيرة منكبّة على شؤونها الضيقة و بدت و كأنها غير معنية بما يحصل . و نخص بالذكر هياكل المحاماة و بقية المنظمات المهنية و الجمعيات و النقابات الممثلة للمتدخلين في القضاء ، الّتي أصبحت تدير توابع التأزم والشأن اليومي بأخف الأضرار ، و هو ما يزيد في المخاوف من المستقبل .
إن ما تشهده البلاد اليوم في غياب محكمة دستورية يمكن أن تضطلع بمهمتها الأصلية في مراقبة مدى دستورية القوانين ،و في غياب إعمال القوانين واحترامها ،و في ظل توجهات لوضع قوانين على المقاس ،و في ظل إعتماد تعدّد المكاييل في فتح الملفات أو غلقها أو إخفائها ،و في مناخ الدفاع عن الشيء و نقيضه في فترة قصيرة في وضع غير متغيّر . في ظل كل هذا لا شيء يطمئن على مستقبل الحريات العامة و الخاصة ، ولا شيء يضمن عدم زيغ «سياسي» اليوم عند تسلّم السلطة غدا،عن المبادئ الديمقراطية الهشّة الّتي وضعت على أسس رخوة و غير مؤمّنة ،و لعّل بروز موقف حازم من معارضي خيار التنقيح و من منظمات المجتمع المدني و الهيئات المهنية ، يمكن أن يدفع مجلس نواب الشعب إلى التراجع عن التداول في نقاش المشروع و عرضه على التصويت.