تركيبة المحكمة الدستورية الّتي كانت مطمح أجيال من رجال القانون والحقوقيين المتطلّعين لوضع إحدى ركائز دولة القانون والمؤسسات.
فبعد عسر وضع دستور جديد «أخذ من كل شيء بطرف» وأسس لنظام سياسي هجين ، تتالت مصاعب وضع بقية المؤسّسات المستقلة نظريا ولكنها كانت خاضعة في الحقيقة إلى توازنات حزبية وإلى ضغوطات متواصلة ، كانت المحكمة الدستورية محطتها الأخيرة ، دون نسيان هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة ومتممّات السلطة المحلية الّتي لم يقع النظر فيها بعد مرور خمس سنوات من وضع الدستور الّذي نص على إنشائها.
فالسلطة التشريعية الّتي كانت سيّدة نفسها لمدّة ثلاث سنوات ، أسست لمشروع نظام سياسي يحمل كمّا هائلا من العراقيل و الفخاخ لتبقى الدولة في صراع دائم لحل التناقضات و لتترك المجال لتقنين التفكّك ،و البحث الدائم عن حل الإشكاليات و تجاوز المآزق.
ومثل ذلك ما حصل بخصوص الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات الّتي رغم تسجيل نجاحات أوّلية ، أصبحت محل تجاذب و ضغوطات وخلافات ، أدّت إلى استقالة أكثر من رئيس لها ، و انتهت إلى تركيز هيئة أملتها ضرورة إيجاد حل للإعداد للاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019 ،و شهدنا في الأيام الأخيرة مجريات روزنامة الاستحقاقات القادمة الّتي كانت محل انتقادات لا نعرف كيف سيقع التعامل معها.
و مثل ذلك ما حصل بخصوص العدالة الانتقالية التي تمّ تغييبها في البداية ، ثم تمّ التأسيس لها بقانون شرع لإجراءات و أحكام نسفت جانبا هامّا من المبادئ و الأنظمة القانونية الثابتة ، و كرّست مسارين قضائيين يخضعان لمبادئ عامّة مختلفة ، لذلك نشهد اليوم تتبع من سبقت محاكمتهم على درجتين ، لتقع مقاضاتهم مجدّدا بنفس التهم التي حوكموا بها سابقا . كما شهدنا تمديدا لهيئة الحقيقة الكرامة لمدّة مهامها و كيفية تعاملها مع الأعضاء المنتمين إليها بتأويلات قانونية بعضها مبرّر وبعضها الآخر لا مبرر له.
لن نعود للعفو التشريعي العام و تبعاته وآثاره، و إلى كل التشريعات الّتي عقّدت الحياة العامّة وخلقت وضعيات قانونية صعبة ، بل سنخلص إلى القول بأن السلطة التشريعية ، لم تكن حريصة على صياغة قوانين عامّة ومجرّدة وقابلة للتطبيق، وإنما كانت حريصة على الحفاظ على التوازنات الحزبية وعلى التوافق «المغشوش» بين الأحزاب الماسكة للأغلبية البرلمانية ،مع إبطان كل طرف منها للخروج بخطة في آخر المدّة البرلمانية ، للإعداد للمدّة النيابية اللاحقة والّتي نحن بصدد التهيؤ لدخول غمارها .
بخصوص السلطة التنفيذية الّتى تتقاسمها مؤسسّة رئاسة الجمهورية و الحكومة تحت رقابة مجلس نواب الشعب بدرجات متفاوتة،غرقت هي الأخرى في مخرجات التوافق ، و أحكام ممارسة السلطة في الحزب الأغلبي ، وفي ائتلاف حاكم غير متجانس من حيث التوجهات والأفكار و الأهداف الاستراتيجية ، لذلك تمت إدارة الوزارات بالأهواء و بتقاسم النفوذ و بإملاء نقص الموارد و التأزم المالي و غياب الحلول الاقتصادية الناجعة .
كما تسبب غياب التجانس في الرؤى والتصورات و ترتيب الأولويات، في حصول أزمات اجتماعية ، أدت إلى فرض حلول منقوصة و خلق توتر اجتماعي و فقدان المواطن الثقة في المؤسسات والأحزاب و الأشخاص ،نجم عنه العزوف عن المشاركة في الحياة العامّة و عدم التحمس لأي شعار من الشعارات السياسية، لانعدام مردودها في الحياة اليومية ،و لعدم انعكاس نتائجها إيجابيا على حياة الأفراد و مقدرتهم الشرائية وعلى البطالة وعلى الظروف الصحية والتربية والتعليم ، الّتي شهدت انتكاسة كبيرة .
سوء أداء السلطة التنفيذية ،صاحبه تفشي الفساد في كل المجالات، واستضعاف الدولة ومؤسّساتها ، و تواصل تحدي الدولة والقانون ، أمام سلطة قضائية مثقلة بالملفات والمعوقات اللوجستية ونقص الإطار البشري، والنواقص التشريعية واللّخبطة الّتي خلقتها بعض المؤسسات المستحدثة .
كما لاقى المجلس الأعلى للقضاء بداية مسار صعب ، أفقدته الآلية الانتخابية الكثير من نجاعته ، لخروج هذه الآلية عن معيار الكفاءة في إسناد المسؤولية و خضوعه هو الآخر لتوازنات سياسية تسعى للتحكم في مسيرة القضاة و مسار القضاء، الأمر الّذي أفرغ شعار إستقلال القضاء من محتواه فلم يعد عاكسا لهاجس فرض كلمة الحق والعدالة، ممّا أدى إلى تزايد فقدان الثقة في المنظومة القضائية ، وأصبحت السلطة القضائية سلطات تختلف في الإدارة والأداء بين محكمة وأخرى وبين جهة وأخرى .
إذن يكون الفشل في تشكيل ثلث المحكمة الدستورية في إطار مجلس نواب الشعب حلقة فشل من ضمن حلقات الفشل الّتي شهدتها وتشهدها السلطات الثلاث، و هذا الفشل المشهود ، يعكس عدم رغبة الماسكين بمختلف السلط والأحزاب المسيطرة على المشهد السياسي ، في إنشاء هذه المحكمة الّتي تراقب دستورية القوانين ، لأنهم غير مطمئنين إلى التوازنات الحالية ، وينتظر كل طرف ظرفا أفضل لفرض إرادته .
ولكن ما ينساه السياسيون الحاليون والممسكون بالسلطة ونواب الشعب ، أنهم مطالبون باستعراض إنجازاتهم و نجاحاتهم في الخماسية الجارية ، كي «يلتمسوا» من الناخبين أداء واجبهم الإنتخابي ، ثم تجديد الثقة فيهم وفي أحزابهم و في دوائر ائتلافاتهم ، فبأي حصيلة سيؤثثون منابر دعايتهم ،و بأي وجه سيلاقون من انتخبهم بالأمس، خاصّة وأن مبرّر«المؤقت» قد زال ،و الحال باق على نفس الحال ؟