مسار العدالة الانتقالية: إلى متى و إلى أين المسير ؟

تتصدّر هيئة الحقيقة والكرامة مرّة أخرى الأحداث و لا يتعلّق الحدث هذه المرّة بفترة التمديد أو بالنصاب

القانوني الخاص بعقد جلساتها أو إتخاذ قراراتها أو إقالة واستقالة أحد أعضائها ، و إنما يثور الجدل حول المحاكمات الّتي تتولاها الدوائر المختصة لمسؤولين سابقين في الإدارة والحكومات السابقة . ولم يتوقف الأمر عند إطار المجادلة القانونية وإنمّا تعداه الأمر إلى خلق بوادر شلل ومقاطعة للجلسات العامّة لمجلس نواب الشعب .

ففي مسار ما أسميناه بـ«التمديد الذاتي» في مدّة عملها الّذي اتخذته هيئة الحقيقة والكرامة في 27 فيفري 2018 إلى موفى ديسمبر 2018 بدعوى ضرورة استكمال مهامها في نهاية ماي 2018 ، تولت إحالة بعض الملفات على الدوائر المختصة . و مثل هذه الإحالات ليست جديدة إذ تولت الهيئة بعد يومين من قرار تمديد أعمالها في 2مارس 2018 إحالة أول ملف لها للدوائر القضائية المتخصصة بالمحكمة الإبتدائية بقابس.

و أثارت الاحالة وقتها بعض ردود الفعل ولكن كما يحصل عادة خمدت الانتقادات و تناسى المتابعون الأمر ، كما تناسوا أمر التمديد وردود الفعل «الرسمية» الّتي تراجع وهجها فجأة وتواصل عمل الهيئة و انطفأت «فقاقيع» الرفض فجأة و كأن شيئا لم يكن.

و لكن الاحالات الأخيرة و اتخاذ تدابير تحجير السفر الّتي طالت مسؤولين حكوميين سابقين وتعلّق الاحالات بملفات تم البت فيها قضائيا ، هي الّتي حرّكت الضمائر النائمة الّتي لم تستمع إلى الأصوات الّتي كانت تنادي بخطورة ما تمّ سنه بخصوص صلاحيات الدوائر القضائية المختصة و صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة نفسها

فقد تمّ التنبيه على أعمدة «المغرب» عند النظر في مشروع قانون العدالة الانتقالية و بعد صدوره ،إلى خطورة هذا القانون ، ولكن كان الجميع منهمكين في الشأن السياسي والانتخابي، باستثناء الّذين كانوا يفكّرون في الأطر الموازية الرامية لإضعاف المؤسسات المركزية للدولة وبالخصوص نواب حزب النهضة و حزب المؤتمر الّذين أصرّوا على تمرير مشروع قانون العدالة الانتقالية بصياغته الفضفاضة و بأحكامه المُربكة لمسار القضاء والعدالة عموما.

لم ينتبه المنغمسون في الشأن «السياسوي» إلى مخاطر اتساع صلاحيات الهيئة المحدثة ومن التنازع مع مؤسسات أخرى ، ولا إلى المس من مبادئ ثابتة في مختلف التشريعات بخصوص إتصال القضاء و حق التقاضي على درجتين أو المساواة أمام القانون للجميع و غيرها من الثوابت الّتي يتولّد عن خرقها تداعي المنظومة القضائية وفتح الباب للمظالم و عدم الاستقرار .

فما نشهده اليوم هو نتيجة لغياب إرادة الوقوف ضد تمرير التشريعات بتسرّع و دون تثبت ، وغياب إرادة المراجعة و إصلاح الأخطاء وإجراء التعديلات اللاّزمة في الإبّان ،و هذا الأمر ما زلنا نلمسه في أكثر من مجال ، إذ لا تُعالج الأمور في الحين ، و لا ترتفع الأصوات إلاّ بعد فوات الأوان ، و هذه هي مسؤولية الدولة بمختلف مؤسساتها و الأحزاب و مؤسّسات المجتمع المدني و الهيئات الناشطة في المجال الحقوقي و الحريات .

و ما يثير الاستغراب أن قضاة و محامين ،يتشبّثون بالموقف الخاطئ بدعوى الامتثال للقانون و لو كان النص مخالفا في جوهره لأحكام الدستور والاتفاقيات الدولية ، و لا يكون هذا الإمتثال «الأعمى»لكل القوانين ،و إنّما حسب الأهواء والظروف و مقتضيات المرحلة والمصلحة . بل إن الامتثال يتميّز بالانتقائية لأن بعض الإنتهاكات المرتكبة في المرحلة الّتي يشملها القانون لم تفتح ملفاتها رغم أن القضاء لم ينظر فيها بل إن بعضها لم تفتح فيها أبحاث جدية كالتآمر على أمن الدولة و الإعتداءات على المواطنين و أحداث الرش و غيرها .

ان روح المبادئ الّتي تنبني عليها العدالة الانتقالية ،هي طي صفحة الماضي و إستخلاص الدروس من عواقب الانتهاكات و التنبيه إلى خطورة سياسة الاستبداد و هتك الحقوق والحريات العامّة والفردية ، و هي بمثابة العلاج الإرادي للمنظومات الحاكمة والمتطلعة للحكم ، لذلك يحب أن تعطي المثال على إحترام مبادئ العدل والانصاف و المساواة.
فهذه المنظومة ليست للإنتقام و إنّما للمحاسبة و المعالجة السريعة ثم المرور إلى البناء على أسس صحيحة و يكون من باب الشد إلى الوراء مواصلة الخوض في ملفات سبق فتحها و تجاوزها .

إن ما يجب التسليم به أن تونس فشلت في هذه التجربة و تهرّأت المنظومة في بدايتها، وتعطّل مسارها لأن الماسكين بالسلطة في 2012 و 2013 أرادوها أن تكون على المقاس ، لذلك يكون التمطيط فيها ، هو تعميق للجراح و هو بغاية «الإستثمار» والتوظيف و ربّما الكسب للبعض من باب الحصول على التعويضات عن «النضال السياسي» الّذي تمّ إدراجه في بورصة «القيم المنقولة» للمدّعي النضال و ربّما الجهاد.

لقد أدرك الزمن نهاية مسار هذه المنظومة الانتقائية المتعثّرة و لم ينجح المؤسسون إلا في تمييعها و تجنب أحكامها عليهم و توظيفها لتحقيق أغراضهم والاستفادة منها قدر الإمكان، وما تثيره اليوم من تجاذبات لا يساهم إلاّ في مزيد من الإرباك و صرف النظر عمّا هو أهم وأجدى .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115