على هامش بداية سنة قضائية جديدة : أي دور لأصحاب الشأن في القضاء؟

لا نشهد عدم الرضا على وضع القضاء لدى المتقاضين اللاّهثين وراء حقوقهم والحريصين

على حرياتهم فقط ، بل نجده لدى الفاعلين في هذا المجال، أي من أغلبية القضاة و المحامين الّذين ملّوا انتظار تغيير شأن القضاء و ظروف العمل السيّئة ويتطلّعون إلى الاطمئنان على أوضاعهم ومستقبلهم .و لكن لا نرى تفاعلا لدى السلطة العامة و لدى أطراف فاعلة من أصحاب الشأن ومن هياكلهم، لتغيير الأوضاع السائدة.

فأمر إصلاح شأن القضاء يعود في الأساس إلى الدولة المتمثلة في وزارة العدل ، الّتي تضاءل دورها نظريا في الشأن القضائي ، مقابل توسع دور المجلس الأعلى للقضاء . و لكن ظهر أن التشريع الجديد سحب جانبا من الصلاحيات من وزارة العدل و ألحقة بالمجلس الأعلى للقضاء ، الّذي في غياب الآليات و الإرادة الخلاقة ، بقى يتفرّج غير قادر على أي فعل ، لترابط الصلاحيات وغياب التواصل وانعدام التنسيق، وأصبحنا إزاء صلاحيات موزعة و لكنها متروكة دون أية رعاية من أي طرف .

هذا يعني أن دور وزارة العدل أصبح يقتصر على التوظيف و خلاص الموظفين و القضاة وتسطير السياسة الجزائية و إدارتها إلى حد ما، وإدارة مصلحة السجون و الاضطلاع بمهام التفقد الّتي تكاد أن تكون دون فاعلية في الشأن القضائي الضيّق ،و متابعة شؤون البنية التحتية للمحاكم ،و التصرف في ميزانية يُرصدُ نصفها لخلاص الأجور في حين لا تخصّص للتنمية إلاّ نسبة لا تتجاوز 5،14 % و هي نسبة ضئيلة جدّا أمام الحاجيات المتزايدة لمرفق القضاء و تهرؤ البنية التحية للمنشآت الموجودة و تخصيص نسبة لا يستهان بها لتسوغ مقرّات المحاكم ومصالح أخرى و منها مقر المجلس الأعلى للقضاء . هذا الجانب الفني في الإدارة القضائية ، غيّب متابعة سير القضاء و تنظيم العمل القضائي و هي مهام لصيقة بشأن المتقاضين و بالأداء اليومي وإسداء مختلف الخدمات .و قد أدى هذا إلى تعدّد الاجتهادات و اختلافها و تفاقم الأخطاء و غياب التقييم الموضوعي والعلمي لنجاعة الأحكام التشريعية في مختلف أنواع القضايا ،ممّا زاد في إثقال العمل القضائي اليومي و تطويل آجال الفصل في القضايا و تمطيط آجال تعيين القضايا و التأخير في تلخيص الأحكام و تسليم نسخ منها للمتقاضين و تشعب إشكاليات التنفيذ والتبليغ والتلاعب بها و ما ينجر عن كل ذلك من زعزعة لثقة المتقاضين في القضاء .

وغني عن التذكير أن المسؤولية عن حسن سير المنظومة القضائية لا تقتصر على المجلس الأعلى للقضاء و وزارة العدل كما أسلفنا ، وإنمّا تتوقف على أصحاب السلطة و المهن من قضاة ومحامين وعدول تنفيذ و خبراء عدليين و ضابطة عدلية وكذلك الجمعيات و الهياكل المهنية والنقابية الممثلة للقضاة والمحامين وغيرهم من المتدخلين في هذه المنظومة.
وإذا كان للأفراد مسؤولية شخصية متصلّة بالضمير المهني و النزاهة و إستمرار التكوين ومزيد التسلح بالمعارف ، فإن للهايكل الممثلة بكل تصنيفاتها ،دور فعّال في تطوير العمل القضائي و في المساهمة في المبادرات التشريعية وتعصير أساليب العمل القضائي .

ولكن ما يمكن ملاحظته أن هذه الهياكل متنافرة، لا تضع ضمن أولوياتها، النهوض بالقضاء و تعصيره ، بل نراها تكتفي يإدارة الأزمة والإهتمام بالشؤون الدنيا و الإنكفاء على ذاتها ، متجاهلة حالة التذمر الّتي سادت مختلف الأوساط المهنية ، إلى درجة تغليب المصالح الفئوية والمصلحية الضيقة على هاجس الإصلاح العميق والتغيير الشامل. لقد نسوا جميعا أن دورهم يتجاوز مجرّد تطبيق القوانين المعمول بها ، و الترضيات الظرفية و خوض معارك عابرة في بعض المناسبات ،و ذر التراب على العيون لإقامة أنشطة عابرة دون التكوين الدّائم و دون المساهمة الفعالة في نقاش المبادرات التشريعية خاصة تلك الّتي تتعلّق بالحريات العامة والفردية و بتركيز دولة القانون و المؤسسّات الّتي بدونها ينحسر دور القضاة والمحامين سواء ضمن الهياكل المنظمة للمهنة ، أو في إطار الجمعيات الضاغطة المتطلّعة للإصلاح الشامل . و الدليل على ذلك أن أغلب القوانين الّتي تسنّ لا يثور الصراخ بشأنها إلى بعد صدورها،فنقف على حملات و جوقات تدوم بضعة أيام ثم تختفي كفقاقيع الصابون، و هو أمر لا يتوقف على التشريعات الّتي تهم المتداخلين في العمل القضائي ، وإنما تطال الأحكام الدستورية والقانون الإنتخابي والعدالة الإنتقالية و مقاومة الفساد و الرقابة و تنظيم الشؤون العامة ومختلف الإجراءات الّتي تكون مدعاة للنقد الدائم ، أو الّتي لا تطبّق و تبقى حبرا على ورق .

و المثال الذي يدّل على ضعف فاعلية هذه الهياكل و تخلّيها عن القيام بدورها في شأن من شؤونها ، غياب ردود الفعل عمّا يحصل بخصوص المحكمة الدستورية ، الّتي تعدّ ركيزة أساسية في العمل القضائي و حصنا لضمان حسن تسيير الشأن العام..

والدليل أيضا ،على ضعف الشعور بالمسؤولية غياب ردود الفعل و عدم المساهمة في الجدل الحاصل حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، ونؤكّد ، أنه مجرد تقرير يتضمن تصورات و توصيات وتوثيق لتوصيات ونصوص اتفاقيات دولية ،و ليست مشروعا لقانون . وفضلا على ذلك فإن الأمر لا يتعلّق بالمساواة في الإرث كما رُوّج إلى ذلك ، بل أن هناك مسائل تهم الحقوق والحريات و الإجراءات ، وعقوبة الإعدام و غيرها من المسائل الّتي تعترض مختلف الفاعلين في الشأن القضائي يوميا . أين رأي المجلس الأعلى للقضاء ،في المثالين المذكورين؟ ومجلس الهيئة الوطنية للمحامين؟ ومختلف الجمعيات في القضاء العدلي والإداري و المحاماة ، والنقابات ذات الصلة ؟؟
لا نريد أن نوصّف و لا ندخل في تفاصيل التفاصيل و في قراءة النوايا و الخوض في الخفايا، و إنما نكتفي بالقول : إنه الصمت المطبق. إنه التفرّج المريب.

إن الأمر لا يتوقف على متابعة الشأن العام ، الّذي قد يقول البعض بخصوصه ، بكونه يخرج عن الواجبات المتصلّة بالشأن المهني الضيّق وأن المسالة تخص التشريع ومن متطلبات الحياد والإستقلالية.. إلخ

لتكن تلك ذريعة من لا ذريعة له ، و لكن ماذا عن الشؤون المهنية الضيّقة ؟

إن عدم ارتياح العائلة القضائية يشمل أيضا المحامين المشاركين دستوريا في إقامة العدل . فالشبان منهم يعانون من صعوبات العمل و توفير الضروري لممارسة مهنتهم ،و لم تهتد الهياكل إلى حل لهذه المعضلة، بالرغم أنه من الممكن التفكير في حل يحدّ من تدخل المحامين المرسمين لدى التعقيب في بعض أنواع القضايا ذات الكثافة العددية، وتحديد مجال تدخل المحامين لدى الإستئناف في أنواع أخرى من القضايا، كما هو الشأن في بعض الأنظمة المقارنة . كما يقتضي الإصلاح ترتيب نيابة المؤسسات العمومية بالبحث عن سبل جعل المحامى المتمرن ينتفع من هذا التكليف ، كإلزام المحامين المتعهدين بهذه القضايا بقبول متمرنين يساهمون في معالجة هذه القضايا مقابل منحة .كما يطرحُ النظر في الترفيع في جرايات تقاعد المحامين لتشجيعهم على التقاعد و إعادة تنظيم التقاعد ، إذ لا يعقل أن تكون جراية تقاعد المحامين في حدود 1400 دينار مع الخصم من المورد و لا يتجاوز عدد المتقاعدين بضع العشرات ،و يبقى المحامي مجبرا على العمل من الترسيم إلى اللّحد . ويبقى للحديث بقية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115